مشكلة النقد في لبنان

الياس سابا

استاذ الاقتصاد المساعد بالجامعة الاميركية في بيروت

نشر المقال في شباط / فبراير 1961 ، العدد الرابع ، الرائد العربي

مقدمة

يعتز اللبنانيون بقوة نقدهم شبه الاسطورية ويعتبرونها مظهراً أميناً من مظاهر مناعة لبنان الاقتصادية وسبباً جوهرياً من أسباب رفاهيتهم المادية . واللبنانيون عموماً قلما يفاخرون بما أحرزوه كشعب وكمجتمع منذ الاستقلال ، وبمعزل عن أي تأثير خارجي ، حتى ولو غير مباشر ، مثلما يفاخرون بما تمكنوا بدهائهم وقدرتهم من تحقيقه في الحقل الاقتصادي . فالجهد هنا والتفوق لبنانيان حتى القعر ، لا يشوبهما تأثير غريب(1) .

فلقد كان اللبنانيون منذ القدم أشهر التجار ولا يزالون يقدمون البرهان على تفوقهم هذا . صحيح أنهم علموا العالم صناعة الحرف ، ولكنهم تخلوا عنها بعد ذلك لغيرهم . أما في التجارة وكسب العيش ، فهم ولا شك دوماً مجلون ، يفسر ذلك طبيعتهم الخاصة ومركز بلادهم الجغرافي وغيرها من العوامل التي يتفننون بسردها لك . فهم الذين ارتفعوا بمستوى دخلهم بعد الحرب العالمية الثانية بنسب ملحوظة ، عاماً بعد عام ، حتى أصبح مستوى دخل الفرد اللبناني أرفع بكثير من مستوى دخل الفرد في أكثر الدول المتخلفة إقتصادياً . وهم بنفسهم الذين جعلوا بلدهم قبلة أنظار العالم الاقتصادية في الشرق الاوسط بعد ان استقلوا ، جاعلين منه مركز المنطقة التجاري والمالي والسياحي . أما أبدع ما في هذا التفوق قاطبة فهو ولا شك ما تمكنوا من تحقيقه في الحقل النقدي ، إذ كانت لهم الجرأة النادرة لفصل الليرة اللبنانية عن الفرنك الفرنسي بعد ان كانت تابعة له لمدة سبعة وعشرين عاماً تقريباً . وكل ذلك في ظرف كانت فيه أقوى عملات العالم تعاني صعوبات جمة لا تعرف كيف تخرج منها . كما انهم إعتمدوا نظاماً حراً للقطع في حين كان العالم بأسره يرزح تحت وطأة أنظمة مراقبة القطع الخانقة . ليس هذا فقط ، بل تمكنوا ايضاً من تغطية نقدهم المستقل بالذهب حتى بلغت يوماً قيمة هذه التغطية الذهبية حوالى الخمسة والتسعين بالمئة من قيمة النقد المتداول . هنا ولا شك يكمن النبوغ والتفوق اللبنانيان . وهنا ولا شك يرتاح اللبنانيون عند مقارنتهم بغيرهم من ابناء الدول ، سواء بابناء الدول العربية و حتى الدول الاجنبية الكبرى . فهم يقرون أنهم لم يتوصلوا الى إقامة نظام ضرائبي مثالي ، او الى تحقيق نمو سريع في زراعتهم او صناعتهم مثلاً . على ان مفخرة جهودهم اللبنانية الخالصة هي في حقل النقد والمال الذي لم يسبقهم فيه أحد ، وحيث لا أحسن ولا أبدع .

سنحاول في هذا المقال ان نلفت الى النواقص التي تشوب نظام نقدنا الحالي مشيرين الى الخطوات الواجب اتخاذها في هذا المجال . كل ذلك ، ونحن موقنون بأن المقترحات التي سنقدمها لمردة الاقتصاد والمال اللبنانيين ، إنما نقدمها بكل تواضع وحسن نية ورغبة في الاصلاح وبلوغ الافضل ، وليس من اجل التهجم والانتقاد المجردين . يشفع بنا في كل هذا ، والشفعة لازمة حيث اننا نضع قدس اقداس الاقتصاد اللبناني على بساط البحث ، كوننا كلبنانيين ، إستفدنا ونستفيد معيشياً من قدرة نقدنا الجبروتية ، متمنين لو نتمكن نحن واولادنا من بعدنا ان نحافظ عليها ، لا بل وان نزيدها .

قيمة النقد الداخلية والخارجية

ماذا تعني المحافظة على قيمة النقد اللبناني عملياً ؟. هذا هو السؤال الأول الذي يفرض نفسه على الباحث في ما اذا كان النقد اللبناني قد استوفى شروط الاستقرار او لا يزال بحاجة الى استكمال بعضها . والجواب على هذا السؤال يجرنا الى القول بان البحث في قيمة نقد ما يكون ذا شقين : البحث في القيمة الداخلية للنقد والبحث في قيمته الخارجية . فماذا يعني كل هذا ؟ .

