النمو والهياكل الاقتصادية في الشرق الاوسط

تأليف البروفسور الياس غناجة

نشر هذا العرض لكتاب غناجه في اذار / مارس 1961 ، العدد الخامس ، الرائد العربي .

بعد ان ظهر مفهوم الدخل القومي في عالم النظريات الاقتصادية وحسنت وسائل حساباته ، إستعمل كمقياس لمقدار التقدم الاقتصادي . فالدول المتقدمة اقتصادياً هي تلك التي يزيد الدخل القومي للفرد فيها عن حد معين، والدول المتخلفة هي تلك التي يقل فيها الدخل القومي عن ذلك الحد . وكانت لدراسات الاقتصادي الشهير كولن كلارك المقارنة للدخول القومية في عدة بلدان ومناطق ، الأثر الكبير في بلورة هذا المفهوم وتبنيه كمقياس للتقدم (1 ) .

غير ان إعتماد الدخل القومي للفرد كمقياس وحيد للتقدم او للتخلف له محاذير كثيرة . فهنالك عوامل اخرى مهمة ترتبط بالتقدم او بالتخلف الاقتصادي ولا تظهرها احصاءات الدخل القومي المختصرة ، ككيفية توزيع الدخل ، ووجود الموارد الطبيعية ، وامكان استثمارها في حالة التقنية السائدة ، وكون الدخل ناتجاً عن فعل الاقتصاد الداخلي وعمله لا عن عوامل خارجية موقتة .

يظهر قصور استعمال الدخل القومي للفرد كقياس للتخلف او للتقدم بصورة أوضح عندما نقارن اوضاع المجتمعات الصناعية واوضاع المجتمعات التي لم تمر بمرحلة التصنيع بعد . ففي هذه المجتمعات الاخيرة يقوم قسم كبير من الانتاج على أساس عائلي او محلي ، فلا يدخل ضمن عمليات السوق ، فتهمل بذلك كميات كبيرة من الخدمات والبضائع اذا إتبعت وسائل تقديرات الدخل في الدول الصناعية . كما ان هنالك امور عديدة تدخل في حسابات الدخل القومي في الدول الصناعية فتضخمه من دون ان تعبر عن رفاه فعلي ، إذ هي لا تتعدى كونها وسائل تخفف من اضرار النظام الصناعي المعقد وتركزه في منطقة معينة كالسلسلة الطويلة من خدمات نقل وتوزيع سلع وتنقلات العمال والموظفين يومياً الى مراكز اعمالهم (2) .

لهذه الاسباب أخذ فريق من علماء الاقتصاد بالنظر الى الدخل القومي الفردي بتحفظ ، ومنهم من قام بوضع مقاييس أخرى بديلة (3).

البروفسور الياس غناجه ، أستاذ علم الاقتصاد في كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية ببيروت ، ينحو منحى هذا الفريق الاخير وينتهج نهجهم . ففي رأيه ان المقاييس الكمية للرفاه " يجب ان تقبل بتحفظ لأنها لا تأخذ بالاعتبار الفروقات بين مختلف مناطق العالم ، الناتجة عن اختلاف في هياكلها الاقتصادية الاجتماعية ... فما وراء المقاييس الكمية للرفاه تكمن مشاكل العقلية والثقافة والبيئة والعقبات المؤسسية ، وأي إهمال لهذه العوامل يحيل كل بحث الى ضرب من العبث . ومن ثم ، فإن أي تعريف مقبول للتخلف الاقتصادي يجب ان يتخطى الاسلوب الاحصائي ليتوصل الى بحث الهياكل والنمو " (ص 11 ) .

إنطلاقاً من هذه النظرة الى التراكيب والهياكل الاقتصادية لمنطقة الشرق الاوسط ، يصف الاستاذ غناجه اقتصاد المنطقة بالتخلف لأن فيه تباينات هيكلية وتركيبية ترجع الى أسباب ثلاثة :

اولاً ، التباين الناتج عن الفروقات بين معدل الولادات ومعدل الوفيات .

فازدياد سكان الشرق الاوسط يرجع الى انخفاض في معدل الوفيات الذي لا يجاريه انخفاض مماثل في معدل الولادات . ومن الصعب ان يحصل انخفاض في معدل الولادات في مستقبل قريب . فذلك يتوقف على حركة الهجرة الى المدن وازدياد الدخل وتوسع المعارف ، وكلها عوامل تأخذ وقتاً طويلاً لتعطي آثارها . واختلال التوازن بين الانتاج والسكان ومعدل الزيادة لكل منهما يؤدي الى دخل منخفض للفرد والى شقاء يتضح في ميادين الصحة والمأكل والملبس والمسكن والثقافة . إن هذا التباين في الهياكل يطبع اقتصاد الشرق الاوسط بطابع اللاإنسانية .

ثانياً ، التباين الناتج عن عدم ملاءمة المؤسسات لمتطلبات التوسع الاقتصادي .

يتصف اقتصاد الشرق الاوسط بعدم الائتلاف ، إذ انه مؤلف من قطاعات غريبة بعضها عن بعض وغير منسجمة ولا متوافقة . فالتركيب الاساس للمنطقة هو تركيب زراعي ، ومعظم السكان يعتاشون من الزراعة (حوالى 60 الى 70 بالمئة . وتشكل الزراعة جزءاً كبيراً من الدخل القومي ، منها 65 % في سوريا و32 % في مصر ) . واعتماد اقتصاد الشرق الاوسط على الزراعة يجعله اقتصاداً متقلباً وغير ثابت ، لا بسبب التغيرات المناخية فحسب ، بل ايضاَ لاقتصار الزراعة على محاصيل زراعية محدودة كالقطن في مصر والحبوب في سوريا وفي العراق . فتقلبات الاسعار العالمية لهذه المنتجات تخرج عن سيطرة دول الشرق الاوسط .

على هذا القطاع الزراعي الاساسي يتركب قطاع الرأسمالية البترولية الذي يرتبط بدوره ارتباطاً مباشراً بخارج المنطقة من حيث تسويقه وتصديره والشركات الي تستخرجه . أما إرتباطه بالمنطقة فهو ارتباط غير فاعل وغير مباشر ( عن طرق العائدات ) . وعلى قطاع الزراعة كذلك تركب قطاع الرأسمالية التجارية في لبنان حيث تؤلف التجارة 30 بالمئة من الدخل القومي .

الى جانب عدم إئتلاف الهياكل في اقتصاد الشرق الاوسط ، يتصف هذا الاقتصاد بصفة التفكك . فوسائل الانتقال متمزقة وغير مترابطة ، إن في مجاريها الحقيقية flux reels حيث تظهر عدم كفاية وسائط نقل البضائع والاشخاص ، او في مجاريها النقدية flux monetaires حث تقصر شبكات الائتمان والتسليف عن القيام بواجباتها على أكمل وجه . فالنقص الفادح في وسائط نقل البضائع والاشخاص من طرق معبدة وسكك حديدية يقف حجر عثرة امام التوسع الاقتصادي ، خصوصاً في منطقة الجزيرة السورية . كما ان ضعف مراكز الإئتمان والتسليف ، خصوصاً على الاجل المتوسط والاجل الطويل واعتمادها على الاسواق المالية الخارجية يعوق عمليات التوسع الاقتصادي . ولعل ذلك يرجع الى الاكتناز ، سواء إتخذ شكل ذهب او اوراق مالية ، والى صرف كثير من الاموال على بضائع الاستهلاك الفخمة غير المنتجة . وصفة التفكك هذه تزيد من قوة العقبات التركيبية امام سبل التقدم الاقتصادي ، كفقدان الرأسمال الاجتماعي الثابت ، ونقصان الخدمات الصحية والتعليمية ، وغياب اليد العاملة الفنية ، وانتشار البطالة المقنعة ، والسوق المحدودة عامودياً وأفقياً . إن كل هذه العوامل تجعل من اقتصاد الشرق الاوسط اقتصاداً مبتوراً مشوهاً .

ثالثاً ، التباين الناتج عن تركيب صناعي قائم على اقتصاد بدائي .

