الدكتور امين الحافظ يطالب بتعديل النظام الاقتصادي الحر في لبنان

لا معنى لانماء الصناعة من دون الاخذ بمبدأ التخطيط الاقتصادي

لبنان ما يزال في طور " الدولة – الجندرمة "

لا بد من نظام ضرائبي جديد لتحقيق الرفاهية العامة في لبنان

د. امين الحافظ

نائب في مجلس النواب اللبناني ورئيس سابق لمجلس الوزراء

نشر اللقاء في حزيران / يونيو 1961 ، العدد الثامن ، الرائد العربي

كيف نبني صناعة قوية في
لبنان ؟.

ما هو أثر الحركة الصناعية العربية على الصناعة اللبنانية ؟ .

هل يتناقض التخطيط مع النظام الاقتصادي الحر القائم ؟ .

كيف توزع مغانم الازدهار في لبنان على جميع المواطنين والمناطق ؟ .

ما هو نوع الدولة في لبنان ، وهل يخدم النظام الضرائبي الحالي تحقيق دولة الرفاهية العامة ؟ .

كل هذه الاسئلة المهمة التي تشغل بال المواطنين في لبنان وخارجه أجاب عليها الدكتور امين الحافظ ، عضو مجلس النواب اللبناني في حديث خاص أدلى به الى مجلة الرائد العربي . وفي ما يلي نص الحديث .

تحدث الدكتور الحافظ عن رأيه في أفضل الوسائل الكفيلة بتقوية الصناعة اللبنانية فقال : أنا لا يهمني قيام صناعات جديدة في
لبنان او تشجيع الصناعات القائمة ، بقدر ما يهمني قيام حركة انماء صناعي يتم تخطيطها وفقاً لحاجات لبنان، مع الاخذ بعين الاعتبار امكانات التصريف الصناعي داخل لبنان وخارجه ، أي بعد ان يبذل جهد جماعي مؤداه تنسيق التخطيط في لبنان مع التخطيط الانمائي في البلدان العربية المجاورة . أقول " تنسيق " وأود بالفعل ان أقول " توحيد " لأن العالم الآن ، الذي يتحول الى كتل كبرى مهمتها الاقتصادية تبادل المنتجات وتسهيل التصريف ، لا بد ان يكون أمثولة للبلاد العربية التي تشكل سوقاً طبيعية متكاملة ، وان يدرس الانماء الصناعي في لبنان على أساس هذه الوحدة المتكاملة حتى يتسنى للصناعات القائمة والمستحدثة ان تتمتع بالمقومات الدائمة لوجودها واستمرارها وتوسعها وتحسين جودتها .

زيادة الانتاج وعدالة التوزيع

لم أعد أؤمن بأي حركة او تدبير او قرار او قانون يصدر او يتخذ اذا كان منفرداً عن مخطط شامل ينظر فيه لا الى زيادة الانتاج وزيادة الازدهار والرخاء فحسب ، بل الى حسن توزيع مغانم هذا الازدهار وهذا الانتاج توزيعاً عادلاً على المواطنين والفئات والمناطق . فالانتاج لم يعد في أي دولة متقدمة الهم الاوحد ، بل انه أصبح مقروناً دائماً بهم التوزيع .

التوفيق بين التخطيط والنظام الاقتصادي الحر

إن هذا الموضوع عرض على بساط البحث مرات عديدة ، وكان دائماً حجر عثرة في سبيل تحقيق كثير من المشاريع العربية . ويحضرني كمثال على ذلك ، مشروع السوق العربية المشتركة الذي كان لبنان اول من دعا اليه . وقد استجاب لهذه الدعوة بادىء الامر عدد من الدول العربية الاخرى ، حتى ان بعضها قد عادت وتبنته . لكن الخلاف وقع منذ البداية حول كيفية إقامة هذه السوق ، وهل ستكون مقفلة ام مفتوحة ، فكان إتجاه معظم الدول العربية ان تكون سوقاً مقفلة، ، ولو في بادىء الامر . ففترة عندها همة لبنان ولم يعد يثيره هذا الموضوع ، حتى ان موقف وفده السلبي في اجتماع المجلس الاقتصادي في بغداد قبل شهرين كان أوضح دليل على عدم استعداد لبنان الرسمي للتفريط بنظامه الحر .

