المواطنية الاقتصادية العربية

برهان الدجاني

امين عام الغرف التجارية والصناعية والزراعية العربية

نشر المقال في كانون الثاني / يناير 1961 ، العدد الثالث ، الرائد العربي

إن أكثر ما نال من اهتمام حتى الان في مجالات التعاون الاقتصادي العربي هو مجال انتقال البضائع والخدمات . وقد حصل ، في هذا المجال ، بعض التقدم ، خاصة في الاتفاقيات العربية الجماعية لتسهيل التجارة والترانزيت ، وفي الاتفاقيات التي عقدت في اواخر العام الفائت بين
السعودية والاردن ولبنان والجمهورية العربية المتحدة لتنظيم الترانزيت . ولا يمكننا القول بأن المشاكل الناجمة في هذا المجال قد حلت كلها . فما زالت هناك مشاكل مهمة يجب التصدي لها وحلها . لكن التقدم الذي احرز حتى الان يفوق التقدم الذي حصل في اي من المجالات الاخرى المتعلقة بالتعاون الاقتصادي العربي .

اما الناحية التي لم تنل بعد عناية تذكر فهي الناحية المسماة اختزالاً " بالمواطنية الاقتصادية العربية " ، أي المطالبة باعطاء العرب ، افراداً ومؤسسات ، حق الانتقال والتملك ( وما يتفرع عن التملك من حقوق كالايصاء والارث والتفرغ ) وحق اقامة المشاريع الاقتصادية وادارتها ، والاستفادة من جميع التسهيلات التي ينالها المواطن المحلي ، والخضوع لنفس الانظمة واكتساب نفس الحقوق والواجبات المتعلقة بالنشاط الاقتصادي ، وذلك اينما حل في الدول العربية .

إن المعنى العملي لهذه الفكرة هو ان يسمح لكل مواطن عربي ان يدخل اي بلد عربي من دون اجراءات معقدة ، وان يعطى حق الاقامة لاية مدة يرغب ومتى أراد ، وان يشتغل أجيراً او صاحب عمل ، وان يفتح لنفسه اعتماداً في المصارف ، وان يبيع وان يشتري ، وان يكون وكيلاً للمحال والمؤسسات ، وطنية أكانت أم أجنبية . وأن تمنح هذه الحقوق نفسها للشركات العربية ، بحيث تستطيع الشركة المؤسسة في الجمهورية العربية المتحدة مثلاً ان تفتح الفروع وتزاول النشاط في لبنان او في السعودية وسواها من البلدان العربية دونما قيود او تعقيدات .

ذلك هو المبدأ وذلك معناه . لكن العثرة التي تقف حائلاً في وجه هكذا انفتاح عربي هي القوانين الموضوعة في البلدان العربية كلها ، شأنها في ذلك شأن سائر بلاد العالم التي تميز بين المواطن والاجنبي من حيث الامتيازات والحقوق والتسهيلات المدنية . فالاجنبي ، بحسب هذه القوانين ، هو كل أجنبي ، مهما كانت جنسيته وقوميته ، سواء أكان عربياً أم ايطالياً مثلاً .

أما الامتيازات التي يتمتع بها المواطن المحلي وحده وتمنع عن " الاجنبي " ( والعربي أجنبي بالمعنى القانوني اذا لم يكن من المواطنين المحليين ) فهي كثيرة وتختلف بين بلد وآخر . فليس للاجنبي حق الاقامة الدائمة او حق العمل . وقد لا يسمح له بانشاء المشاريع الا ضمن شروط معينة ، كأن يشارك مواطناً محلياً بنسبة معينة من رأس المال ، قد تقل هذه النسبة او تكثر . ولا يستطيع ان يمتلك في الشركات المساهمة اكثر من نسبة معينة ، وثمة شروط على عضويته في مجالس ادارتها . وقد لا يسمح له بفتح حساب في مصرف ( اذا كان نظام مراقبة العملة مطبقاً ) . وقد لا يسمح له بأن يكون وكيلاً تجارياً او تحدد له شروط صعبة للوكالة . وقد لا يسمح له بتملك العقار او الاراضي الزراعية اطلاقاً ، او يسمح له ضمن شروط محددة . وقد لا يتمتع ببعض التسهيلات التي تقدمها الحكومة للمواطن المحلي كاعفاء المواد الاولية او الاماكن الصناعية من الرسوم الجمركية . وقد لا يسمح له بان يشتغل عاملاً الا برخصة من الحكومة ، وقد تتشدد الحكومة في منحه هذه الرخصة . وقد يفرض عليه ان يحصل على كفالة لمجرد الاقامة ، وهكذا . وكثيراً ما تبتدع الحكومات اساليب جديدة لاستبعاد " الاجنبي " عن النشاط الاقتصادي .

