حول تطور الصناعة في لبنان

د . طلحة اليافي

المدير العام لبنك التسليف الزراعي والصناعي والعقاري في بيروت

نشر هذا المقال في شباط / فبراير 1961 ، العدد الرابع ، الرائد العربي

طلبت " الرائد العربي " من الدكتور طلحة اليافي استعراض العوامل التي أسهمت في تطور الصناعة في لبنان بصورة عامة، فزودها بالمقال الموجز التالي .

يعتبر
لبنان اليوم ، بالنسبة الى عدد سكانه البالغ حوالى مليون ونصف مليون نسمة ومساحته البالغة حوالى عشرة الاف كيلومتر مربع ، من أكثر بلدان الشرق الاوسط تصنيعاً . فالاحصاء الصناعي لسنة 1955 يظهر ان القيمة التي أضافها القطاع الصناعي المحلي على الدخل القومي قد بلغت 155 مليون ليرة لبنانية ، أي حوالى 12 بالمئة من هذا الدخل . ويعني ذلك ان النشاط الصناعي يأتي في المرتبة الثالثة بعد التجارة وقطاع الزراعة اللذين يسهمان بحوالى 30 او 20 بالمئة من الدخل القومي على التوالي .*

يعطي الاحصاء الصناعي قائمة ب 1861 مؤسسة تبلغ قوتها العاملة الكلية 25013 عاملاً ، أي أكثر من 10 بالمئة من القوة العاملة للسكان . ويبين الاحصاء كذلك ان حوالى 90 بالمئة من النشاط الصناعي يتركز في الصناعات التحويلية ، والخمسة بالمئة الباقية في استخراج المعادن والاحجار ، وان أكثر الصناعات التحويلية توليداً للدخل هي صناعة الاطعمة والمشروبات والتبغ والمنسوجات والاحذية والحياكة والاسمنت وصناعة المواد غير المعدنية والصناعات الكمياوية والجلود والطباعة والمنتجات المعدنية . وليست هناك ارقام رسمية تبين لنا النسبة المئوية من الانتاج الصناعي المستهلك محلياً والنسبة المئوية المصدرة الى الخارج . لكن يسود الاعتقاد ان حوالى اربعة أخماس الانتاج الصناعي يستهلك في السوق المحلية ، والخمس الباقي يصدر الى الاسواق العربية المجاورة .

لم يحصل هذا التقدم الصناعي الحديث في لبنان إلا في السنوات العشرين الاخيرة فقط . فقبل الحرب العالمية الثانية كانت المصانع الآلية قليلة ، وكان لا يزال اكثر من 80 بالمئة من النشاط الصناعي لا يزال قائماً على اساس حرفي يدوي . وعليه ، فانه لم يكن منافساً إطلاقاً لمنتجات الصناعات الالية الاجنبية . إن عدم اهتمام السلطات الفرنسية المنتدبة المطلق ، إن في لبنان او في سوريا ، بتشجيع تصنيع البلد ، كان عاملاً مهماً في تأخر التوسع الصناعي المبني على الالات الحديثة خلال فترة ما بين الحربين . فبينما كانت معظم بلدان العالم تتبع سياسة تجارية تقييدية وجاهزة لتنمية توسعها الصناعي الخاص ، كانت السلطات الفرنسية المنتدبة تشجع شكلاً متطرفاً من سياسة الحرب التجارية ، من دون اي اعتبار لسياسة حماية الصناعات المحلية التي تستلزم شيئاً قليلاً من تحويل المواد الاولية المتوفرة . ولو أعطت السلطات الفرنسية هذه الصناعات مقداراً معقولاً من الحماية الجمركية في سنيها الاولى ، لكان من المكن إقامة مؤسسات عديدة وجعلها قابلة للحياة . وعندما شلت الحرب العالمية الثانية التجارة العالمية أصبح استيراد المنتجات الصناعية الاجنبية ، التي كان لبنان بأمس الحاجة اليها ، أمراً صعباً ، إن لم يكن مستحيلاً .

 

إن ندرة هذه المنتجات واسعارها المرتفعة شجعت بعض ارباب العمل اللبنانيين على انتاج منتجات ضرورية من المواد الاولية الموجودة في لبنان او في المناطق المجاورة . ومكنت سهولة تسوبق هذه المنتجات المحلية باسعار مريحة ، إن في السوق المحلي او في اسواق البلدان العربية المجاورة ، ارباب العمل هؤلاء من استثمار ارباحهم الفائضة لتوسيع الانتاج وتحسين وسائله. وجذب ارتفاع ارباح المؤسسات الجديدة بعض التجار المحليين وشجعهم على الاتجاه نحو الصناعة كمجال لاستثمار رؤوس اموالهم الفائضة ، هذه الاموال التي جمعت بصورة رئيسة خلال فترة الحرب . ونستطيع ان نؤكد ان ارباح التجار المحليين خلال الحرب وما بعدها هي المصدر الاكبر لقسم من راس المال المستثمر في مختلف الصناعات المحلية .

تابع التقدم الصناعي توسعه بخطى سريعة خلال السنوات القليلة التي تلت الحرب ، فحافظة الارباح على المستوى الذي بلغته في سني الحرب . ويرجع ذلك الى سببين إثنين هما : اولاً ، بقاء عرض معظم المنتجات الصناعية الاجنبية دون مستوى الطلب ؛ وثانياً ، الاعفاء الجمركي الذي منحته الحكومة اللبنانية لعدد من المواد الاولية والالات . ومنذ عام 1950 أخذ معدل الانتاج الصناعي ، ومعدل الاستثمار ، بالتزايد ولكن بمعدل متناقص . ويعزى ذلك ، بصورة جزئية ، الى انهاء الاتحاد الجمركي اللبناني – السوري عام 1950 الذي حد من حجم السوق الداخلة ، وبصورة اكبر ، الى زيادة منافسة المنتجات الاجنبية . وبكلمة موجزة ، يمكن القول انه ، خلال السنوات القليلة الماضية ، اهتم الصناعيون اللبنانيون بتثبيت الصناعات القائمة وتماسكها ، أكثر من اهتمامهم برفع انمائها . وبتعبير آخر ، في حين ان كثيراً من المصانع استمر في التوسع، خصوصاً بتركيب آلات أحدث واكثر فعالية ، كان عدد ما أنشيء من المصانع الجديدة قليلاً .

حدا الخوف من ان تؤدي سياسة تقييد التجارة وحمايتها حماية شديدة الى خنق الارباح التي كان يجنيها الاقتصاد اللبناني من النشاطات والخدمات التجارية الواسعة التي يقدمها لبنان للبلاد العربية المجاورة ، حدا بالحكومة الى اتباع سياسة الاعتدال الحكيم نحو التصنيع .

يتلخص الموقف الرسمي تجاه التصنيع في تخفيض التعرفة الجمركية وفي عدة حالات ، الغائها على الآلات والمواد الاولية او المصنعة تصنيعا خفيفاً ، والمستعملة في الانتاج المحلي ، وفي فرض رسم معتدل على المنتجات الصناعية الاجنبية للحد من منافستها للصناعات اللبنانية الحديثة العهد . ومع ان الحماية لا تتخذ شكل الحظر المطلق ، فيما عدا حالة المخدرات ، فان الرسوم ، خصوصاً اذا كانت ذات طبيعة نوعية ، تبلغ حد الحظر على بعض المنتجات القليلة . وعلى العموم تتراوح الرسوم بين 1 بالمئة على الآلات وتصعد تدريجياً حتى تبلغ 60 بالمئة من قيمة المنتجات . وهذا الرقم الاخير لا يعطي صورة صادقة ، اذ ان الرسم يحسب على اساس سعر صرف الدولار الرسمي البالغ 20. 2 ليرة لبنانية للدولار الواحد . وهذا السعر يمثل ثلثي السعر الحر . وتبعاً لذلك ، فالرسم البالغ 60 % من قيمة البضاعة يعني حماية قدرها حوالى 40 % فقط .

كانت سياسة الحماية المعتدلة هذه ، على العموم ، ناجحة من حيث انها لم تعط حماية مصطنعة للصناعة ولم تؤد الى توجيه الاستثمار توجيهاً خاطئاً ، ومن حيث انها ساعدت في تخفيض كلفة الانتاج في عدد كبير من المصانع القائمة مما أهلها لان تكون قادرة على المنافسة . وفي الوقت نفسه ، كانت سياسة مرشدة وموجهة لتأسيس الصناعات التي يمكن اقامتها على اساس اقتصادي من دون ان تحتاج الى حماية مصطنعة .

في السنين القليلة الماضية ، إتخذت الحكومة اجراءات إضافية لتشجيع الانماء الصناعي . ففي سنة 1953 أنشأت السلطات المختصة المعهد الصناعي بمساعدة برنامج المعونة الفني الاميركي وجمعية الصناعيين اللبنانيين . ويهدف هذا المعهد الى تحليل البحوث ودراسة المقاييس والقيام بعمليات مساعدة للصناعة . والمعهد جاهز اليوم ليقدم اي مساعدة فنية تستلزمها المشاريع المحلية مقابل رسم زهيد . واسست السلطات في السنة ذاتها مجلس التصميم كهيئة مستقلة مرتبطة بوزارة الاقتصاد الوطني . وضم المجلس سنة 1956 الى وزارة التصميم الجديدة . اما أعماله الرئيسة فهي اعداد برنامج شامل للتنمية لكل قطاع من الاقتصاد ، واسداء النصح للحكومة في كل المشاكل الاقتصادية والمالية والانمائية .

أصدرت الحكومة اللبنانية في شباط / فبراير عام 1954 قانوناً يعفي الشركات التي تأسست في السنوات الخمس التي تلت صدور القانون من دفع ضريبة الدخل لمدة ست سنوات اذا استوفت الشروط التالية :

1 – ان تكون منتجات الشركة من نوع جديد .

2 – ان يؤدي عمل الشركة الى زيادة الانتاج الوطني .

3 – ان لا يقل راسمال الشركة المشغل في لبنان عن مليون ليرة لبنانية .

4 – ان تزيد مدفوعاتها الكلية لاجور العمال والموظفين اللبنانيين عن مئة الف ليرة .

وإعفيت ، حتى الآن ، بموجب هذا القانون أكثر من ثلاثين شركة من ضريبة الدخل ، رغم ان بعض راساميلها اسهمت فيه جهات أجنبية .

إتخذت الحكومة اللبنانية تدبيراً آخر لتشجيع التنمية الصناعية عندما أسهمت في اواخر سنة 1954 في تأسيس البنك الزراعي والصناعي والعقاري . ويهدف البنك الى إعطاء قروض ذات آجال متوسطة وطويلة للمزارعين والصناعيين والمؤسسات التي تشجع السياحة كالفنادق والملاهي الليلية وما أشبه . وباشر المصرف أعماله في القسم الثاني من سنة 1955 ، وقدم حتى اليوم قروضاً قاربت كامل امواله المخصصة للاقراض ( حوالى 72 مليون ليرة لبنانية حتى آخر 1960 ) .

مع ان السنوات العشرين الاخيرة قد سجلت تقدماً صناعياً كبيراً ، الا ان الامل في تصنيع أكثر كثافة يتوقف على توسيع السوقين ، المحلي والخارجي على حد سواء . اما ما يحد من توسع السوق المحلية ، بالاشتراك مع عوامل أخرى ، هو عدد السكان المحدود والقوة الشرائية ، رغم ان هذه القوة الشرائية هي الاعلى في الشرق الاوسط . وتنبيء مخططات الحكومة الطموحة في حقل التنمية الصناعية بارتفاع مستويات المعيشة في السنين القادمة وما يتبعه من طلب متزايد على منتجات الصناعة المحلية ، وبالتالي تنشيط الازدهار الذي يطال اكبرشريحة من ابناء البلاد. أما السوق الخارجية ، خاصة الاسواق العربية ، فإنها أكثر نفعاً وتأثيراً ومردوداً من السوق المحلية لسببين اثنين هما : اولاً ، كون معظم البدان العربية ، وخاصة النفطية منها ، تمر في فترة فورة مالية واقتصادية لم يسبق لها مثيل . فالعائدات النفطية تمكن البلاد المنتجة له ان تنتقل من نمط اقتصادي بدائي الى اقنصاد متطور . وتبعاً لذلك ، فان مستويات المعيشة سترتفع . وهذا بدوره يولد طلبا متزايداً على المنتجات الحديثة ، بما فيها المنتجات اللبنانية ؛ ثانياً ،تأثير الاتفاق التجاري الذي وقعت عليه الدول العربية سنة 1954 والذي منح المنتجات اللبنانية معدلات جمركية منخفضة في البلد العربي المستورد .

ولا بد من الاشارة هنا الى ان التسهيلات الجمركية وسواها التي تمنحها البلدان العربية المشاركة في السوق العربية المشتركة لبعضها البعض ، لا بد لها ان تؤثر ايجاباً على التجارة والمدفوعات فيما بينها ، وبالتالي على الصناعة الناشئة والمتطورة في بعض البلدان العربية ومنها لبنان .

• وزارة الاقتصاد الوطني ومعهد الابحاث الاقتصادية في الجامعة الاميركية ، الاحصاء الصناعي لسنة 1955 ، بيروت
• 1957 ص 1 .

ملحق

                        الصناعات اللبنانية ( احصاء 1955 )

عدد المؤسسات                                    1861 في جميع المناطق

                        توزيع العمال على المؤسسات

العمال                                                  المؤسسات

5 – 9                                                  10031

10 – 24                                                581

25 – 49                                                149

55 – 99                                                 60

100 فما فوق                                          40

مجموع عدد العمال                                     35013

العمال البالغة اعمارهم 18 سنة فما فوق                         31232

العمال البالغة اعمارهم أقل من 18 سنة                           3881

المالكون العاملون                                                        2440

افراد العائلة العاملون بدون اجر                                        605

العمال المشتغلون في منازلهم                                       259

عمال غير مشتغلين بعمليات الانتاج                                2149

عمال الانتاج الصناعي                                                 29560

ذكور                                                                        27198

اناث                                                                        7815

المقبوضات النقدية ( بالاف الليرات اللبنانية )                   399503

القيمة المضافة ( بالاف الليرات اللبنانية )                       154879

المعاشات والاجور ( بالاف الليرات اللبنانية )                     49302

عمال الانتاج ( يد عاملة ، ساعات في الاسبوع – بالآلاف )  1550

الجردة ( 31/12/ 54) بآلاف الليرات اللبنانية )                  58002

الجردة ( 31/12/55  يآلاف الليرات اللبنانية )                   69952