الخليج العربي وتجارته في القرن العاشر الميلادي

د. نقولا زيادة

دكتور في الفلسفة

استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الاميركية سابقاً– بيروت

مؤرج وكاتب كبير( توفي سنة 2005 )

نشر المقال في تشرين الثاني / نوفمبر 1960 ، الرائد العربي ، العدد الاول

 

للخليج العربي تاريخ في التجارة طويل ، ولسنا نقصد ان نؤرخ له في هذه العجالة ، وجل ما نرمي اليه هو ان نتحدث عن فترة من تاريخه في العصور العربية الاولى عندما إزدهرت تجارته ازدهاراً كبيراً .

 

يبدو من اشارة مقتضبة وردت هنا وهناك أن السفن الفارسية كانت في القرن الرابع للميلاد تنتقل من ميناء الأبله في شط العرب الى الموانىء الصينية ، وان بعض السفن الصينية كانت تصل الى موانىء الخليج . وفد ورد في الطبري عن الأبله انها كانت قديماً " فرج الهند " . ومن الطريف ورود اشارة الى ا

لقراصنة الهنود في الخليج نفسه وفي خليج عمان في تلك الازمنة . ومن الواضح ان أهل البحرين وعمان كانت لهم سفن تمخر عباب البحار المجاورة في ايام الرسول والخلفاء الراشدين .

 

على ان الازدهار الذي عرفه الخليج العربي في القرنين التاسع والعاشر للميلاد مدعاة للفخر والزهو . ولذلك اسباب كثيرة منها ان الدولة العباسية ، التي قامت في أواسط القرن الثامن ، كانت بطبيعة الحال تتجه شرقاً أكثر من إتجاه الدولة الاموية التي كانت تتطلع نحو البحر الابيض المتوسط . ومنها ، على ما قاله الدكتور جورج حوراني في كتابه عن الاسفار البحرية العربية في المحيط الهندي ، ان استتباب الامن في الدولة الاسلامية من جهة ، ووجود دولة قوية في الصين ، هي اسرة تانغ ، واخرى في الاقطار الجنوبية المحاذية لها – كل هذا في القرون السابع والثامن والتاسع – قد أدى الى إنتعاش في التبادل التجاري بين منطقتين كانت كل منهما بحاجة الى منتجات الاخرى الطبيعية والصناعية .

 

ومن حسن الحظ ان المصادر التي بين أيدينا عن القرنين التاسع والعاشر كثيرة ، بحيث يمكن رسم صورة تكاد تكون صحيحة لما كانت عليه الحال في الخليج العربي في تلك الفترة . فقد خلف لنا الجغرافيون العرب مكتبة قيمة وضعت بين سنتي 850 و 985 للميلاد ، حملت من الاسماء اللامعة امثال ، بحسب الترتيب الزمني ، إبن خرداذبه واليعقوبي وإبن الفقيه والاصطخري وإبن حوقل والمسعودي والمقدسي . ويضاف الى هؤلاء رحالون هم في الاصل تجار او قباطنة سفن او هواة ، خلفوا أخبارهم في مدونات مهمة بين سنتي 850 و 950 للميلاد ، بينهم السيرافي وبزرك .

 

ما يمكن ان يؤخذ من دراسات الذين عنوا بتقصي أخبار اولئك وهؤلاء ان الخليج العربي كان مسرحاً لتجارة رابحة وحركة ناشطة ، وان الموانىء على شواطئه كانت تنعم بالكثير من الخيرات . وها نحن اولاء نعرض على القراء بعض هذا الذي وصل اليه الباحثون ، مستفيدين من دراستهم ، مع الرجوع الى المصادر الأصلية ، ناقلين عنها ما قد يلذ ويفيد .

 

كانت الموانىء الرئيسة على الخليج وما يجاوره من خليج عمان ، تشمل سيراف وعمان والبصرة . والظاهر ان سيراف كانت خلال الفترة التي نتحدث عنها ، الميناء الذي تمر به متاجر فارس ، صادراتها ووارداتها . " فهي الفرضة العظيمة لفارس ، وهي مدينة عظيمة ليس بها سوى الابنية شيء ... وليس بها ماء يجمد ولا زرع ولا ضرع ، وهي أغنى بلاد فارس ...فأما أهل سيراف والسواحل فإنهم يسيرون في البحر حتى ربما غاب أحدهم عمره في البحر . وقد بلغني ان رجلاً من سيراف ألف البحر حتى ذكر انه لم يخرج من السفينة نحواً من أربعين سنة . وكان اذا قارب البر أخرج صاحبه بقضاء حوائجه في كل مدينة . وكان يتحول من سفينة الى أخرى اذا إنكسرت وتشعثت فاحتيج الى إصلاحها .... وقد اعطوا من ذلك " الثراء " حظاً جزيلاً حتى ان احدهم يبلغ ملكه اربعة الآف ألف دينار . وفي عصرنا قد بلغني ما هو أكثر من ذلك فتراه في لباسه لا يتميز من أجيره " . ( الاصطخري )

 

والقول إن سيراف هي بلدة غنية يشهد عليه ، بالاضافة الى ما ذكر ، أن أبنيتها ذات الطبقات العديدة كانت من خشب الساج الثمين . ويقول المقدسي انها كانت " دهليز الصين ...وعلى الجملة ما رأيت في الاسلام أعجب من دورها ولا أحسن . وقد بنيت من خسب الساج والآجر ، شاهقة تشترى الدار الواحدة بفوق المئة الف درهم " .

 

تقع البصرة على شط العرب ، وتبعد عن البحر بعض الشيء . وعندما نذكر البصرة يجب ان نذكر معها الأبله وعبادان . فهذه الاماكن الثلاثة كانت تعين سير السفن في رأس الخليج . فالأبله " على دجلة ....عامرة كبيرة أرفق من البصرة وأرحب . وثمة بحر رقيق ، ويسمى هذا الموضع بالجرارة ، وهي دخلة من البحر في البر يقرب من بلاد الأبله . ولهذه الجرارة أخذت الخشبات في البحر مما يلي الأبله وعبادان ، عليها أناس يوقدون النار بالليل على خشبات ثلاث كالكراسي في جوف البحر خوفاً من المراكب الواردة من عمان وسيراف وغيرهما ، ألا تقع في تلك الجرارة وغيرها فتعطب فلا يكون لها خلاص ". وقد تحدث الاصطخري عن هذه الجهة وعن الخشبات فقال : " ويرق الماء حتى يخاف على السفن الكبار إن سلكته أن تجلس على الارض إلا في وقت المد . وبهذا الموضع خشبات منصوبة قد بني عليه مرقب ناظور يوقد بالليل ليهتدى به ويعلم به المدخل الى دجلة " . والماء فيها ضيق والبحر عليها مطبق . والظاهر ان عبادان كانت في وقت من الاوقات مقراً للقرصان او متلصصة البحر ، كما سماهم العرب القدامى . ثم أصبحت مقراً لحامية تدفع أذى القراصنة عن المسافرين .

 

كانت عمان أحد المراكز الرئيسة التي تمر بها التجارة بين شرق أفريقيا والصين والخليج الى العراق وغيرها . وعمان على ما رواه ابن حوقل " ناحية ذات اقاليم مستقلة بأهلها ، فسحة كثيرة النخل والفواكه من الموز والرمان والنبق ونحو ذلك. وقصبتها صحار ، وهي على البحر ، وبها من التجار والتجارة ما لا يحصى كثرة . وهي أعمر مدينة بعمان وأكثرها مالاً ، ولا يكاد يعرف على شط بحر فارس بجميع الاسلام مدينة أكثر عمارة ومالاً من صحار " . وجاء المقدسي في أواخر القرن العاشر للميلاد يكمل الصورة فقال : " وصحار قصبة عمان وليس على بحر الصين اليوم بلد أجل منه ، عامر آهل حسن طيب نزه ذو يسار وتجار وفواكه وخيرات .... واسواق عجيبة وبلدة ظريفة ممتدة على البحر . دورهم من الآجر والساج ، شاهقة نفيسة .... دهليز الصين وخزانة الشرق والعراق ومغوثة اليمن ".

 

كانت الرحلة الى بحار الصين او الى شرق افريقيا تبدأ من الأبله ، في منطقة البصرة ، وتجتاز عبادان بإرشاد الخشبات والناظور وما الى ذلك ، مستفيدة من المد وأوقاته . وكانت السفن تجتمع في سيراف ايضاً . وقد تحمل المتاجر في صغار السفن من البصرة الى سيراف حيث يتم نقلها الى السفن الكبيرة . واذا ابحرت هذه السفن في الخليج كان عليها ان تتجنب متلصصة البحرين وقطر وسقطري ، وحتى الهند . لذلك كانت السفن ، في أغلب الاحيان تحمل النفاطين والمقاتلين . ويبدوا ان أهل البصرة قاموا بحملة على القراصنة في البحرين سنة 912 م لكنهم أخفقوا .

 

كان على السفن ، في ابحارها نحو بحر الصين ، أن تختار بين طريقين . فهي إما أن تعرج على صحار ومسقط حيث تحمل بالبضائع وتزود بالماء والمؤنة ، ثم تقصد كولام ( كويلون ) في مالابار . واما الطريق الآخر فكان السير فيه محاذياً لشواطىء فارس ثم شواطيء السند .

 

اما الابحار نحو شرق أفريقيا فكان أقصى ما تصل اليه مراكب المسلمين من أهل البصرة وعمان وسيراف ، هو مدغشقر . وكانت عدن المركز التجاري الكبير بين بلاد العرب وشرق أفريقية . وكانت الملاحة متيسرة في الخليج العربي في كل اوقات السنة . أما بحر الهند فلا يركبه الناس عند هيجانه وظلمته .

 

شملت البضائع التي كانت تنقل على هذه السفن في رحلاتها الطويلة الأقمشة الحريرية والكافور والمسك والافاويه والعاج والحديد وقضبان النحاس والاخشاب . وكانت معظم السفن تقضي من الوقت سنة او ما الى ذلك في رحلتها الواحدة . وكانت التجارة رائجة ومنتشرة آنذاك . فكانت السفن تتجه شرقاً وغرباً ، وقد شاركت فيها سفن الصين المتجهة نحو موانيء الخليج . لكن إضطراب أمر الصين في ما بعد أوقف سيرها هذا على ما يظهر . ويقول المسعودي في هذا المجال: " بلاد كله وهي النصف من طريق الصين او نحو ذلك واليها تنتهي مراكب أهل الاسلام من السيرافيين والعمانيين في هذا الوقت . فيجتمعون مع من ورد من ارض الصين في مراكبهم . وقد كان في بدء الزمان بخلاف ذلك ، وذلك ان مراكب الصين كانت تأتي بلاد عمان وسيراف وساحل فارس وساحل البحرين والأبله والبصرة . وكذلك كانت المراكب تختلف من المواضع المذكورة الى هناك . فلما عدم العدل وفسدت النيات وكان من امر الصين ما كان التقى الفريقان جميعاً في هذا النصف ثم يركب التاجر من مدينة كله في مراكب الصينيين الى مدينة خانفوا ( كنتون ) .

 

يظهر ان المسعودي الذي ركب الكثير من البحار كبحر الصين والروم والخزر واليمن ، والذي أصابه فيها من الاهوال ما لا يحصيه كثرة ، لم يشاهد أهول من بحر الزنج ، وهو البحر الذي يركبه المسافرون من عمان وغيرها الى شرق افريقية . وقال المسعودي في وصفه : " وارباب المراكب من العمانيين يقطعون هذا البحر الى جزيرة قنبلو من بحر الزنج ... والعمانيون ....ومن ارباب المراكب يزعمون ان هذا الخليج المعروف بالبربري .... وموجه عظيم كالجبال الشواهق وانه موج اعمى يريدون بذلك انه يرتفع كإرتفاع الجبال وينخفض كأخفض ما يكون من الاودية لا ينكسر موجه ولا يظهر من ذلك زبد ككسر امواج سائر البحار ويزعمون انه مجنون وهؤلاء القوم الذين يركبون هذا البحر من اهل عمان عرب من الازد " .