الحقيقة ان الاتجاه العام السائد حالياً في البلاد العربية يسير نحو مزيد ومزيد من التقييد والاستبعاد ، بدلاً من التقريب والتسهيل . فقد ابتدأت بعض الدول العربية بتنظيم التوكيلات التجارية وحصرها بالمواطنين المحليين، وحصرت حكومات اخرى حق التملك الاقتصادي للمحال بأسماء مواطنيها المحليين ووضعت انظمة لتنظيم اعمال بعض الشركات ، وفي مقدمها شركات التأمين والمصارف ، بحيث فرضت ان تكون أسهمها أسمية كلها ومملوكة كلها او معظمها من مساهمين محليين . وما من بلد عربي يميز بين العربي وغير العربي في المعاملة . ولعل
لبنان هو البلد الذي لا يزال يسمح للعربي بممارسة كل انواع النشاطات الاقتصادية المتقدمة ، وهذا فضل يذكر للبنان ، ولكنه لا يعطي هذا الحق للعربي لكونه عربياً ( الا في حالات التملك العقاري ) ، بل لأن لبنان يعطيه للجميع ، أياً كانوا ، أي لأنه يعطيه ايضاً للايطالي والفرنسي والالماني الخ...

النتجية ان المواطن العربي قد يواجه مفارقات عجيبة في بعض الاحيان . فبوسعه ان يركب اول طائرة ويسافر الى المانيا مثلاً من دون ان يحصل على تأشيرة دخول ، ويتوجه من المطار الى المعمل ليشتغل من دون تضييق او قيد . واذا اراد العمل في بلد عربي فقد يطلب منه كفالة لقاء الحصول على تأشير عمل ، ثم يطلب منه رخصة عمل محددة المدة ، وقد تنهى اقامته قبل انهاء عمله ، وقد لا يعطى فرصة لتصفية مشروعه اذا كان صاحب مشروع ، وهكذا . ولا بد لمثل هذا الشخص ان يتساءل عن معنى كونه " عربياً " ، وهل العروبة عواطف ليس إلا ولا علاقة لها بمجالات الحياة والرزق والعيش ! .

يرجع هذا التشدد في القوانين المحلية في معاملة الرعايا العرب الى أسباب عديدة . فمن البلدان العربية ، كمصر مثلاً ، من لاقى الويل من الاجانب الذين استباحوا الثروات الوطنية زمناً طويلاً على حساب ابناء البلد. فسنت الدولة القوانين لحماية البلد من هذا الاجنبي المستغل ، لا بقصد عرقلة المواطن العربي . لكن هذا المواطن العربي وجد ان هذه التشريعات تقف سداً في وجهه لأنه ، أي العربي ، في نظر القانون "أجنبي". وقد يجيء اليوم الذي تعيد فيه بعض البلدان العربية النظر في هذه التشريعات لتصحيح اختلالات موروثة كان التمييز يجري اثناءها ضد المواطن المحليين قبل الاجنبي المقيم او المحتل .