تقاس قيمة النقد الداخلية بقوته الشرائية للسلع والخدمات المتوفرة في البلد المعني ، وعليه فقيمة الليرة اللبنانية في الداخل تعتمد نوع السلع والخدمات وكميتها التي بالامكان إبتياعها في لبنان بالعملة المحلية . ومن الجلي والواضح ان القيمة الشرائية هذه تعتمد على متوسط أسعار هذه السلع والخدمات . فاذا ارتفع متوسط مستوى الاسعار خمسين بالمئة مثلاً ، لأمكن القول إن الليرة اللبنانية قد فقدت ما يقارب الخمسين بالمئة من قيمتها الداخلية . وعليه ، فالمحافظة على قيمة النقد الداخلية تتلخص في المحافظة على مستوى الاسعار الداخلية . والبحث في كيفية المحافظة على استقرار مستوى الاسعار داخلياً يجب ان ينطلق من البحث في العوامل التي تفرض في ما بينها مستوى معيناً من الاسعار . فما هي العوامل التي تجتمع لينتج عنها مستوى الاسعار الداخلي ؟.

هنالك عوامل كثيرة ومتعددة تؤثر بدرجات متفاوتة على مستوى الاسعار الحاصل في البلد . على اننا ، وان لم يكن بوسعنا حصرها جميعها في هذا المجال ، فبامكاننا على الأقل ذكر بعضها .

هنالك اولاً الاسباب الداخلية والاسباب الخارجية الناشئة من خارج حدود البلد المعني . فقد يحصل ان يرتفع سعر بعض السلع المستوردة بسبب ارتفاع كلفة انتاجها مثلاً ، مما يؤدي الى ارتفاع مستوى الاسعار العام في البلد المستورد ، وذلك بالطبع بالنسبة لاهمية السلع المذكورة في الاقتصادي الداخلي . فلو ارتفعت اسعارمستوردات مثل المواد الاولية المستخدمة في الصناعة المحلية او مواد التغذية الاساسية كالقمح ، لكان ارتفاع الاسعار الناتج عن ذلك أكثر بكثير مما لو كانت السلع المستوردة سلعاً استهلاكية لا يشتريها سوى اصحاب المداخيل الكبيرة . وذلك لأنه في الحالة الاولى ترتفع كلفة الانتاج المحلي وبالتالي اسعار ذلك الانتاج، او ترتفع كلفة معيشة الطبقة العاملة بحيث يؤدي ذلك الى المطالبة باجور أعلى والحصول عليها ، ويؤدي ذلك بالتالي الى ارتفاع نفقات انتاج هذه السلع محلياً ويتبعها ارتفاع في اسعارها .

وقد يحدث ان يكون سبب ارتفاع الاسعار محض محلي ، كأن ينقص عرض السلع والخدمات المحلية بالاسعار الثابتة من دون ان يكون هنالك نقص في الطلب بنفس الاسعار ، وذلك بسبب قلة الامطار مثلاً او لاي سبب طارىء آخر . أو كأن ينقص عرض السلع والخدمات المحلية بالاسعار الثابتة من دون ان يكون هنالك نقص في الطلب بالاسعار نفسها ، او كأن يزيد الطلب النقدي monetary demand (2) بالاسعار الثابتة على امكانية العرض potential supply بهذه الاسعار في حالة العمالة الكاملة full employment. وأسباب زيادة الطلب النقدي بالاسعار الثابتة قد ينتج عن زيادة كمية النقد في البلد ، او زيادة معدل سرعة تداول الوحدة النقدية فيه ، او زيادة الاستثمار بسبب عوامل مشجعة طارئة ، او ازدياد النزوع الى الاستهلاك propensity to consume بسبب اعادة توزيع الدخل الوطني لصالح ذوي المداخيل المحدودة او سواها .

من الواضح ان ارتفاع مستوى الاسعار الداخلية ارتفاعاً كبيراً قد يشكل ضرراً اقتصادياً ملموساً لما قد ينتج عنه من تحويل الاستثمار الى اعمال ومشاريع أقل فائدة اجتماعية عن غيرها وانخفاض في مستوى معيشة اصحاب المداخيل الثابتة وغير المرنة كالعمال والموظفين ، والضغط على ميزان المدفوعات ، الأمر الذي قد يؤدي الى انخفاض في قيمة الوحدة النقدية الخارجية او الى خسارة بعض الموجودات النقدية الدولية ( كالذهب والعملات الاجنبية والسندات المالية القصيرة الامد ) او الى زيادة القيود على التجارة والمعاملات المالية الدولية.

وعليه ، فعلى السلطات النقدية ان تعمد الى انتهاج سياسات محلية في الحقل النقدي او المالي ايضاً من شأنها أن تعيد ، بقدر الامكان ، التوازن بين الطلب والعرض في حالة العمالة الكاملة ، موهنة بذلك القوى الدافعة بمستوى الاسعار صعوداً . وللقيام بما يلزم في مثل هذه الحالات ، يتحتم على السلطات المعنية ان يكون لديها الجهاز الوافي من مصرف مركزي وطني وسوق مالية حساسة وواسعة وسندات حكومية او تجارية سهلة التداول وقوانين تحدد وتراقب عمليات الاقراض واسعار الفائدة .

