المسـجد النبـوي الشـريف

هَدَفَ الرّسول منذ لحظة وصوله إلى المدينة المُنوّرة في السعودية إلى بناء مسجد جامع للمُسلمين. وكان قد اختار المكان المناسب. ثم تتابعت مراحل العمل حتّى تمّ البناء وأخذ المسجد صورته الكاملة قُبَيل وفاته. وقد حافظ الصّحابة والتابعون ومَن خَلَفَهم على هذا التخطيط، بل وقد حذوا حذوه في ما أقاموا من مساجد تفرّقت في آفاق الأرض. وقد كانت المرحلة الأولى في بناء المسجد النبوي الشّريف هي:

1- تحديد المكان الذي يُقام فيه المسجد. 

2- إعداد المكان للوظيفة التي اختير لها.

3- إعداد المواد التي سيتمّ بها بناء المسجد على النّحو المُناسب.

أمّا المرحلة الثانية فقد شملت الجانب العملي التنفيذي وهو:

1- البناء الفعلي ويبدأ هذا منذ لحظة حفر الأساسات التي يُقام عليها المسجد ثم استقامة البُنيان.

2- أدوات البناء حيث تُحضر هذه الأدوات وتُجلَب إلى المكان الذي يُبنى فيه المسجد وربّما تُحضّر في المكان نفسه.

أمّا المرحلة الثّالثة فكانت مرحلة النّظر في ظروف الإستخدام وطبيعتها التّي اقتضت تعديلاً في عناصر المبنى. وقد تمثّلت الظّروف في:

1- عوامل الحرارة مثل حرارة الشّمس في المكان غير المُظلّل ثم برودة الشتاء والمطر.

2- تحويل القبة من بيت المقدس، القبلة الأولى إلى الكعبة.

3- ضيق المكان بالناس في السنة السّابعة للهجرة، والحاجة إلى توسّعه.

كانت هذه الوظائف هي:

1- أداء الصّلوات الخمس جماعةً مع الرسول في حياته وأثناء وجوده في المدينة، أو مع نائبه عندما يخرج لغزوةٍ يرئسها بنفسه أو مع خليفته بعد انتقاله إلى الرّفيق الأعلى.

2- الإجتماع حول الرّسول لتعلّم ما جدّ نزوله من وحي، أو تفهّم أمور التّشريع.

3- الإجتماع عند النّذير أو النّفير عندما يدعو الرّسول لتجهيز جيش الغزوة أو عقد الألوية للكتائب والبعوث والسّرايا.

4- القضاء في أمور المُسلمين فيما يحدث من أحداث.

وقد ظل هذا الأمر طوال عهود الخلافة الراشدية، ثم كان دأب الولاة بعدهم في المدينة والأمصار التي أصبحت عواصم إسلامية بعد اتساع رقعة دولة الإسلام.

مرحلة الإعداد:

كان المكان مربدًا للخيل تقوم عليه أشجار النّخيل وتنتشر فيه الحشائش. فأمر الرسول بالنخيل فقطع، ولم يبعد النخيل المقطوع بل بقي في جوار المكان الذي بني فيه المسجد. وانتُزِعَت الحشائش مع تسيير الماء وجُمِعَت لتُجفَّف وتدخل في تكوين اللّبن. وبعد إزالة المعوّقات صارت أرض المربد فضاءً متسعًا.

مرحلة العمل:

بدأ الصحابة حفر الأرض حول المكان بعمق ثلاثة أذرعٍ لإقامة أساسات الجدران، ثم بُنِيَ الأساس بالحجارة، وفي ذلك فهمٌ معماريٌ واعٍ، لأن اللّبن في الأساسات تفسده المياه الباطنية، فلا يساعد على تماسك الجدران القائمة فوقه. وبينما كان الصحابة والرسول يحفرون الأرض في مواقع الجدران، كان فريق آخر يعدّ اللّبن لبناء الجدران باستخدام الطين ويابس النخيل ومخلفات الشعير أو القمح. إضافةً إلى اللّبن كانت هناك عناصر أخرى استُعمِلَت في عملية البناء هي الحجارة بأنواعها المختلفة من البازلتية، وهي كثيرة في أطراف المدينة، والصخور الجرانيتية والرملية، وقليل من الحجر الجيري، ثم جذوع النخيل التي انتزعت من أرض المربد عند تسويته.

المرحلة الثالثة:

تمّ فيها الشّكل النّهائي على عهد الرّسول، فكان البناء جدرانًا من أربعةٍ بلا سقفٍ. ولمّا شكا الناس من شدّة الحر ثم المطر، أقام الرسول لهم مظلةً من النخل، أعمدتها من جذوع، تحمل عوارض فوقها، ثم جعل على العوارض الجريد والسعف والخصف، ثم جعل فوق كل ذلك الطين المطور.

في سنة 649م، شكا الناس إلى عثمان بن عفان ضيق المسجد فزاد فيه زياداتٍ كبيرةً، وأعاد بناءه بالحجارة المنقوشة، المنحوتة، والقصة، والجص، وجعل عمده من حجارةٍ منقوشةٍ، منحوتةٍ، وسقفه بالسّاج وهو خشب متينٌ معمّر. وكان عثمان يشرف بنفسه على العمل، وفرغ منه بعد عشرة أشهرٍ، وزاد من جهة القبلة إلى ما هو عليه الآن، ولم يزد من جهة الشرق، ولكن زاد من جهة الغرب والشمال فأصبح طول المسجد مائة وستين ذراعًا وعرضه مائة وخمسين ذراعًا. وكان المسؤول عن مباشرة العمل هو زيد بن ثابت.

بقي المسجد بعد ذلك على حاله من عمارة عثمان ما يقرب من ستّين سنة حتّى بعث الوليد بن عبد الملك بمالٍ إلى عامله على المدينة ومكّة، عُمر بن عبد العزيز، وأمره بإعادة بناء المسجد وتوسعته. وبدأ العمل حتى فرغ من العمارة سنة 709م. وكان القائم على شؤون العمارة صالح بن كيسان معلّم عمر بن عبد العزيز ومؤدبه. وجُعِل للمسجد أربع مآذن وأُقيم في جدار القبلة أوّل محراب مجوّف. وأصبح المسجد في مساحة مائتي ذراعٍ طولاً ومثلها عرضًا. وبذلك يكون قد أدخل مساكن أمّهات المُسلمين فيه ومن بينها حجرة عائشة التي دُفِنَ فيها الرسول الكريم وصاحباه أبو بكر وعمر والدّور المجاورة للمسجد.

وفي عهده أعلن العاهل السّعودي الملك عبد العزيز، سنة 1948-1949م، بيانًا على العالم الإسلامي بيّن فيه عزمه على توسعة الحرم المَدني. وقد بدأت أعمال التّوسيع عام 1950م. وقد أصدر الملك أوامره بالإبقاء على العمارة المجيدية لجمالها وفخامتها وتمّت الزيادة فيما وراءها. وكانت زيادة الملك عبد العزيز أكبر مساحةٍ أضيفت إلى رقعة المسجد منذ السنة السابعة للهجرة.

في هذه العمارة الواسعة حُشِدت كلّ الوسائل الهندسية والتّقنية من دون المساس بالتوازن الجمالي لإمتداد المسجد القديم وتوسّعاته السابقة ليكون البناء قابلاً للتوسعة رأسيًا وأفقيًا لمضاعفة طاقة استيعاب المسجد وساحاته. وقد زادت مساحة العمارة المُغطّاة والمسقوفة بالسقوف والقباب المتحركة من 16500 إلى 165000 متر مربعٍ، مكيّفة صيفًا وشتاءً من دون تنافر بين طراز الزيادة وعناصر الفن العربي والتركي في الزيادات السابقة، مع إضافة ست مآذن جديدةٍ موزّعة على أركان الزيادة، شامخة الإرتفاع لتُرَى من آفاقٍ بعيدةٍ.