نظام الاقصاد الحر ولبنان

ما دمنا في هذا الصدد ، فلنشرح ، ولو بعجالة قصيرة ، أهمية هذا الاقتصاد الحر . إن هذا النظام الذي قل ان تجد له مثيلاً في أي قطر من أقطار العالم ، حتى في أشد الاقطار تمسكاً بالرأسمالية ، ما خلا هونغ كونغ وطنجة سابقاً وغوا وغيرها من مراكز التهريب والخدمات العابرة المنتشرة على عدد من الموانىء والشطآن في العالم ، قد حقق بالفعل مغانم كبيرة للبنان . فقد تدفقت عليه الاموال وازدهر مرفأ بيروت وزاد عدد المصارف والبنوك ونشط الوسطاء واتسعت تجارة الاستيراد وازدهر الترانزيت الى بضع سنوات خلت ، كما راجت اعمال الصيارفة والسماسرة والمهربين وما الى ذلك ، فشهد لبنان توسعاً هائلاً في حركة البناء وارتفاعاً كبيراً في اسعار الاراضي واقبالاً شديداً على دور اللهو والمصايف ، مما يدل على ان هذا النظام قد ملأ عدداً من الجيوب بالمال ، وأظهر العاصمة بيروت وبعض المراكز السياحية المحيطة بمظهر الرخاء والغنى ، واجتذب عدداً كبيراً من المزارعين تاركين اراضيهم الزراعية والهبوط الى العاصمة لتعاطي اعمال قلما تكون منتجة ، وقد يكون معظمها مقتصراً على مسح الاحذية وبيع العلكة وتعاطي اعمال الخدمة البسيطة.

أثر الانقلابات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد العربية على لبنان

هذا النظام الذي كان مقدراً له ان يعيش ويتوسع طالما ان لبنان هو الوحيد في الشرق الاوسط الذي يتمتع بعلاقات فريدة مع الغرب ، وطالما ان الغرب هو المورد الوحيد للثروات والاعمال. لكن الحال تبدلت وتغيرة منذ سنوات عديدة . وقامت في منطقة الشرق الاوسط انقلابات اجتماعية واقتصادية جعلت حاجات هذه المنطقة التي كان يخدمها لبنان ان تتغير وتتطور ، حتى ان نوعية المستهلكين قد تبدلت ، ولم تعد هذه الاقطار تعتمد اعتماداً قوياً على خدمات لبنان وعلى المستورد اللبناني وعلى الموانىء اللبنانية ، بل نهجت نهجاً وطنياً واتصلت هي مباشرة بمن تشاء من اقطار العالم من دون الاستعانة بوساطة لبنان ، فهبطت تجارة الترنزيت هبوطاً ذريعاً ولم تعد تحسب في طليعة موارد البلاد كما كانت في الماضي . وكذلك أصاب حركة الاصطياف ما أصاب الترنزيت ولم تعد مزدهرة كما كانت قبل سنين خلت لأن حركة انتقال الاشخاص في البلاد العربية قد خفت ، ولأن بعض البلدان العربية اقامت مصايفها الخاصة . وقد أتت هذه الوقائع تعزز فكرة السوق العربية المشتركة المقفلة لأن موارد لبنان من خدماته التقليدية التي يصر في الابقاء عليها وحده ، سوف تشح رويداً كلما دخلت أقطار عربية في انقلاباتها الاجتماعية التي لا مفر منها ، عاجلاً ام آجلاً . فمن الأفضل ان يدخل لبنان منذ الآن في مجهود التخطيط الذي تقوم به الدول العربية المجاورة . وهذه هي النتيجة التي أردت أن أصل اليها في مطلع هذا الحديث ، مع العلم ان التوحيد في التخطيط للانماء الاقتصادي عامة لا يؤثر ، بحال من الاحوال ، على سيادة لبنان السياسية ولا على استقلاله وكيانه . وانا لا أعني فيما أقول ان يمتنع لبنان ، عندما يعدل نظامه الحر ، عن تقديم الخدمات الى البلدان المجاورة ، بل على العكس ، انا أعتقد ان لبنان هو القطر الامثل لتقديم انواع كثيرة من الخدمات ، على ان تتكيف هذه الخدمات مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية الحاصلة في المنطقة ، وعلى ان تدخل هذه الخدمات في مجهود التخطيط العربي العام ، حتى تؤمن لها دوامها واستمرارها وعدم نشوء منافس عربي لها . ولعل من أهم انواع الخدمات التي يجب ان ينصرف اليها لبنان هي البحوث والاستشارات العلمية والصناعية والهندسية التي يمكنه ان ينفذها في مشروعات انتاجية وانمائية وانشائية قائمة في كل مكان في الشرق الاوسط في الوقت الحاضر ، وانشاء مجموعات وارهاط من الخبراء الوطنيين الذين يمكن ان يكونوا عنصر تصدير كبير لبضاعة أصبحت مطلوبة في المناطق المتخلفة المنكبة الآن على انماء نفسها ، ألا وهي بضاعة الخبرة العلمية والاستشارات . ويستطيع اللبناني ان يبدع في هذا المضمار نظراً لثقافته الواسعة واتصالاته ، إن في الشرق او في الغرب ، واسفاره والاعمال التي تعاطاها في مشارق الارض ومغاربها .