واذا نظرنا الى
لبنان لوجدنا ان الشروط اللازمة لاقرار وتنفيذ سياسة نقدية معينة ، منعدمة تقريباً . فبنك سوريا ولبنان، وهو المصرف الذي يقوم حالياً ببعض مهام المصارف المركزية ، لا يستحسن ان يقوم بدور المصرف المركزي الكامل ، وذلك لأنه مصرف تجاري وأجنبي أيضاً . ولقد اتفق الخبراء المحليون والاجانب على عدم جواز قيام بنك سوريا ولبنان بوضعه الحالي بمهام المصرف المركزي الكاملة . كما وان هنالك مستلزمات تشريعية ومؤسساتية من الواجب إيجادها قبل التمكن من اقرار وتنفيذ السياسة النقدية المطلوبة ، إذ يتوجب ، قبل ذلك ، سن قانون خاص ينظم مهنة المصارف والصرافة التجارية بحيث يعطي المركز الوطني المنوي إنشاؤه حق الرقابة والتدخل عند الحاجة في اعمال المصارف التجارية من أجل تنفيذ السياسة النقدية التي تحتاج اليها البلاد . كما انه يتوجب خلق سوق مالية واسعة وتنشيطها حتى تساعد المصرف المركزي في بلوغ أهدافه هذه . وبالاضافة الى ذلك ، فهنالك من حاجة الى جيش من الموظفين المدربين على اعمال ادارة مصرف مركزي والى خبراء نقديين واقتصاديين توكل اليهم مهمة تفسير وتحليل الاحصاءات المتعلقة بالنقد والتسليف حتى يتمكنوا من وضع خطوط السياسة النقدية التي تحتاج اليها البلاد .

وعليه ، فمن الواجب ، قبل التمكن من القول إن
لبنان
قد استوفى شروط المحافظة على قيمة نقده الداخلية ، ان يصار فوراً الى سد هذه النواقص في نظامنا النقدي . ولعل التجربة التي مرت بها سوريا في هذا المضمار بالذات ، تكون ذات قيمة فعلية في تبيان ما يجب علينا القيام به ، عملياً ، في هذا الخصوص . وتجدر الاشارة الى ان ضرورة انشاء مصرف مركزي يكون قادرناً على تنفيذ السياسة النقدية المطلوبة ، يتطلب ايضاً إصلاح النظام الضرائبي في لبنان من اجل التمكن من تمويل المشاريع الانمائية الحكومية .

 

أما قيمة النقد الخارجية فتقاس بالقوة الشرائية للوحدة النقدية فيما يتعلق بالنقود الاجنبية ، كأن تقاس قيمة الليرة اللبنانية بالنسبة للدولار الاميركي مثلاً ، او الفرنك الفرنسي ، او الليرة الاسترلينية او غيرها . وقد عرف العالم أنظمة عديدة هدفها المحافظة على القيمة الخارجية للوحدة النقدية . ولكل من هذه الانظمة حسناته وسيئاته . هناك ، مثلاً ، النظام الذهبي الدولي International Gold Standard الذي تخلى عنه العالم بأكثريته الساحقة بين سني 1931 و 1936 . وذلك لأنه ، مع كونه يحافظ على ثبات قيمة النقد الخارجية حتى درجة الجمود inflexibility ، فانه يخضع ، في الوقت ذاته ، اقتصاد الدولة الداخلي لتقلبات القطاع الخارجي بحيث يصبح من المستحيل على سلطات الدولة ان تحافظ دائماً على ثبات قيمة نقدها الداخلية ، وعلى مستوى مرتفع من العمالة المحلية . وهناك ايضاً نظام مراقبة القطع بفرض رقابة صارمة من قبل الدولة على جميع معاملات القطع بحيث يتساوى العرض والطلب على القطع الاجنبي بالاسعار التي تود الدولة تثبيتها . وهذا النظام اعتمدته دول اوروبا الشرقية الوسطى خلال سني ما بين الحرب العالمية الثانية ، كما انه معتمد الآن في اجزاء كبيرة من العالم كأميركا اللاتينية والاقليم الجنوبي من الجمهورية العربية المتحدة . ويقترن اسم الدكتور شاخت بهذا النظام لما كان للاقتصادي الالماني من تأثير في اعتماده وتطويره خلال الحكم النازي في المانيا . وهنالك ايضاً نظام سوق القطع الحرة مع ايجاد اجهزة تثبيت لاسعار القطع بحيث تمنع تقلبات سعر الوحدة النقدية الخارجي التي لا تعكس تغييرات اساسية في ميزان التجارة والخدمات للبلد المعني . وهذا النظام اعتمدته بلدان مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بعد ان تخلت عن نظام الذهب الدولي . وهناك اخيراً النظام الذي يرتكز عليه صندوق النقد الدولي ، وهو النظام المعمول به ، مبدئياً، في أكثرية دول العالم ، وهو نظام مبني على احترام حرية معاملات القطع لغير تنقل الرساميل ، وعلى المحافظة على ثبات سعر النقد الخارجي دون جموده وتحجره ، كما هي الحال في النظام الذهبي ، إذ يطلب من كل عضو وقت انضمامه الى صندوق النقد الدولي ان يعلن سعراً رسمياً لوحدة نقده بالذهب من عيار معين . وعليه تتقرر اسعار نقد اي بلد بالنسبة لنقود الاعضاء الآخرين . كما يفترض كذلك ، في كل عضو ان لا يسمح ضمن اراضيه بأية معاملات قطع باسعار تتجاوز السعر الرسمي المعلن عنه بأكثر من واحد بالمئة ، صعوداً او نزولاً . ويتم ذلك بان تكون سلطات البلد المذكور مستعدة دوماً لشراء او بيع نقدها لقاء نقد اي بلد آخر عضو في الصندوق ، او لقاء الذهب بالاسعار المذكورة . اما اذا تبين لبلد ما انه لن يتمكن من تثبيت السعر الرسمي بسبب حدوث تغييرات جذرية في تكوين ميزان المدفوعات ، فانه يلجأ عند ذاك الى تخفيض او رفع قيمة نقده الرسمية ، حسب مقتضيات الظرف .

