البيوت المصرية

تكتظّ القاهرة بالآلاف من المباني السكنية الإسلامية التقليدية. ويمكن الحديث الآن عن العديد من المناطق القديمة في القاهرة والتي تحفل بأنواعٍ مختلفةٍ من البيوت الإسلامية. وعند الحديث عن البيوت المصرية، فإن أوّل ما يتبادر للذهن المشرّبيات، ذلك الطراز البديع الذي اشتهرت فيه البيوت في القاهرة، فضلاً عن مُدُنٍ أخرى كدمشق وجدة.

يتناغم معمار البيوت مع النوافذ والأعمال الخشبية المُتميّزة، فتنجز المشربية الدّور الوظيفي والجمالي. ففي المجال الوظيفي تقوم بدور التهوية والإنارة من خلال تخريمات الخشب المشغولة بعنايةٍ فائقةٍ، كما تَسمحُ برؤية الخارج خصوصًا وأن المشربيات دائمًا تطلّ على الأزقة والحواري والشوارع وتمنع رؤية الداخل، لا سيما المشربيات الموجودة في جدران الطبقة العليا المُخصّصة في البيوت المصريّة للعائلة.. أمّا في الطّبقات الأرضية، فتوجد أقسام البيت المخصصة لإستقبال الضيوف وخدمتهم وتوفير حاجاتهم، إضافةً إلى باحة البيت التي غالبًا ما يكون فيها فسقيةٌ أو أحواض للماء ومزروعات تمنح البيت الخضرة والرطوبة التي تطفئ القيظ في أوقات الحرارة الشديدة وتخفف من وطء الزّحام في المكان. وعمومًا، لا تخرج أقسام البيت الإسلامي المصري عن أقسام البيت الإسلامي المعروفة، وتبقى "المشربية" هي عنوان هذا البيت.

تتميّز العمارة العربية بالقاهرة فيما قبل القرن التاسع عشر بمجموعةٍ كبيرةٍ من الصّفات العبقرية التي تَوصّل إليها الفنّانون والحرفيون التقليديون والتي كانت نتاج خبراتٍ طويلةٍ في التّصميم والممارسة العملية توارثتها أجيالٌ بَعدَ أخرى. ومن أهمّ نماذج عمارة القاهرة القديمة، المنازل الخاصّة التي بقي القليل منها حتّى اليوم يُقاوم الزمن ليحكي قصة نمطٍ مُهمٍ للعمارة التّقليدية.. من هذه الدُّور بيت السّحيمي الذي بنُيِ َفي العام1648 م ثم أضيفت إليه عدّة إضافاتٍ كانت أهمّها في العام 1796.

وبيت السحيمي هذا له خصوصية أثريةٌ مهمّةٌ. فهذا الصّرح الضخم محصّلة لعدة مراحل تاريخيةٍ ومعماريةٍ، ممّا يتطلّب التّدقيق في كشف العلاقات بينها وتفاعلاتها على المستويات المختلفة. وبالإضافة لقيمته الأثرية فإنّه يمثّل نموذجًا مُتكاملاً لبيوت وقصور القرنين السّابع عشر والثّامن عشر، ويقف شاهدًا على تاريخٍ اجتماعيٍ وثقافيٍ لشعبٍ عريقٍ. فبيت السّحيمي نموذجٌ لمساكن القاهرة التّقليدية تتمثّل في سمات عمارة الدّور التّقليدية. ومن هذه السّمات تصميم البيت بما يكفلُ له خصوصّيته، وهي خصوصية تلاشت مع الزّمن بهجر المصرييّن للكثير من الأنماط التقليدية المتوارثة في العمارة.

يقع بيت السّحيمي في قلب منطقة الجمالية، بالقرب من باب الفتوح وباب النّصر وسور القاهرة الفاطمي بحارة الدّرب الأصفر المتفرّعة من شارع المعز، بِحَيّ الجمالية، أقدم أحياء القاهرة. ورغم أنّ عُمرَ البيت لا يتجاوز 350 عامًا، إلاّ أنّ موقعه كان عامرًا بالمباني منذ بناء القاهرة في العصر الفاطمي. وقد وُجِدَ، من خلال حفرياتٍ قام بها مشروع التّرميم في أفنية المنزل، أنّ البناء الحالي يقوم فوق أنقاضٍ وبقايا منازل أقدم منه، وقد ترجع إلى العصر الفاطمي، حيث كان المكان موقعًا للمنحر"المذبح"، أو قد ترجع إلى العصور التالية. ومن المراجع التاريخية يتّضح أنّه بعد هدم المنحر، تمّ بناء عدّة مبانٍ مملوكيّةٍ في هذه المنطقة، من بينها خانقاه ورباط. أمّا في الوقت الحالي فالبيت يقع في قلب منطقة الجذب السّياحي، حيث يجاوره كثير من المباني الأثرية التي ترجع إلى العصور الإسلامية المُختلفة. وبالقرب منه سوق خان الخليلي الشّهير.

بيت السّحيمي شُيّد على عدّة مراحل إلى أن وصل البناء إلى الوضع الحالي. ويتّضح ذلك من الكتابات الموجودة في مناطق مختلفةٍ من البيت وأيضًا من المراجع التّاريخية والدلائل الموجودة في المبنى نفسه. ويُعّد الجزء الجنوبي الشرقي في البيت أقدم أجزاء المنزل، إذ شيّده الشيخ عبدالوهاب الطبلاوي في العام 1648، فيما أُنشِئ الجزء الثاني في العام 1699م وأنشأه الحاج إسماعيل شلبي، ويتضمّن القاعة الرئيسة بالدّور الأرضي. كما كانت إضافاتٌ تمّت في العام 1730م. أمّا المناطق الأخرى في البيت فهي غير مُحدّدة التاريخ.

من ملامح الخصوصية في هذا البيت والتي كانت تُناسب سيّدات الدّار أو مَن يحضِرنَ لزيارة أهله، الأجنحة المُستقلّة ذات الشّرفات والقاعات المُزيّنة بالزخارف والمشربيات التي كانت لا تكشف مَن يجلس في الدار، أسوةً بالطّابع المعماري المحافِظ في البيوت المصرية القديمة.

وفي المقابل كان يتميّز البيت، وما يزال، بما يُسمّى بـ«التّختبوش» وهو جزءٌ مُغطّى مُلحق بالفناء لجلوس الرّجال صيفًا، وبـ«المقعد» وهي شرفةٌ تطلّ على الفناء تستقبل الرياح البحرية، و«ملقف الهواء» وهو سقف مائل مرتفعٌ مُوَجّهٌ ليستقبل الرياح البحرية ويدفع بها إلى الحُجرات الجنوبية لتلطيف الحرارة. ويتّسم البيت بفنون النّجارة التقليدية التي تتمثّل في المشربيات والأسقف والأبواب والدّواليب ذات التعشيقات، وفنون الرخام المُزخرف، وفن النّحت في الحجر، والفناء الخلفي ذو السّاقية والطاحون.

كما يحتوي البيت على نماذج للأسقف الخشبية المُزخرفة وأرضيات القاعات المُزيّنة بالرخام. وتشهد الأبواب والدّواليب بروعة فنون الخشب المُعشّق، فيما تكتمل عناصر البيت المعمارية للدّار القاهرية بوجود السّاقية والطاحونة. وكان لإنشاء البيت داخل أسوار القاهرة الفاطمية سبب في تشييد الحوائط الحاملة والأسس المبنيّة بالمواد نفسها التي بُنيَت بها الحوائط، وهي كانت من أنقاض مبانٍ قديمةٍ. وأثبتت عملية فحص الأساس أن منسوب التّأسيس يختلف من موقعٍ لآخر، ويترواح بين 0.5 مترٍ و3.7 أمتارٍ من سطح الأرض.



دمشق