ثم هناك ضغوطات أصحاب المصالح المحليين ، من رجال أعمال وسواهم من الذين يودون احتكار السوق المحلية ، ومن نقابات عمال تخشى منافسة العمالة الاجنبية الامهر او القانعة باجور زهيدة . وكذلك المتعلمون الذين يفتشون عن عمل بعد تخرجهم فلا يجدون الا القليل من الفرص المتاحة ، وغيرهم من اصحاب المصالح . وتشتد هذه الضغوطات تبعاً لعاملين اثنين هما مقدار البطالة واتساع القوة العاملة المحلية من ناحية، وقوة اصحاب المصالح والشعور المحلي من ناحية اخرى . ثم هناك ، احياناً ، عوامل التنازع السياسي وحاجات الامن . وكما ان العوامل الاقتصادية الطبيعية والعفوية قد أدت الى انتقال الالوف من العمال واصحاب المشاريع بين البلدان العربية ، فقد كانت الاسباب المتقدمة تعمل ضد هذا الطيار وتعاكسه . فحدث ، على نطاق واسع احياناً ، ان اخرج المواطنون العرب بالجملة من البلد العربي الذي يعملون فيه .

هذا من الناحية السلبية . اما من الناحية الايجابية فقد حصل شىء مهم لم يكن للقيود او الانظمة يد في تسهيله او الوقوف في وجهه . فحاجة البلدان العمرانية والانمائية جذبت الاعمال والمشاريع المفتشة عن مجالات عمل ناجح ورابح.

شهدت بلدان عربية عديدة بعيد الحرب العالمية الثانية نمواً كبيراً وظهرت حاجة لرجال من ذوي الخبرة والعلم في جميع الحقول الاقتصادية والعلمية والخدماتية الخ . فانتقل عشرات الالوف من ابناء البلدان العربية اليها ليقدموا خدماتهم في كل هذه الحقول . ولئن تعرضوا احياناً للخسائر والاذى كما قدمنا ، فان جهدهم ، اجمالاً ، لاقى تقديراً وترحيباً ، وهم من جهتهم اصابوا ربحاً . وقد ساعدت هذه الحركة وما رافقها من نجاح لدى الفريفين في كسر الحواجز النفسية فرحب الاهلي بالقادمين وساعدوهم على تخطي الصعاب والحواجز التي قد تضعها الحكومات . والحق ان عامة الناس كانت الى جانب اليسر لا العسر ، خلافاً للحكومات . اما التسهيل الحكومي الوحيد ، فلعله كان اقدام بعض الحكومات على الغاء تأشيرات السفر ، السياحي منها ليس إلا .

ولئن كنا ندعو الى تحقيق المواطنية الاقتصادية العربية ، فذلك لايماننا العميق بأن العربي يجب ان يبقى عربياً ، اينما ذهب ، ولا يعتبر في اي بلد عربي كأنه والاجنبي سيان . كما اننا نعتقد ان ثمة خللاً فادحاً وواضحاً في توزيع العمل في البلاد العربية ، ولن يتضح هذا الخلل الا من خلال المواطنية الاقتصادية العربية . والدليل على ذلك ان بعض التصحيح يجري رغم العقبات ، كما سبق ان قدمنا .

ثمة مصلحة اقتصادية واضحة للجميع . فخلق سوق موحدة للعمل ولسائر نواحي النشاط الاقتصادي ، يولد قوى ديناميكية متحركة فاعلة ، تدفع بالاقتصاد في كل بلد الى الامام . فالعامل العربي ليس مستغلاً ، ولكنه خدوم ومدرب ومفيد . وكثير من العمال ، وكذلك المشاريع التي ينشئها رجال الاعمال ، باقون ومستقرون حيث يذهبون ليصبحوا جزءاً من السكان ومشاريعهم . والسكان ، قدامى وجدد ، ثروة وطنية لا عبء ، وربح لا خسارة ، وسند لا عالة . وهم أمل وقوة للحاضر وللمستقبل .

لا بد ان نشير في هذا الصدد الى ان دول السوق الاوروبية المشتركة ، وهي التي عانت في السابق من عداء مزمن بينها ، قد أقرت هذا المبدأ في ما بينها . فهل من الصعب ان نطالب بان يعامل العربي في بلاد العرب مثلما يعامل الايطالي في بلاد الفرنسيين ؟ .