يرى صندوق النقد الدولي ان تكون معاملات القطع للسلع والخدمات حرة طليقة ، على أن تقيد معاملات القطع للرساميل اذا دعت الحاجة لذلك . ويرى أيضاً انه من الضروري والمفيد جداً ان تكون قيمة النقد الخارجية لبلد ما ثابتة ومرنة في الوقت نفسه . وهو ، اي صندوق النقد ، يفرق بين الثابت المرن والجامد المتحجر والمائع التقلقل واذا احتاج البلد ، تثيبتاً لنقدع ، الى عملة أجنبية معينة يكون بإمكانه شراءها من الصندوق لقاء عملته المحلية ، وذلك طالما ان الاسباب التي تدعو لذلك ، لا تشكل انحرافاً اساسياً fundamental disequilibrium في ميزان مدفوعاته .

اما
لبنان ، فقد كان نقده مربوطاً بالفرنك الفرنسي منذ أوائل عهد الانتداب حتى سنة 1948 . وعليه ، فقد تأرجحت قيمة ليرته الخارجية مع تقلب سعر الدولا ومن دون ان تكون الاسباب الداعية الى ذلك لبنانية محلية. أما في سنة 1948 فتم انفصال الليرة اللبنانية نهائياً عن الفرنك الفرنسي بعد ان كان قد بدأ هذا الانفصال تدريجياً منذ سنة 1941 . وعليه ، فالنقد اللبناني ، نقد مستقل ، حديث العهد لا يتجاوز عمره الثلاث عشرة سنة . فما هي اذن الوسائل التي اعتمدها لبنان ، وما زال ، لتثبيت قيمة نقده الخارجية ؟ . وهل هنالك بعض المحاذير اوالتوصيات في هذا المجال ؟ .

إكتسب لبنان عضوية صندوق النقد الدولي عام 1947 ، مما مهد له ان ينضم الى البنك الدولي للانشاء والتعمير . وحددت وقتئذ قيمة الليرة اللبنانية بـ 405.512 ملغ من الذهب الخالص ، أي ما يعادل 2.19148 ليرة لبنانية للدولار الواحد . وعليه ، فان لبنان تعهد مبدئياً ، عند إنضمامه الى صندوق النقد ، أن لا يسمح بمعاملات قطع تتجاوز سعر الليرة اللبنانية أي ما بين 2.19 ليرة و2.21 ليرة للدولار الواحد . اما السعر الرسمي فقد حدد على أساس سعر الليرة اللبنانية الرسمي بالنسبة لليرة الاسترلينية ، وهو السعر الرسمي الوحيد المعتمد أنذاك ،إذ ان سعر الليرة اللبنانية بالفرنك كان متعلقاً بسعر الليرة الاسترلينية بالنسبة للفرنك . وهذا تدبير كان قد لجأ اليه عام 1941 بعد دخول الحلفاء الى لبنان من اجل تثبيت سعر الليرة اللبنانية وقت كان الفرنك مجهول المصير تماماً بسبب احتلال الالمان لفرنسا . وهكذا حدد سعر القطع بين الليرة اللبنانية والليرة الاسترلينية سنة 1941 ب 8.83125 لليرة الاسترلينية الواحدة .

يظهر مما تقدم ان
لبنان يتبع في تثبيت قيمة نقده الخارجية النظام المعتمد في صندوق النقد الدولي . ولكن ، اذا كان هذا هو الوضع القانوني للاشياء ، فإن الواقع يختلف عن ذلك تماماً . إذ ان لبنان لم يقم يوماً بإلتزاماته تجاه صندوق النقد الدولي ، بل ظل منذ 1947 يطلب سنة بعد سنة ان يطبق عليه نظام الفترة الانتقالية ، وهو نظام خاص وضعه صندوق النقد من اجل اتاحة الفرصة لاعضائه كي يتمكنوا من اصلاح وتقويم اقتصادياتهم التي تعطلت بسبب الحرب العالمية . وهذا النظام يجيز للاعضاء اغفال القيام بالتزاماتهم الكاملة نحو صندوق النقد . ولبنان ، وان كان قد أنشأ سنة 1949 صندوقاً لتثبيت قيمة نقده الخارجية ، فانه لم تستعمل هذا الصندوق إلا إبتداء من منتصف سنة 1953 ، وذلك فقط من اجل الحؤول دون انخفاض سعر الدولار الاميركي في بيروت عن 3.20 ليرة لبنانية . فكان بنك سوريا ولبنان ، المولج آنذاك أمر ادارة الصندوق ، يدخل سوق القطع كشارٍ للدولارات الاميركية كلما شعر بان الدولار سينخفض عن السعر المذكور اعلاه . فكان يشتري الدولار لقاء عملة لبنانية جديدة ويعمد بعد ذلك لاستبدال هذه الدولارات بالسعر الرسمي من الولايات المتحدة ويضع الذهب في التغطية النقدية وراء العملة اللبنانية التي جرى شراء الدولارات بواسطتها أساساً .

على انه تبين للقائمين على صندوق التثبيت ان هذا السعر للدولار الاميركي هو سعر مرتفع نسبياً بحيث ان التدخل في السوق لتثبيته ، بالشراء في هذه الحالة ، يضطرهم لان يزيدوا كمية النقد اللبناني المتداول بصورة مستمرة ، مما قد يسسب خطر التضخم المالي . وعليه ، قرر صندوق التثبيت ان مساندة الدولار بهذا السعر المرتفع سيؤدي الى هبوط سعر الدولار الى أقل من 3.20 ليرة لبنانية للدولار الواحد . وهذا ما حدث فعلاً في صيف 1956 . وكانت هي المرة الاولى منذ صيف 1953 التي يهبط فيها الدولار على هذا الشكل . واذا استثنينا اشهر الاحداث الدامية التي وقعت خلال سنة 1958 ، لتبين لنا ان سعر الدولار ، ابتداءًا من سنة 1957 وحتى اليوم بقي في الغالب أقل من 3.20 ليرة لبنانية للدولار الواحد وتراوح معدله في حدود 3.14 ليرة للدولار الواحد . إنما هذا لم يعن ان القيمين على صندوق التثبيت قد صرفوا النظر نهائياً عن أي تدخل لتثبيت سعر الليرة اللبنانية الخارجي ، بل ، جل ما في الامر ، انهم قرروا صرف النظر عن السعر الذي كانوا قد اعتمدوه سابقاً من غير ان يعتمدوا سعراً جديداً ، ولكن من دون ان يتخلوا كلياً عن التدخل في سوق القطع لمساندة الدولار كلما شعروا ان الحالة تحتاج الى التدخل . أي ان صندوق التثبيت تابع شراء الدولارات في لبنان لقاء عملة لبنانية ، وذلك للحؤول دون هبوط سعر الولار . كل ذلك من غير ان يعتمد سعراً موحداً للدولار ، بل أسعاراً مختلفة تتغير بحسب الظروف .

إنما القول إن لبنان لم يقم يوماً بإلتزاماته تجاه صندوق النقد الدولي ، وأنه ، في الحقيقة ، لم يستعمل صندوق تثبيت النقد المحلي للحؤول دون ارتفاع قيمة نقده الخارجية او انخفاضها ، لا يعطينا صورة كاملة عما حققه لبنان فعلاً في مضمار روح اتفاقية " بريتون وودز " وليس في مضمار تنفيذه لحرفية هذا النص . فلبنان حرر ، منذ 1952 ، جميع معاملات القطع ، سواء في حقول التجارة او الخدمات او انتقال رؤوس الاموال من كل قيد او مراقبة . وهو ، بذلك حقق جزءاً مهماً من الاهداف التي يمثلها صندوق النقد وهي حرية معاملات القطع للتجارة والخدامات. انما ما قصر في تحقيقه كلياً فهو تثبيت قيمة نقده الخارجية بحيث لا تتجاوز واحداً بالمئة من السعر الرسمي . لكن الحق يقال إن لبنان لم يكن ليتمكن من فرض السعر الرسمي من دون الحاق بالغ الاذى بصادراته لأن السعر الرسمي المعلن لصندوق النقد هو ، في الحقيقة ، سعر مرتفع ولا يمثل واقع معاملاتنا الاقتصادية الدولية . فقد كان ، بالفعل ، سعر القطع الحر في بيروت أقل من السعر الرسمي ( لصالح العملات الاجنبية ) بنسبة تتراوح بين الثلاثين والخمسة والاربعين بالمئة من السعر الرسمي.

يتبين مما تقدم ان لبنان ، بوصفه عضواً في صندوق النقد الدولي يدين ، ولو نظرياً ومبدئياً ، بالفلسفة التي يرتكز عليها صندوق النقد والتي تتلخص بتحرير معاملات القطع لتجارة السلع والخدمات وبتثبيت قيمة النقد الخارجية ، مع امكانية تغيير هذه القيمة في الحالات الاضطرارية فقط ، على ان تعمد السلطات المسؤولة في تثبيت سعر القطع بالتدخل في السوق شراءً او بيعاً بحسب ما تدعو الحاجة . لكن الواقع يظهر ان لبنان لم يف بالتزاماته نحو صندوق النقد . فالسعر الرسمي لليرة اللبنانية لم يكن يوماً السعر الحقيقي المطبق على أكثرية عمليات القطع الساحقة . كما وان صندوق تثبيت النقد المقام في لبنان لم يعمد الا لمنع ارتفاع سعر الليرة اللبنانية بالنسبة الى الدولار . وحتى هذا التثبيت الجزئي لقيمة الليرة اللبنانية الخارجية لم يقم حول سعر واحد معين ، كما وانه لم يشمل مدة انتساب لبنان لصندوق النقد بكاملها . وعليه ، فالسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو : الى أي مدى تمكن لبنان من تحقيق ثبات قيمة نقده الخارجية التي لا يترك اللبنانيون فرصة تمر إلا وتبجحوا بها . وما هي العوامل التي أدت الى ، والوسائل التي إعتمدت من أجل ، الحصول على هذا الاستقرار في قيمة النقد الخارجية ؟ .

