متحف باردو

لن تكتمل الزيارة لتونس بدون زيارة المتحف الوطني "باردو" من خلال قاعاته المعدة بأحدث نظم العرض للتعرف على حضارات تونس وفنونها. وأجمل هذه الفنون وأكثرها امتدادا وخصوصية وثراء في المتحف الفسيسفاء. فإن موقع تونس على البحر الأبيض المتوسط قد أدى إلى قيام حوار بينها وبين هذا البحر، وبين شماله وجنوبه وجزره، وعمل البحر كجسر بين الشعوب والحضارات، وارتبط تاريخ تونس به منذ أقدم العصور حتى العصر الحديث.

جاء الفينيقيون عن طريق البحر وأسسوا قرطاج في القرن التاسع قبل الميلاد. وكشف الأثريون عن أطلال تؤكد وجود منشأت بحرية وعلاقات تجارية ربطت هذه المدينة الفينيقية بكامل اليابسة المحيطة بالبحر المتوسط وأهلها. وتركت قرطاج شهاداتها على حضارة وفنون كشفت عنها الحفريات. سيطرت قرطاج على غربي البحر الأبيض المتوسط ثم وقع الصدام بينها وبين روما فسقطت قرطاج عام 146 قبل الميلاد، لكن لم تحدث قطيعة مع الماضي. فقد بنيت قرطاج بعد تحطيمها بقرن على يد مدمريها، لتزدهر من جديد. وفي عهد الامبراطورية الرومانية كان في تونس ما لايقل عن مئتي مدينة مزدهرة، وقامت فيها نهضة اجتماعية وفكرية وفنية تمكنت من الصمود أمام تصدع الامبراطورية. ثم توالت الحضارات العربية الإسلامية مع الفتح العربي وجاءها الأغالبة والفاطميين، حتى الحفصيين والعثمانيين والحسينيين.

الوصول من وسط العاصمة تونس إلى باردو، أمر سهل. يكفي أن يذكر الزائر اسم المتحف لسائق التاكسي، ليصل في مدة بين 15 و30 دقيقة حسب الوقت وازدحامه، مروراً بمقر مجلس الشعب. يقع المتحف على مساحة 10895 م2 وفناءات العرض مساحتها 5137م2 منها 115م2 فسيسفاء مفروشة على الأرض. وتم تدشينه عام 1888 ليصبح أقدم وأكبر وأهم متحف في شمال أفريقيا. أطلق عليه بداية في عام 1900 "المتحف العربي"، وفتح للزوار عام 1913 . بعد الاستقلال تم تدشين أجنحة جديدة بالطابق الثاني. وفي عام 1974 عرضت نماذج من الفسيفساء وقطع أثرية من البلور والخزف والنحاس. وفي إطار الاحتفال بمئوية المتحف دشنت قاعة الحضارة الإسلامية عام 1987 وأعيد تنظيم رواق الفنون والتقاليد الشعبية في العام 1988، ثم أعيد تنظيم قاعة الكنوز وجناح الآثار البونية واللوبية. وفي العام 1995 دشنت قاعة جديدة تعرض تقاليد تسريح الشعر عند المرأة الجديدة المستحدث في باردو.

يعرج الزائر في خطواته الأولى بالطابق الأرضي إلى قسم ما قبل التاريخ ليجد قطعاً حجرية متناثرة جمعت من مواقع أثرية من مختلف ربوع تونس، منها بقايا اشكال معمارية قديمة تعود إلى مناطق الوسط والجنوب من البلاد وخاصة منطقة قفصة، وهي منطقة غنية بحجر الصوان، ويطلق عليها الأثريون الرماديات حيث كانت أكداسا من الرماد مخلوطة بالرمل والحجارة والقواقع الحلزونية وتعرض نماذج صغيرة منها. كما توجد قطع فخارية وبقايا من حجرات خاصة بالعبادة والمدافن. فقد كانت هناك قبور محفورة في عمق الأرض نحتت في جوانبها غرف الجنائزي وكان الميت يدفن ومعه أثاث جنائزي من أوعية من فخار وتمائم وأدوات عمل وغيرها من الأدوات التي يستخدمها الناس.

تكاد تكون أكثر مدن تونس القديمة مفروشة بالفسيفساء. وأهم وأكبر مجموعة من لوحات الفسيفساء في العالم يضمها القسم الروماني بمتحف باردو. وقد ولد فن الفسيفساء في الشرق العربي، وعرفه مبدعون في الاسكندرية وأنطاكية، ثم في المدن اليونانية. وفي مدينة كركوان جنوب تونس عثر على أقدم مظاهر هذا الفن، من خلال لوحة تضم علاقة تانيت تتوسط منظرين. وقد نهض فن الفسيفساء في تونس في القرن الثاني الميلادي. وجاءت بعض المشاهد من وحي النيل وضفافه ونباتاته وحيواناته. كما تعكس اللوحات الحياة في المدينة وفي الريف حيث الهدوء وجمال الطبيعة. من أروع هذه اللوحات نجد في متحف باردو لوحة باسم فسيفساء الموالي يوليوس، عثر عليها عام 1920 وتعود إلى فترة ما بين القرنين الرابع والخامس الميلادي. وهي مستطيلة الشكل طولها خمسة أمتار ونصف المتر وعرضها أربعة أمتار ونصف المتر، وهي تمثل قصرا حصينا بشرفات ذات أقواس عالية وحديقة تتكاثر فيها الأشجار. ويلجأ الفنان إلى الإيحاء والاختزال، حيث تتعايش الأماكن والفصول. وبها إشارة إلى رياضة الصيد القنص التي كانت تمثل فروسية ذلك الزمان. أما ربة القصر فنراها بين الاعتناء بجمالها والنزهة في البستان مع رفيقاتها.

عثر على لوحة للشاعر أور جليوس بين أطلال قرب مدينة سوسة عام 1895 وهي تصور الشاعر وهو يحدق كأنه يصغي إلى صوت خفي. وقد نقلت هذه اللوحة إلى متحف باردو. كما توجد لوحة للالهة فينوس تمسك بيمينها مرآة، وبيدها اليسرى ترفع إحدى ضفائرها كما تفعل الراقصات غنجا ودلالا.

رياضة المصارعة في أكثر من لوحة.. وليمة ليلة المصارعة مائدة مقوسة يجلس عليها خمسة ندماء لمشاهدة مصارعة مع ثور. ويلاحظ أن لكل فرقة مصارعة شارة ورمزاً. في الخلف جرة نبيذ يحف بها غلامان يقومان بحركات تشبه الرقص. اللوحة من نهاية القرن الثانى وبداية الثالث.

أسدان يفترسان خنزيرا لوحة تتميز بقوة الايعاز وروعة التصنيع في الشكل واللون. ومن بين روائع فسيفساء باردو لوحة تصور أصناف السفن التي عرفت لدى القدماء أو كما يصفها البعض تبدو كأنها ديوان السفن القديمة: خمس وعشرون سفينة لكل منها اسمها ووظيفتها من تجارية أو عسكرية.

نجد لوحة فسيفسائية عثر عليها في خرائب مدينة عتيقة قرب سوسة تسمى تمطرة تبدو فيها مسرجات فسيفساء جنائزية ولوحة تمثل مكعبات زجاجية كلسية عثر عليها لمدينة طبرق.

تختلف فسيفساء القسم المسيحى في باردو عن الرومانية، حيث تتكون من أرضيات لمبان دينية تعبر عن موضوعات لها صلة بالعقيدة.

في متحف باردو نماذج لقناديل رومانية مزدانة بمشاهد فيولوجية وصور آدمية وحيوانية ونباتية وأشكال هندسية.. كما نجد قناديل من فخار على شكل جمل، وكان الجمل قد دخل شمال افريقيا وانتشر في بداية الامبراطورية الرومانية حتى أصبح الحيوان الأكثر لزوما للحياة اليومية، لا سيما في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية.

بعض الأوعية الفخارية المعروضة تم طلاؤها بطلاء أخضر مزجج له بريق معدني. وقد استخدمت المينا لزخرفتها بعد حرق الطين في التنور. ويقول الباحثون ان هذا يبدو انه من اختراع حضارات وادى الرافدين انتقل فيما بعد إلى مصر القديمة فالأناضول ثم بعد هذا في شمال أفريقيا. وكانت مدينة الجيم التونسية من أهم مراكز هذا النوع من الفخار.

يُبرز النحت الروماني في باردو وهو فن آخر من فنون النحت. ويتواجد فيه تياران: تيار تقليدي متمسك بالماضى وتيار رسمي كلاسيكي تطور بالخصوص داخل المدن. وبعض التماثيل المعروضة في المتحف جاءت من القصور الخاصة بعد هدم قرطاجنة. وكان القرطاجنيون يسبكون تماثيل آلهتهم من الذهب. وتصف الباحثة الاثرية الفرنسية التماثيل الجنائزية بأنها كانت تنحت في أبعادها الثلاثة. وفي المتحف نجد تمثالا لرجل قصير الشعر حليق الذقن وقد رفع يده اليمنى تيمنا وتبركا بينما تضم يده اليسرى صورة لإنسان يحمل شيئاً يبدو وكأنه مبخرة. وتعلق الأثرية الفرنسية عليها بأنها كانت في مدافن قديمة منصوبة على جانب القبور وتصور الموتى على هيئة مثالية تميز بها المتعبد.

يسترعي النظر تمثال هرقل وهو نشوان. فهو تمثال من البرونز طوله 52 سم أحسن الفنان تجسيد ملامحه وعضلاته المفتولة، وشعره المكثف ولحيته الكثة. أما تمثال باخوس طفلا فهو تمثال برونزي آخر صاغه الفنان بمهارة تقنية تمثله في طور النمو.

القطاع العربي والاسلامي في متحف باردو يمتد من الطابق الأرضي وجزء من الطابق الأول في مبنى ملاصق للمتحف، وهو ينقسم إلى قسمين: يختص القسم الأول بالعهد الوسيط الاسلامي ويحتوي على تحف تاريخية مختلفة من حفريات موقعى رقاده وصبرة الأثريين بمنطقة القيروان من أوان زجاجية فاطمية تعود الى القرن الحادي عشر، ونماذج من الخزف المزخرف بعضها بصور أشخاص، واسطرلابات، ونقوشا بالكتابة الكوفية وأوراق مصاحف وكتبا مجلدة، وقطع نسيج يتراوح عهدها بين العصر الجاهلي والعصر العباسي.

في القسم الثانى تشاهد تحفا من النحاس المطروق، ومجموعة من الأسلحة ومن الآلات الموسيقية، ومصنوعات من الفضة وقطعا من الحلى والمصوغات، وعناصر زخرفية من المدن والريف، وأزياء شعبية تمثل الأقاليم التونسية، وكذا أوان خزفية مطلية جمعت من المدن والريف.

نختم زيارة باردو بالقاعة الجديدة الضخمة الخاصة بكنوز المتوسط تحت المائية، وهي كنوز أو كشوف اغريقية لها قصة وتاريخ، تمثل متحفا قائما بذاته. قد اكتشفت في يونيو 1907 عن طريق صيادي الاسفنج. وبين 1908 و 1913 حدثت حفريات تحت مائية باشراف الفرنسيين الفريد مرلان ولويس درابيي، ثم انقطعت وعادت من جديد في 1948، ثم بين 1954 و1955. وفي العام 1988 عقد المعهد الوطنى للتراث بتونس ومتحف بون الألمانى اتفاقية لمعالجة وترميم جزء من التحف المكونة لحمولة سفينة غرقت قرب سواحل مدينة المهدية خلال القرن الأول قبل الميلاد وعرضت هذا التحف في بوغار عاصمة المانيا حينئذ بين سبتمبر 1994، وفبراير 1995، قبل عرضها النهائي في باردو. ونشرت نتائج عملية الترميم مع دراسة للتحف في مجلدين. وقد انجز المشروع بمساهمات تونسية وألمانية عامة وخاصة، وساهمت ادارة المتاحف الفرنسة في انجاز الاضاءة، ودعم المشروع من قبل وكالة احياء التراث والتنمية الثقافية بوزارة الثقافة التونسية.

يعتقد أن هذه التحف جاءت أساساً من بيريه ميناء اثينا بين السنوات 80 و70 قبل الميلاد متجهة على الأرجح نحو السواحل الايطالية، فتعرضت السفينة إلى عاصفة منعتها من عبور مضيق ماسينا فحولت طريقها نحو شمال افريقيا حيث غرقت على بعد 4770 متراً من سواحل مدينة المهدية في عمق 39.50 مترا. وكانت حمولة السفينة مجموعة تحف أعدت لتجميل غرف وحديقة منزل فخم لأحد أفراد الارستقراطية الرومانية.

كل هذه التحف والأدوات يشاهدها الزائر، وكذلك اعمال يدوية ونماذج فخارية كانت ملكا لبحارة السفينة. ومن بين التماثيل تمثال صغير للاله هرمس وهو يسير داعيا بيده اليمنى اتباعه. وتعد قاعدة التمثال البرونزية نموذجا فريدا. أما تمثال ستير فيبدو ممسكا بيده اليسرى وهو يشرب من اناء، ويعد من أقدم نماذج هذا الشخص الأسطوري.

ويشاهد ايضا تمثال نصفي لديونيزوس وهو ملتح ويرجع الى القرن الثاني قبل الميلاد.