إن هذا التباين يعطي اقتصاد الشرق الاوسط صفة التبعية بالنسبة للاقتصاد الاجنبي . فالاستثمارات الاجنبية في قطاع البترول تؤلف جزءاً من اقتصاد بلادها الاصلية وتنتمي اليها أكثر من إنتمائها الى البلاد العاملة فيها . فهي تتكامل واقتصاد بلادها الاصلية ولا تشكل في منطقة الشرق الاوسط محوراً للنمو ومركزاً لاشعاع النمو الحركي الذي يولد سلسلة من الصناعات الاخرى . إن صفة التبعية والاعتماد هذه تظهر ايضاَ في هيكل التجارة الخارجية للمنطقة . فنسبة الصادرات للدخل القومي مرتفعة ( مع العلم ان الدخل الفردي منخفض ) ، إذ تبلغ 20 % و 30 % و 50 % في مصر وسوريا والعراق على التوالي . وزيادة على ذلك ، فإن صادرات بلاد المنطقة محددة بإثنين او ثلاثة من المنتجات ، كالقطن في مصر ( 83 % من مجموع الصادرات ) ، والحبوب في سوريا ( 26 % من مجموع الصادرات ، وفي العراق 75 % من مجموع الصادرات ) . فأي تأثير في الاسعار العالمية لهذه المنتجات والمحاصيل ينعكس بصورة واضحة على الدخول القومية لبلاد المنطقة وذلك يشكل عقبة في وجه كل تخطيط على المدى البعيد . وبما ان معظم صادرات بلاد منطقة الشرق الاوسط مواد أولية ، فأسعارها عرضة للتقلبات بصورة أشد من تقلبات اسعار المواد الصناعية .

اذا كان التباين في هياكل الشرق الاوسط الاقتصادية يؤدي الى إقتصاد لا إنساني ومبتور متفكك وتابع لاقتصاديات أخرى ومعتمد عليها ، فلا بد من خلق التلاؤم والانسجام والائتلاف بين الهياكل الاقتصادية لتتيح نمواً متوازناً . ومن أجل تحقيق هذا النمو المتوازن ، يرى المؤلف انه لا بد من تدخل الدولة في عمل القوى الاقتصادية ، تدخلاً فعالاً . ولا بد للدولة من ان تتمتع بسلطات واسعة لتحطم الهياكل البالية العتيقة وتوجه الاستثمارات وتستغل الموارد الطبيعية وتضع تخطيطاً شاملاً ومفصلاً لكل قطاع . والدولة القوية ضرورية ، لا من أجل كل ذلك فحسب ، بل من أجل فرض التقشف على جموع الشعب التائقة نحو تحسين احوالها المعيشية . ذلك ان النمو والتقدم الاقتصادي يفرضان التقشف ، لأنهما يفرضان الحد من الاستهلاك لصالح الاكثار من الاستثمار .

يرى البروفسور غناجه ، وعن حق ، ان " ثورة 1952 في مصر ، لأنها ثورة ذات سلطة قد حققت تحطيم الهياكل الاقتصادية البالية وشجعت النمو الاقتصادي باتباعها سياسة تخطيطية مفصلة . وهي لا تنفي التطور نحو ديمقراطية تستجيب لتقاليد وعادات الشعب "( ص 134). وفي حركة القضاء على الهياكل الاقتصادية هذه ، لابد من ان يلعب الشعور القومي دوراً لتكتيل الجماهير وحثها على تحقيق اهداف الخطة الاقتصادية . وهذه القومية قد تلجأ الى تأميم المنشآت الاجنبية من اجل تحرير الاقتصاد القومي . وعلى الغرب ان يتفهم هذه التدابير وان لا يلجأ الى تدابير ثأرية كالضغط الاقتصادي ، وذلك حتى يتحقق في المدى الطويل تكامل اقتصادي عالمي على أساس المساواة .

كتاب البروفسور غناجه كتاب قيم ، جمع بين دفتيه إحصائيات دقيقة وتحليلاً عميقاً . وفي عرضه لواقع اقتصاد منطقة الشرق الاوسط ومشاكله ، جمع المؤلف صفات دقة الاحصائي الى جانب تجرد العالم وعمق الباحث . وفي الخاتمة العامة الموجزة الرائعة للكتاب ، تظهر الحلول التي قدمها المؤلف نفاذ بصيرة وصواب رأي . وهي تفتح آفاقاً فكرية واسعة جديدة ، حرية بالتعمق والبحث . إنه كتاب جدير بالمطالعة والدرس .

________________________________________________________________

(1) انظر كتابه Condition of Economic Progress
(2) انظر بهذا الخصوص مقالة بعنوان " الدخل القومي والهيكل الصناعي " في كتاب نشره سيمون كزنتس بعنوان Economic Change
(3) كعالم الاقتصاد الفرنسي فرنسوا بيرو F. Perroux