لنبدأ أولاً بالنظر الى مدى ثبات قسمة الليرة اللبنانية الخارجية . وسنعتمد في ذلك على متوسط الصرف الحر لليرة اللبنانية بالنسبة الى الدولار الاميركي ، وذلك لأن الدولار الاميركي لم يتعرض لأي تخفيض في قيمته الرسمية والمثبتة طوال المدة التي تهمنا في بحثنا ، ولأن طبيعة سوق بيروت الحرة تجعل من غير الواجب علينا الالتفات الى سعر القطع بالنسبة الى العملات الاجنبية الاخرى . واما المدة التي سنعتمدها فتشمل ما بين سنة 1951 وسنة 1959 . وجلي اننا أهملنا الفترة الواقعة بين 1947 و 1950 لسببين إثنين هما : اولاً، لأن الليرة اللبنانية كانت حتى كانون الاول / ديسمبر 1948 تشكل وحدة نقدية مع الليرة السورية الى ان تم انفصال النقدان واصبح للبنان نقده المستقل عن النقد السوري . وثانياً ، لأن لبنان وسوريا كانا حتى 13 اذار/ مارس 1950 يشكلان وحدة جمركية ، وعليه فليس بالامكان التكلم عن قيمة النقد اللبناني المستقل إلا بعد الانفصال الجمركي ، وذلك لان قيمة الليرة اللبنانية كانت تتأثر كثيراً بالصادرات والواردات السورية البحتة الجارية عن طريق لبنان .

والجدول ادناه يعطينا المتوسط السنوي لسعر الصرف الحر في سوق بيروت بين الليرة اللبنانية والدولار الاميركي للفترة الواقعة بين اول وآخر 1959 ( المصدر : صندوق النقد الولي الاحصاءات المالية الدولية ، ج 13 ، عدد 9 ، ايلول / سبتمبر 1960 ، ص 188 – بالانكليزية ) :

السنة          متوسط سعر الصرف الحر  للدولار ( بالليرات اللبنانية )
1951                               3.73
1952                              3.66
1953                              3.42
1954                             3.22 
1955                             3.24
1956                             3.22
1957                             3.18
1958                            3.17     
1959                            3.15

يتبين لنا من هذا الجدول ان السعر الأدنى للدولار الاميركي لهذه الفترة هو 3.15 ليرة لبنانية وان السعر الأعلى هو 3.73 ليرة لبنانية ، أي ان الفرق بين أعلى سعر متوسط وأدنى سعر متوسط بلغ 58 قرشاً . فلو اعتبرنا جدلاً ان معدل السعر الحقيقي لليرة اللبنانية خلال هذه الفترة هو 3.44 ليرة ( 58 : 2 ) + 3.15 لوجدنا ان التقلبات التي تعرضت لها قيمة الليرة اللبنانية الخارجية بلغت خلال هذه الفترة حوالى 17 % من معدل السعر الحقيقي لليرة اللبنانية . وهي نسبة اعلى بكثير من النسبة المسموح بها بموجب اتفاقية صندوق النقد الدولي . أما اذا أهملنا سنتي 1951 و 1952 من هذه الفترة ، على اعتبار انها سنوات غير طبيعية بالنسبة لبحثنا هذا ، وذلك بسبب المضاعفات التي كانت للحرب الكورية على قيمة نقدنا الخارجية ، لوجدنا ان الفرق بين السعر الاعلى والادنى ( على أساس المتوسط السنوي ) قد تدنى الى 27 قرشاً فقط . ولو اعتبرنا ان السعر الحقيقي لليرة اللبنانية خلال 1953 – 1959 كان بمعدل 3.285 ليرة ( 27 : 2 ) + 3.15 لوجدنا ان التقلبات في سعرالليرة اللبنانية خلال الفترة نفسها قد بلغ 8 % من معدل السعر الحقيقي المفترض . أي اننا نكون قد خفضنا نسبة التقلبات في قيمة الليرة اللبنانية الخارجية الى النصف تقريباً ، وذلك بمجرد اهمالنا السنوات التي قد تعتبر غير طبيعية في هذا المجال . ويتبين من ذلك ان الليرة اللبنانية قد أظهرت استقراراً نسبياً مثالياً ، خاصة متى أخذ بعين الاعتبار ان هذا الاستقرار النسبي قد حصل بدون اي تقييد على عمليات القطع إطلاقاً ، وبدون ان نقيد التجارة الخارجية من اجل ذلك .

 

الآن ، ما هي الاسباب الكامنة وراء ثبات الليرة اللبنانية هذا ؟ وهل هذه الاسباب عفوية ووليدة قوى ومؤثرات تخرج عن نطاق ارادة السلطة النقدية اللبنانية ، أم انها نتيجة سياسة مدروسة وجهد إرادي فاعل ؟. واذا كانت هذه الاسباب عفوية ، فهل يؤمل لها ان تستمر في المستقبل أم انه من المرجح ان تعكس نفسها ؟ . واذا كانت موقتة بطبيعتها ، فهل بالامكان العمل على تلافي نتائجها السيئة بقدر الامكان ؟ . كل هذه الاسئلة تفرض نفسها في هذا المجال ، ولا بد من الاجابة عليها ولو لماماً واجمالاً .