العناصر الاساسية للنمو

اذا عدنا الى موضوع الانماء الصناعي في لبنان  فلا بد لنا ان نذكر العناصر الاساسية التي يجب ان تتوفر بعد القبول بمبدأ التخطيط العام الذي يهيء الاسواق الدائمة . هذه العناصر هي : اولاً ، تشكيل رؤوس اموال وطنية وتمويل وطني . وهذا لا يمكن ان يتم بوجود النظام الحر المغرق في الحرية . فمثلاً، لا يوجد بنك للتسليف الصناعي في لبنان سوى بنك واحد للتسليف الصناعي والزراعي والعقاري تشترك فيه الحكومة ولا يمنح الا النذر اليسير من القروض لتمويل جزء طفيف جداً مما ينبغي تمويله لانماء الصناعة اللبنانية . وثانياً، التدريب المهني الذي بدأت الحكومة اللبنانية بالفعل تفكر فيه جدياً مستعينة ببعض المنظمات الدولية . وثالثاً، تأمين عنصر الجودة باستحداث القوانين الضابطة للانتاج من منتجات صادرة ومواد اولية مستوردة . ولقد صدقت الحكومة اللبنانية مؤخراً على مشروع انشاء مكتب للمقاييس والمواصفات ، وهو مكتب نجد له مثيلات له في الدول الصناعية الراقية ومهمته فرض مقاييس ومواصفات معينة ومحددة على الاجهزة والمنتجات التي تتعلق بالصحة والسلامة العامة ، واقتراح مقاييس مواصفات لسائر المنتجات والاجهزة والمواد الاخرى التي يتم التعامل بها في الصناعة والزراعة وفي الاستيراد والتصدير ، ومنح شهادة او شارة للمنتجات التي تتلاءم مع هذه المواصفات والمقاييس ، بحيث تكون هي الوحيدة التي يعترف بها جهاز فني رسمي متخصص ، وتكون هي رسول الجودة للصناعة اللبنانية في الداخل والخارج .

نوع الدولة ونظامها الضرائبي

على الدولة في لبنان ان تتحول من دولة " الجندرمة " ، أي الدولة التي يقتصر نشاطها على حفظ الامن وتسيير الشؤون العادية للمواطنين الى نظام " الدولة العناية " او دولة الرفاهية العامة . فدولة الجندرمة التي قامت في القرن الماضي لم تعد قائمة الا في المناطق المتخلفة في العالم . ولا ريب ان هذا الانتقال او التحول يتطلب مالاً وافراً تحتاج اليه مشاريع الضمانات والانشاءات العمرانية والانمائية والتمويلية وغيرها . وهذا المال لا يمكن ان يتحصل الا بنظام ضريبي جديد يتعارض مع النظام الحر الذي يتبعه لبنان في الوقت الحاضر . ولا يتحقق هذا التحول الا بوعي شعبي عام يدفع الى الحكم بحكام واعين لمصلحة جميع الفئات والمناطق ومخلصين في خدمتهم لهذه الفئات ، مع العلم ان هذا الشعب هو مع الاسف عالم بهذا الذي نذهب اليه وليس بجاهل له ولكنه على علمه يختار عامداً الطريق الخطأ لأن عقلية الموانيء هي المسيطرة ، وهي عقلية قائمة على السمسرة والصيرفة والتجارة والتهريب ، وكلها تولد أخلاقاً لا تؤدي الى تكوين وطن ولا مواطنين بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى .