لبنان بين الحرية الاقتصادية والتوجيه الاقتصادي

د. سمير المقدسي

دكتور في الاقتصاد ومدرس الاقتصاد في الجامعة الاميركية في بيروت

نشر هذا المقال في كانون الثاني / يناير 1961 ، العدد الثالث ، الرائد العربي

من المعلوم ان معظم النظم الاقتصادية السائدة في العالم ، باستثناء تلك التي في الكتلة الاشتراكية ، تتصف بازدواجية النشاط الفردي والنشاط الحكومي في المجالات الاقتصادية . وقد تتفاوت الاهمية النسبية لكل من هذين النشاطين في شتى الاقطار نظراً لاختلاف الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية ولاختلاف الفلسفات والطرق المتبعة في معالجة مسائل النمو . غير ان التدخل الحكومي ، او اذا شئنا ، المساندة الحكومية ، هي ظاهرة عامة قويت الى حد كبير في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية . ولعل الحرية الفردية التامة في المجال الاقتصادي لم توجد قط خارج الكتب والمؤلفات النظرية ، بل كانت هنالك نظم شملت القطاع الخاص الى جانب القطاع العام ، وإن تغير مع الزمن مدى نشاط كل منهما .

ترتكز الحرية الاقتصادية من الناحية الاقتصادية على عوامل عديدة نذكر منها اثنين رئيسين ، أولهما حرية الفرد والجماعات في استخدام امكانياتهم الاقتصادية من عقلية ومادية كيفما شاؤوا ، شرط عدم التدخل الحكومي في اوجه النشاط الاقتصادي القائم ، بل حصر اعمال الدولة بقضايا الامن والحفاظ على الملكية الفردية وغيرها من الترتيبات الضرورية لاقرار النظام في المجتمع . فالكيان الاقتصادي له قوانينه الخاصة التي يجب ان يسري مفعولها من دون اي تدخل من الخارج اذا اردنا ان نوفر للمجتمع أعلى مستوى ممكن من الازدهار والرخاء . وبكلمة اخرى ، ان النظام الحر يكرس المجهود الاقتصادي للعمل الخاص ضمن اطار من التشريعات الحكومية التي تضمن لهذا العمل الجو الملائم من استقرار وطمأنينة وعدم غمط لحقوق الاخرين . ونضيف ، ان النظرية الاقتصادية المدافعة عن النظام الحر تشترط من اجل تحقيق أعلى مستوى ممكن من الازدهار وجود المفترضات التي تفسح في المجال لشبكة الاسعار Price Mechanism للعمل من دون عائق ، أي انها تفترض وجود حالة التنافس الكامل Perfect Competition .

وإذا استثنينا النظرية الماركسية الداعية الى استيلاء الدولة على كامل وسائل الانتاج ، فان باقي النظريات القائلة بالتدخل الحكومي ترتكز على الاساسين التاليين : اولهما ، ان افتراض حالة التنافس الكامل غير واقعية وبالاخص في البلدان المتخلفة اقتصادياً . فالجهل وسيطرة الاقلية في بعض مجالات العمل ، وسيطرة البعض على البعض الآخر ، وتدخل العوامل السياسية والاجتماعية في المجاري الاقتصادية وغيرها تجعل حالة التنافس الاقتصادي بعيدة جداً عن الكمال وتبرر التدخل الحكومي المباشر وغير المباشر لتصحيح الاوضاع وفقاً للمصلحة العامة . وثانيهما ، حتى ولو افترضنا وجود إطار إقتصادي يضمن حرية واسعة لشبكة الاسعار، أي يضمن عملها من دون عوائق خارجية وداخلية مؤثرة ، فإننا قد لا نستطيع الركون لنتائج العمل الفردي . فالذي يوجه النشاط الخاص ، في أغلب الاحيان ، هو الرغبة في جني الربح . هذه هي مصلحة الفرد او مصلحة جماعة معينة من الافراد . ومصلحة الفرد قد تتضارب مع مصلحة المجموع . فما قد يبرر عمله على الصعيد العام قد لا يبرر على الصعيد الخاص . فالافراد يوظفون اموالهم حيث يكون معدل الربح اوفر ، ولا يوظفون أموالهم في اي مجالات لا تعطي ربحاً ، واذا أعطت تكون أقل مما بوسعهم ان يجنوه في مجالات اخرى . على ان هذه المجالات غير المرغوب فيها ، من وجهة نظر الفرد ، قد يكون استغلالها ضرورياً لنمو البلاد في المدى البعيد . إذن ، على الدولة ان تحاول استغلالها او ان ترغب وتشجع الافراد على استغلالها . كما ان مصلحة البلاد قد تقضي بتشجيع نوع معين من النشاط الفردي على حساب نشاط آخر ، فتضطر الحكومة ، لبلوغ أهدافها ، استنباط التشريعات التي تشجع النشاطات المرغوب بها وتضعف النشاطات غير المرغوب بها .

إن منطق التدخل الحكومي يبرره عدم بذل نشاط فردي ، او بذل نشاط ضعيف ، في مجالات اقتصادية تعتبر ضرورية بالنسبة لنمو البلاد . ولا شك ان النظريات الداعية الى التدخل الحكومي ، او المساهمة الحكومية ، أكثر واقعية واقوى حجة من تلك التي تحارب اي تدخل او مساهمة مهما كان نوعها . ولكن علينا ان ننبه هنا الى ان هذه المساهمة لا تشكل في اساسها تحدياً للعمل الخاص او منافسة تهدف الى قتله ، بل العكس هو الاصح . فالمساهمة الحكومية يجب ان تشكل حافزاً للعمل الفردي ضمن المصلحة العامة . فالقطاعان الحكومي والفردي يتممان بعضهما بعضاً ، او على الأقل هكذا يجب أن يكونا لأن متطلبات النمو تدعو الى هذه الازدواجية في تنظيم العمل .

والان ، ما الذي يحدد مناطق او عمليات التدخل الحكومي ؟ . هناك مقاييس عديدة قد تؤخذ بعين الاعتبار . وسنكتفي هنا بالقول ان الهدف من التوجيه هو الاستغلال الكامل للطاقات الاقتصادية بحيث يؤمن للمجتمع أعلى مستوى من الانتاجية ضمن الامكانيات المعطاة . وقد يضيف البعض الى ذلك ، تأمين أفضل توزيع للدخل ايضاً . لكننا آثرنا أن نترك جانباً قضية التوزيع لما يرافقها من تعقيدات لا مجال لبحثها الآن . وضمن هذا التحديد يوجد ثلاث نقاط يجب ابرازها وهي :

اولاً – على الدولة ان تحدد ، ولو بصورة عامة ، سرعة النمو المرجو والممكن ، وبالتالي نسبة الدخل الوطني الموظف وكيفية توزيعه .

ثانياً – ان عمليات التوجيه يجب ان تكون متناسقة فلا تتضارب في مفعولها .

ثالثاً – على العموم ، فان النشاط الحكومي يشتد حيث يخف النشاط الفردي او حيث تقضي الحاجة بالتأثير على مدى العمل الخاص .

وقد يكون التدخل او التوجيه الحكومي إما مباشراً واما غير مباشر . ونعني بالتدخل المباشر استملاك الدولة لعمليات الانتاج ، او المساهمة مع الرساميل الخاصة في استملاك هذه العمليات بينما نعني بالتدخل غير المباشر جميع التشريعات الاقتصادية والمالية وكل النشاطات الحكومية التي تهدف الى التأثير على عمليات الانتاج بطرق غير مباشرة .

اذا نظرنا الى الاقتصاد اللبناني في فترة ما بعد الحرب ، فماذا عسانا ان نقول عن حريته وتوجيهه ؟ . لا شك ان الحرية الكاملة للعمل الفردي لم تكن موجودة ، بل كان الاقتصاد موجهاً الى حد ما بطرق معظمها غير مباشر . وكانت قد ظهرت بوادر العمل الحكومي في بادىء الامر في الحقول التجارية والمالية . ولا غرابة في ذلك ، فالجهازين المالي والتجاري كانا أثناء الحرب تحت السيطرة الاجنبية الفرنسية . فما ان استقلت البلاد حتى قامت الحكومات الوطنية المتعاقبة باجراء مفاوضات مع السلطات الفرنسية لتحرير الاقتصاد من السيطرة الفرنسية . وكانت النتيجة ان إستقل النقد اللبناني ، وان إبقي على امتياز مصرف سوريا ولبنان الخاص ، ذي الرأسمال الاجنبي ، كمصرف اصدار تحت اشراف الحكومة . عندها انتقل للدولة حق الاشراف على جميع اجهزة القطع والتجارة الخارجية . وقد اتبعت الدولة سياسة تحرير القطع والمال من القيود الحكومية حتى أصبح لبنان سوقاً حرة للقطع النادر ولتنقل الرساميل منه واليه . كما ان القيود المفروضة على التجارة الخارجية خففت فأصبح الاستيراد ، عدا بعض السلع ، حراً الى حد بعيد بالرغم من التشريعات الحكومية التي قضت بوجوب الحصول على رخص استيراد او في التشدد في منحها .

ظهر التدخل الحكومي في ما صدر من تعريفات جمركية على البضائع المستوردة . وقد يقال ان الهدف الاول من التعرفة كان جباية الاموال . وهذا صحيح . ولكن فرض هذه التعريفات ، بغض النظر عن الهدف منه ، يعتبر تدخلاً في الشؤون التجارية . كما ان الحماية لم تكن مفقودة تماماً . فصناعات المأكولات والنسيج والاحذية وغيرها حظت بحماية تراوحت بين 40 و 50 بالمئة في حين أخضعت معظم المستوردات الاخرى لضريبة بلغت 25 بالمئة ، وأعفيت بعض المواد الأولية او خفضت الضريبة عنها (1) . وهذا الاتجاه في السياسة الجمركية لم يتأثر عملياً ، الى حد كبير ، بمعاملة الافضلية لبلدان الجامعة العربية .

شملت التشريعات الحكومية جميع القطاعات الاقتصادية . وأكثرها كان يهدف الى تنظيم اطار العمل لمنع التلاعب والغش والاضرار بالمصلحة العامة . وقليل منها كان يهدف الى التأثير على نوعية التوظيف ، كالتشريعات المتعلقة بحصر الدخان ، وتلك التي تعلقت باعفاء الشركات الجديدة من ضريبة الدخل لمدة ست سنوات ، في حال ان وظفت هذه الشركات رساميل معينة بانتاج جديد وعينت في اداراتها ومعاملها عدداً معيناً من العمال . وقد هدف حصر التبغ والتنباك ، بغض النظر عن أسبابه ، لقطع الطريق على توظيف رساميل لشراء التبغ واللفائف وبيعه خارج نطاق ادارة الحصر . كما ان اعفاء الشركات الجديدة من بعض الاعفاءات لم يهدف الى تشجيع التوظيف المالي في مجالات انتاج وعمل جديدين فحسب ، بل الى تشجيع تأليف شركات مساهمة تضم اكبر عدد من المتمولين والمستثمرين وتخلق فرص عمل جديدة .

المهم ، ان الاطار التشريعي للحياة الاقتصادية لم يحد من حرية العمل والتوظيف الفردي ، باستثناء حالات قليلة . ولم بفاضل ، في أغلب الاحيان ، بين مجال اقتصادي وآخر . واذا حدث أن فاضل ، فالمفاضلة كانت محدودة ، باستثناء بعض تقييدات في مجال التجارة الخارجية . ويمكن القول إنه ، في ما عدا سياسة الحماية لبعض الصناعات الوطنية ، لم يلعب التوجيه الحكومي غير المباشر دوراً ذا أهمية في الاقتصاد اللبناني . كذلك لم يستهدف التركيب الاساسي لنظام الضرائب اية سياسة اقتصادية معينة إلا اذا اعتبرنا ان النظام الضرائبي الذي تقع نسبة كبيرة من كلفته على عاتق المكلفين من ذوي الدخل القليل او المتوسط ، هو النظام الأفضل للبنان . والارجح ان هذه الفذلكة غير واردة . وكل ما في الامر ، ان الحكومة قد حافظت على المميزات الاساسية لنظام الضرائب كما ورثته من حكومة الانتداب وأدخلت عليه بعض التغيرات البسيطة .

يظهر الدور الحكومي المباشر في الحياة الاقتصادية باستملاكها لبعض وسائل النقل كالسكك الحديدية والترام وسواها من الشركات ذات المنفعة العامة كالكهرباء والماء ( وان لم تشملها كلياً ) ، وفي منحها بعض القروض المالية بواسطة مصارف حكومية مثل المصرف الزراعي ومن بعده المصرف الزراعي والصناعي والعقاري ، وفي انشائها لبعض مشاريع الري وتقديمها الارشادات الفنية للمزارعين والصناعيين ، وشق الطرق وتعبيدها ، وغير ذلك من اعمال عمرانية مباشرة . ويتلخص الدور الحكومي في هذا الصدد ، بما يلي:

اولاً – ابقاء الجزء الاكبر من وسائل الانتاج في أيدي الافراد والشركات الخاصة . فوحدات الانتاج الصناعية ومعظم وحدات الانتاج الزراعي والجزء الاكبر من عمليات النقل يشملها القطاع الخاص . أضف الى ذلك ان جميع الاعمال التجارية والمالية ، عدا المصرفين المذكورين آنفاً ، أنشئت برساميل خاصة .

ثانياً – إن أثر التدخل الحكومي في اعمال القطاع الخاص كان على العموم محدود الدور والاهمية .

هكذا كان ولا يزال وضع الاقتصاد اللبناني بين الحرية والتوجية . واذا وصف هذا الاقتصاد بالحر فلا يعني ذلك عدم التدخل الحكومي ، بل يعني ان أثر المساهمة الحكومية كان أضعف بكثير من أثر النشاط الفردي في تنمية الحياة الاقتصادية ، او ان معظم الطاقات الاقتصادية قد استغلت على الصعيد الخاص وعلى اساس جني الارباح من دون ان يكون للدولة اثره الكبير في توجيه هذا الاستغلال . ولن يكون بوسعنا ان نحدد التأثير غير المباشر في الاقتصاد اللبناني ، مهما كان ، لذلك نكتفي بتحديد أهمية القطاع العام من حيث مساهمته في الدخل الوطني . وتدلنا الدراسات المتوفرة على ان معدل نسبة هذه المساهمة قد بلغت في الاعوام 1953 – 1957 نحواً من 6 الى 7 بالمئة من المجموع العام فقط.

شهد
لبنان بعد الحرب العالمية الثانية نمواً إقتصادياً حثيثاً والدلائل على ذلك كثيرة بالرغم من ان بعض الاحصاءات المتوفرة لا يمكن الاعتماد عليها كلياً . ومن هذه الدلائل مثلاً ان قيمة الانتاج الصناعي ، بقياس الاسعار الجارية ، قد ارتفع من 190 مليون ليرة لبنانية عام 1947 الى 400 مليون ليرة لبنانية عام 1957 ، بينما ارتفعت الاموال الموظفة في الصناعات المختلفة في الفترة ذاتها من 110 مليون ليرة لبنانية الى 375 مليون ليرة لبنانية . وفي عام 1959 ارتفعت هذه التوزيعات الى 434 مليون ليرة . وارتفعت المساحة الاجمالية لرخص البناء الممنوحة في بيروت وحدها من 235 الف متر مربع عام 1950 الى 590 الف متر مربع عام 1959 . وازداد معدل قيمة السلفات والسندات المحسومة من حوالى 167 مليون ليرة لبنانية عام 1950 الى 680 مليون ليرة عام 1959 . وازدادت قيمة الترسمل السنوية من حوالى 120 مليون ليرة لبنانية عام 1948 الى حوالى 225 مليون ليرة عام 1956. على ان نسبتها لمجموع الدخل لم تتبدل كثيراً . وهنالك دلائل اخرى يمكن الاستشهاد بها كنمو الاعمال المصرفية والتجارية وتحسن وسائل الانتاج وغيرها . واجمالاً تظهر تقديرات الدخل الوطني المتوفرة على ان معدل نمو الدخل ، مقاساً بالاسعار الجارية ، قد قارب 5 – 6 بالمئة في الفترة 1950 – 1957 . واذا افترضنا ان معدل ازدياد السكان قد بلغ 2 بالمئة ( وهذا الافتراض مبني على احصاءات لا يمكن الركون اليها كلياً ) ، فان نمو الدخل بالنسبة للفرد ، مقاساً بالاسعار الجارية ، يكون قد قارب 3 –4 بالمئة . ولكن اذا عدلت تقديرات الدخل بالارقام القياسية للاسعار يكون معدل النمو الحقيقي أكثر من ذلك حيث ان معدل الاسعار في الفترة 1950 – 1957 كان يميل الى الهبوط . إلا أننا لن نعتمدعلى ما لدينا من الارقام القياسية للاسعار في سبيل قياس نمو الدخل الحقيقي لعدم صلاحها لهذا الغرض. انما سنفترض ان معدل نمو الدخل الحقيقي بالنسبة للفرد قد قارب 4 – 5 بامئة سنوياً .

اذا صح هذا الافتراض يكون الاقتصاد اللبناني قد سجل تقدماً كبيراً في الفترة المذكورة . وحتى لو اعتمدنا فقط قيمة ازدياد الدخل بالاسعار الجارية نرى ان معدل النمو كان حثيثاً . اذن لماذا لا نترك السياسة الاقتصادية على ما هي عليه ( هذا ، اذا شئنا ان نفترض ان هناك سياسة اقتصادية واضحة المعالم ) وان نكتفي بالدور الذي لعبه ويلعبه كل من القطاع الخاص والقطاع العام ؟ . وبكلمة اخرى ، هل يحتاج الاقتصاد اللبناني الى توجيه حكومي أقوى أثراً أم ان العمل الفردي وحده بوسعه ان يواصل مهمة النهوض الاقتصادي كما ينبغي وكما يجب؟ .

لو شئنا ان نحلل هذه الاسئلة تحليلاً علمياً لاقتضى ذلك أبحاثاً مستفيضة من الناحيتين النظرية والعلمية . ولكننا سنكتفي هنا بتحليل عام لاهمية التوجيه وأهمية الحرية في نمو الاقتصاد اللبناني مبنياً على الملاحظات التالية :

اولاً – إن معدل النمو الذي شهده لبنان لا يشكل بحد ذاته قياساً لوجوب او عدم وجوب تدخل حكومي على نطاق واسع . فقد يكون هذا النمو الحثيث نتيجة عوامل خارجية طارئة وليس ثابتة . او قد يرجع الى وجود مجالات للعمل الاقتصادي لا تتطلب توظيف رساميل ضخمة نسبياً ( وقد تكون هذه المجالات قد استغل معظمها ) . او قد يكون النمو نتيجة نشاط فردي لا خوف عليه بغض النظر عن اي اعتبار آخر . ومهما كانت العوامل ، وهي كثيرة ، ومهما كانت سرعة النمو ، فان للتوجيه مكانه في الاقتصاد ما دامت بعض امكانيات البلاد غير مستغلة ، وما دام بوسع التوجيه ان يؤمن للاقتصاد مستوى أعلى من الانتاجية . ولربما أضفنا مستقبلاً أفضل من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية .

هذا هو الواقع في لبنان . ومرده الى اخفاق السلطات العامة في تأدية ما كان مطلوباً منها . فالعمل الفردي كان ناجحاً على العموم في شتى المجالات الاقتصادية . لكن نجاحه لا يعني ، كما ذكرنا ، حتمية الاستغلال الكامل والافضل لطاقات البلاد . فالوصول الى هذه الغاية قد يتطلب مجهوداً حكومياً خاصاً . اننا لا نقول ان الدولة قد أخفقت كلياً لانها قد ساهمت الى حد ما في تطوير الاقتصاد الوطني . إلا أنها أخفقت في تحقيق ما كان بوسعها ان تفعل ، وما كان يجب ان تحققه في فترة ما بعد الحرب .

ثانياً - إن القطاعين الخاص والعام يتممان بعضهما بعضاً ودورهما الاساس أن يتساندا لا أن يتضاربا .

ثالثاً – إن تحديد الدور الذي يجب ان يلعبه القطاع العام لا يخضع لمقياس جامد . فهو قد يختلف من فترة الى أخرى ، ومن مجتمع لمجتمع ، حسب تطور البلاد اقتصادياً واجتماعياً . على ان ذلك لا ينفي ضرورة التحديد او ضرورة رسم منهاج عمل حكومي ينفذ ضمن مهلة معينة من الزمن .

اذا صحت هذه الملاحظات ، فاننا نرى ضرورة ازدياد دور الحكومة التوجيهي في الاقتصاد اللبناني . فهناك قطاعات الزراعة والمواصلات حيث ينتظر من الدولة متابعة العمل فيهما . فالزراعة بحاجة الى مشاريع ري على نطاق واسع . والمزارعون بحاجة الى التسليف والارشاد الفني على اساس واسع . اما شبكة الاتصالات فيجب ان تعمم في جميع اطراف البلاد بصورة مرضية . ومن المعلوم ان تقوية الانتاج الزراعي وتسهيل نقل الانتاج هما من الضروريات الاساسية لنمو البلاد ولتقوية مرونة العرض في القطاع الزراعي وغيره ، وبالتالي المساعدة في مقاومة ارتفاع الاسعار الذي قد ينتج عن بعض عوامل النمو . وهناك مجالات اخرى تتطلب التوجيه والعمل الحكومي وبخاصة في قضايا المال ( كإنشاء المصرف المركزي وتملكه وتعزيز مصادر التسليف وتقويتها ) . أضف الى ذلك ضرورة توسيع شبكة الكهرباء وانشاء المعاهد الفنية والمدارس والمستشفيات وغيرها .

هناك ايضاً التوجيه غير المباشر . فنظام الضرائب يجب ان يعدل ، لا ليدر على خزينة الدولة مالاً أوفر فقط، بل لينشط كذلك العمل الفردي في المجالات التي تعتبر مهمة ومربحة . أي أن الضريبة يجب ان تصبح اداة فعالة تعمل لصالح النمو العام . وهناك تشريعات أخرى ، لا مجال لتعدادها الان ، قد يصح النظر فيها لتصبح أكثر ملاءمة مع تطور البلاد .

القطاع الحكومي مدعو اذاً للقيام بدور أكبر وأهم مما قام به ، ويقوم به ، حتى الآن . و هذه الدعوة لا تتضارب في اساسها مع المجهود الخاص . فمعظم المجالات التي خصصت للعمل الحكومي هي مجالات لم يدخلها النشاط الفردي ، وان دخلها فقد كان ذلك على مستوى متواضع وغير كافٍ ، رغم كون هذه المجالات من الضروري تطويرها . ويشكل تطورها حافزاً للنشاط الخاص في العديد من المجالات الاقتصادية . ألا يستفيد الصناعيون وغيرهم ، مثلاً ، من اتمام شبكة المواصلات وتعميمها وتطويرها ؟ ألا يستفيد المزارعون وغيرهم من تنشيط الانتاج الزراعي وتقويته بواسطة شبكات الري ؟ ألا يستفيد التجار وغيرهم من رفع وتيرة الانتاج وتحسن القوة الشرائية ؟ أجل يستفدون . لكنهم ، كأفراد ، لا يقدمون على الاستثمار فيها لانها قد لا تدر عليهم ربحاً يستهويهم ، إن لم نقل انها قد تؤدي الى خسائرلا يتمكنون من تحملها على المستويين القريب والبعيد . لذلك يبقى على المجموع ، الممثل بالحكومة ، ان يخوض غمار هذه الاستثمارات وان يحاول النجاح حيث يفشل الفرد . هذا ما تتطلبه مصلحة البلاد ، وبطريقة غير مباشرة ، مصلحة الاكثرية الساحقة من الافراد . وقد تضطر الدولة احياناً الى التضحية بمصلحة فرد او جماعة ، مباشرة او غير مباشرة ، في سبيل صالح المجموع .

فإذا إرتأت الحكومة ، مثلاً ، ان مصلحة البلاد تقضي برفع الرسوم الجمركية على بعض الاصناف المضاربة للانتاج الوطني ، فمن المؤكد ان يطال الضرر مستوردي هذه الاصناف ، ولو جزئياً وفي المدى القريب فقط. نقول في المدى القريب لأنه قد يكون بوسع هؤلاء المستوردين ان يحسنوا وسائل تصريف بضائعهم او ان يوجهوا نشاطهم الى مجالات اخرى . وقد نعكس المثل فنقول ان مصلحة البلاد تقضي بتخفيض بعض الرسوم الجمركية مما يلحق ضرراً بمصلحة بعض الصناعيين في المدى القريب . فيتوجب على هؤلاء الصناعيين ان يرفعوا من جودة انتاجهم او ان يحسنوه ، والا فعليهم ان يوجهوا نشاطهم نحو مجالات اخرى . وحيث تتعارض مصلحة الفرد مع مصلحة المجموع ، يكون على الفرد ان يضحي في المدى القريب ، حتى اذا اقتضى ذلك ان يوجه نشاطه نحو مجالات اخرى مثمرة . علينا ان نشدد ، هنا ، ان دور الحكومة الاساس في النمو الاقتصادي ليس وليد تطورات يومية ، بل يجب ان يكون مدروساً درساً وافياً وشاملاً لحقبة معينة من الزمن . يجب ان يكون هنالك مخطط اقنصادي واضح المعالم ومتناسق مع بعضه البعض ، لكنه في الوقت ذاته ، مرن بحيث يسهل تعديله تحسباً لأي طارىء لم تحسب له السلطات المسؤولة حساباً ولا تنبأت به .

إن عوامل التكاتف والمساندة بين القطاعين العام والخاص أقوى بكثير من عوامل التضارب ، هذا في حال الافتراض ان السياسة الحكومية مبنية على أسس علمية ومنطقية وان الدوائر المسؤولة جادة في تطبيق ما تتخذ من مقررات اقتصادية . كما ان نطاق العمل الحكومي ونوعه قد يتبدلان بين فترة واخرى ، تبعاً لتطورات البلاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية . والهم اننا عندما نتكلم عن التوجيه الحكومي والحرية الفردية في الاقتصاد ينبغي ألا نتصور حتمية التضارب بينهما ، كما يتصور الكثيرون ، بل على العكس من ذلك ، يجب ان نتفهم حقيقة التعاضد بينهما وان نرسم خطتنا الاقتصادية على ضوء هذه الحقيقة .

________________________________________________________________

(1) تجدر الملاحظة هنا ان التعرفة تحسب على أساس السعر الرسمي للقطع والذي ينخفض عن معدل السعر الحر بنسبة تتراوح بين 30 و 40 بالمئة ، أي ان فعالية الحماية أقل مما يبدو من التعرفة المفروضة .