نبدأ أولاً فنقول ونشدد على القول إن الاستقرار النسبي الذي عرفته قيمة الليرة اللبنانية الخارجية خلال السنوات العشر الفائتة لم يكن بفضل الجهود المباشرة للسلطات النقدية في حقل تثبيت سعر القطع بقدر ما كان عائداً لاسباب ومؤثرات خلقت وفراً في ميزان مدفوعات لبنان سنة بعد سنة ، مما أدى الى ارتفاع قيمة الليرة اللبنانية طوال هذه الفترة تقريباً . من المعروف ان القيمة الخارجية لأي نقد في السوق الحرة تحدد بقوى العرض والطلب على هذا النقد . وبما ان ميزان المدفوعات ليس سوى مسجل للعمليات المالية التي تتم بين المقيمين في بلد ما والمقيمين خارج البلد خلال فترة معينة ، فإن أحسن مقياس لقيمة العرض والطلب على نقد ما هو ميزان المدفوعات . وعلى هذا الأساس ، فلنلق نظرة على ميزان مدفوعاتنا لنرى الأسباب التي تجعل الطلب على نقدنا يفوق عرضه ويسبب بذلك فائضاً في ميزان المدفوعات ، والذي بدوره يؤدي الى ارتفاع سعر الليرة اللبنانية .

سجل الميزان التجاري للبنان منذ سنة 1951 عجزاً مستديماً ، يتزايد باضطراد سنة بعد سنة ، حتى بلغ حوالى الألف مليون ليرة لبنانية عام 1959 ، بينما سجل ميزان المدفوعات وفراً إجمالياً طوال المدة نفسها ، مما أدى الى إرتفاع سعر الليرة اللبنانية في سوق بيروت الحرة . ويرجع السر في هذه المفارقة الى ان الربح الذي يجنيه لبنان من ميزان الخدمات ومن الهبات وتنقل الرساميل يفيض في كل سنة عن العجز التجاري .

إذن ، لا يعود الفضل في قوة نقدنا الخارجية لصادراتنا المنظورة ، بل للخدمات التي نؤديها لغير المقيمين ولتدفق الاموال علينا من المغتربين وسواهم . ومن المصادر التي نعتمد عليها لسد عجزنا التجاري الهائل نسبياً ، السياحة والاصطياف وتجارة الترنزيت وتحويلات المغتربين وتدفق الرساميل . ومن البديهي ان مصادر الدخل هذه معرضة لتقلبات كبيرة في قيمتها ، خاصة وانها تعتمد أساساً على السياسة التي تتبعها الدول الاخرى ، وعلى الاستقرار السياسي في العالم عامة وفي منطقة الشرق الاوسط خاصة .

هناك سبب آخر يجعلنا نعتقد ان دخلنا من هذه الموارد سينخفض تلقائياً . وهوان الدول ومنها لبنان التي نجني من مقيميها هذه الارباح ، وهؤلاء هم في الغالب من الدول العربية الاخرى عامة والمنتجة للبترول خاصة ، قد بدأت تفرض القيود وتقيم العراقيل في وجه تنقل الرساميل والاشخاص القادمين الى لبنان للسياحة والاصطياف . كما ان هذه الدول ، العربية بنوع خاص ، بدأت تستثمر مواردها الخاصة مستغنية بذلك عن الدور الذي لعبه لبنان تقليدياً كوسيط تجاري ومالي . وعليه ، فبإعتقادنا ان الوفر الذي جناه لبنان في السابق ، سنة بعد اخرى ، كان وليد ظروف مناطقية وعالمية خاصة وطارئة ، ومن غير المحتمل ان تدوم في المستقبل . وبالتالي فإننا نجرم بحق أنفسنا ان نغفل ذلك ونرتاح لوهم يدعونا الى الظن ان ما صح في السنوات العشر الماضية سيصبح دائماً يدوم ابداً .

حان للبنان ، في رأينا ، ان يرى ان الوقت قد جاء ليخلع عنه ثوب التراخي وتمشية الحال واتباع سياسة عدم التدخل والتخطيط والتدبير في الحقل الاقتصادي لدرجة الفوضى العامة ، وأن يبدأ باتباع نهج جديد يصحح حياته الاقتصادية ويؤمن مستقبله الاقتصادي والاجتماعي . اما في مجال تثبيت قيمة نقده الخارجية ، فعليه ان يقوم بكل ما من شأنه ان يعزز الليرة اللبنانية كنقد مناطقي يشمل الشرق العربي بكامله . لذلك ، على المسؤولين ان يهتموا بزيادة صادراتنا المنظورة ، وأهمها ولا شك الفاكهة والحمضيات والخضار . على اننا مهما فعلنا في هذا المضمار فلن نتمكن من سد العجز التجاري . ولا ضير في ذلك بحد ذاته ، إذ علينا ان نعمل على تثبيت مصادر دخلنا غير المنظورة . فنشجع السياحة والاصطياف بكل ما أوتينا من جهد وامكانيات ، على ان لا تقتصر جهودنا على الشرق الاوسط فحسب ، بل ان نتعداه الى البلدان الاخرى . وعلينا ان نتدارس مع الدول العربية أمر إعادة النظر بعلاقاتنا معها ، والاتفاق معها على اسس ثابتة تكفل للجميع الانتفاع من مبدأ الاختصاص الدولي ، ونرسي بذلك اسس تجارة الترنزيت على قواعد أثبت وأمتن . وأهم من كل ذلك ، نقوم بما يتوجب علينا في الداخل والخارج لتشجيع الرساميل الاجنبية ، من عربية وغير عربية ، بحيث تتدفق على البلد من اجل توظيفها في الاعمال الانتاجية المهمة ، وليس فقط من اجل إيداعها كحسابات جارية او مجمدة في المصارف .

تبرز عوامل عديدة لا تشجع ، في الوقت الحاضر ، بعد تدفق الرساميل الاجنبية للاستثمار في لبنان بسبب ان لبنان لم يتمكن بعد من انشاء دولة حديثة مع كل مستلزماتها ، حتى ولو كان من تلك المستلزمات فرض ضريبة دخل تصاعدية . ان في لبنان الان بوادر صريحة تشير الى فقدان مستلزمات التوازن الاجتماعي والسياسي ، سببه ان البحبوحة الاقتصادية التي عرفتها البلاد منذ 1951 لم تطل جميع فئاته ، بل بقيت محصورة ، الى حد ما ، بفيئات معينة . ومنها ايضاً ان ضيق السوق المحلية تحد من امكانية الانتاج على نطاق واسع . وبامكاننا توسيع اسواقنا بالاتفاق مع الدول العربية الاخرى .

كما اننا نقترح على المسؤولين ان يعمدوا الى انشاء صندوق جديد لتثبيت قيمة النقد الخارجية ، إذ ان الجهاز الحالي ، في رأينا ، لا يتمكن من القيام بالاعباء المطلوبة منه . ومن الواجب ان يكون لصندوق التثبيت ميزانية مستقلة ، بحيث لا تؤثر اعمال التثبيت على تغطية النقد ، وبالتالي على كمية النقد المتداولة . أما السعر الذي سيعمد الصندوق الى تثبيته ، فأمر لا يمكن البت به الان بصورة نهائية بدون دراسة جدية لما ينتظر ان يكون عليه ميزان مدفوعاتنا في السنين القادمة . ولكننا نعتقد ان 3.20 ليرة لبنانية للدولار الواحد لن يكون بعيداً عن السعر الحقيقي لليرة اللبنانية مع امتداد يبلغ في مرحلة تجربة لاشهر اولية ثلاثة ، صعوداً ونزولاً . أي ان لا يسمح صندوق التثبيت بهبوط سعر الليرة اللبنانية الى أقل من 3.296 ليرة لبنانية او ارتفاعها الى أكثر من 3.124 ليرة لبنانية للدولار الواحد . وبالامكان تخصيص قسم من ذهب التغطية لدينا لعملية التثبيت هذه .

إن هذا التدبير المالي لا يكفي وحده . فتثبيت سعر الليرة اللبنانية الخارجي يتطلب سياسة مالية داخلية حكيمة، خاصة في بلد كلبنان هو عرضة للتضخم المالي كنتيجة للمشاريع الانمائية المنوى القيام بها . وعليه ، فمن الضروري ايضاً انشاء مصرف مركزي وطني للقيام بهذا العبء كما وانه من الواجب اقامة وتشجيع سوق مالية تعتمد اساساً على السندات الحكومية .

الخلاصة
يتبين لنا ان النقد اللبناني ، وهو موضع فخر واعتزاز اللبنانين قاطبة ، لا يزال يشكو من سيئات عديدة . ومن الواجب القيام بخطوات عديدة قبل ان نتمكن من القول اننا قد قمنا بما يتوجب لضمان استقرار قيمة هذا النقد في الداخل وفي الخارج . وتبرز هنا ضرورة انشاء مصرف مركزي وطني بصورة ملحة . ذلك ان الحرية الاقتصادية ، والاقرب الى الفوضى ، التي ما نزال نتخبط فيها غير كفيلة ان تضمن لنا استقرار قيمة نقدنا في المستقبل . وفي رأينا ان مشكلة النقد اللبناني لا تخرج عن كونها جزءاً من المشكلة الكبرى والمصيرية الاولى في لبنان . وتكمن هذه المشكلة في الحيرة التي نعانيها في الاختيار بين ان نثوب الى رشدنا وان ننشىء في لبنان دولة بكل ما في هذه الكلمة من معانٍ ، او ان نجعل من لبنان ، كل لبنان ، شنغهاي كبرى او طنجة السابقة على نطاق واسع ، حيث يرتع الخارجون على القانون وتجار الذمم . اما ، اذا سؤلنا نحن ، فنقول ان الحل الاول هو الاصح ، وذلك اذا أخذنا بالاعتبار مصلحة جميع اللبنانيين وكرامتهم ، لا مصلحة افراد قلائل يقدمون النفع المادي على الكرامة الوطنية والشخصية . فنحن لسنا من المؤمنين بان الهدف الاقتصادي الاول لبلد ما هو في الحصول على أكبركمية من الانتاج بغض النظر عن كيفية الحصول عليها او طريقة توزيعها . كما اننا لسنا واثقين بان الحل الثاني سيؤدي بنا حتماً الى الحصول ، كمجموعة بشرية ، على أعلى مستوى معيشي نسبي ، وقد لا نتمكن من الحصول عليه ابداً .

(1) لا نشكك في الدور الذي تلعبه الرساميل الاجنبية في تنمية الاقتصاد اللبناني . على ان الاجر يعود هنا ايضاً للجهد اللبناني الصرف الذي أوجد الجو الملائم لاستجلاب هذه الرساميل
(2) أي طلب السلع والخدمات الاجمالي بالوحدة النقدية .