نظرة في الوضع الاقتصادي في لبنان

عبد الكريم الخليل

نشر المقال في تموز / يوليو 1961 ، العدد التاسع ، الرائد العربي

 

ما زال الحديث عن الازمة التي تمر بها الاوضاع الاقتصادية في لبنان والجمود الذي طال بعض قطاعات الاقتصاد اللبناني ، والتناقضات الاجتماعية – الاقتصادية التي بدأت تتخذ طابعاً حاداً في المدة الاخيرة ، يملأ كل الاوساط ويشغل رجال المال والاقتصاد ورجال الاعمال والهيئات المختلفة في لبنان ، حكومية وشعبية على السواء . وطبيعي ان يرافق الحديث عن هذه الازمة البحث في أسبابها والعوامل الكامنة ورائها والطريق الواجب اتباعه للخلاص منها والنهج الملائم للنهوض بالاوضاع الاقتصادية بعد ان اضطرب حبل هذه الاوضاع أخيراً على شكل سلسلة من الاضرابات شملت عدداً من المرافق والقطاعات الاقتصادية .

 

في معرض البحث عن الاسباب الكامنة وراء هذا الوضع الصعب ، راح البعض يعزوها الى السياسة الاقتصادية الموجهة المتبعة في الجمهورية العربية المتحدة ، خاصة في الاقليم السوري منها. وقد أوجز هذا البعض التدابير التي أثرت في الاقتصاد اللبناني بما يلي :

اولا ، توسيع مرفأ اللاذقية ، ومنع رعايا الاقليم الشمالي من استيراد بضائعهم الا عن طريق مرافئ الجمهورية العربية المتحدة ومطاراتها ، الأمر الذي كان له أثر كبير في تقلص نشاط وحركة المرفأين اللبنانيين في بيروت وطرابلس .

 

ثانياً ، إنشاء مصفاة تكرير البترول في حمص ومنع استيراد البنزين والكاز والمازوت من الخارج ، مما أدى الى خسارة ملموسة أصابت شركات تكريرالبترول وتوزيعه ، اضافة الى جميع المشتغلين في شؤون البترول والنقل في لبنان .

 

ثالثاً ، تحديد كميات النقد التي يحق للمصطافين والسواح والزوار القادمين من الجمهورية العربية المتحدة الى لبنان نقلها ، مما أضعف الموارد التي كان يجنيها لبنان من وراء اصطياف وتنقل رعايا الاقليمين فيه .

 

رابعاً ، تحول التجار العراقيين الى مرفأ الاسكندرون .

 

خامساً ، سياسة التقييد على الاجانب التي اتبعتها الجمهورية العربية المتحدة ، والتي أصابت اللبنانيين المقيمين في الاقليم الشمالي من رجال أعمال ومستخدمين الخ ..

 

هذه هي مجمل الاسباب التي يوردها البعض كدليل على تأثير السياسة الاقتصادية المتبعة في الجمهورية العربية المتحدة في الازمة التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني . فما نصيب ذلك من الصحة ؟ . وما هو الحل الصحيح لتلافي هذه الآثار ، اذا كان لهذا الرأي صحة وسداداً ما ؟ 

أول ما تجب الاشارة اليه هو ان التدابير التي إتخذتها سلطات الجمهورية العربية المتحدة كان لها أثر بالغ ، مع جملة اسباب اخرى ، في ما أصاب الاقتصاد اللبناني من اضرار خلال السنوات القليلة الماضية . ونكتفي، في هذا المجال ، لاعطاء الدليل الواضح على صحة هذا القول ، بنشر الجدول التالي الذي يبين انخفاض قيمة الاستيراد والتصدير من والى سوريا والعراق عن طريق مرفأ بيروت :       

حركة الاستيراد والتصدير من والى سوريا والعراق عن طريق مرفأ بيروت ( اطنان )

                                    الصادرات                           الواردات

السنة                 سوريا             العراق              سوريا                           العراق

1954                27150              13467              144876                        47246

1955                27694              22034              223716                        62495

1956                30197              37691              138797                        90678

1957                26306              25919              148043                        100072

1958 (1)          12354              15747              067517                        36093

1959                18061              13641              077391                        28226

1960                22571              8452                043786                        46189

(1) حدث الانخفاض بسبب الاحداث الدامية التي وقعت في لبنان تلك السنة . 

 

إن ما ينطبق على مرفأ بيروت بالنسبة للخدمات المقدمة للعراق وسوريا ، ينطبق على ضعف حركة الاصطياف والسياحة من الجمهورية العربية المتحدة الى لبنان ، وعلى الخسارة التي نشأت بعد انشاء مصفاة التكرير في حمص ومنع استيراد مشتقات النفط من الخارج . انما يجب ان لا يمنعنا من القول ان هذه التدابير لم تستهدف ابداً الاضرار بالاقتصاد اللبناني والحاق الخسارة به ، ذلك ان سلطات الجمهورية العربية المتحدة اذا كانت قد قامت باتخاذ التدابير المذكور ، او المشابهة لها ، فانما كانت تستهدف تنمية مواردها بشكل يؤمن موارد ثابتة ومتنوعة لمواطنيها من دون ان تتعرض هذه الموارد لهزات مصطنعة لا تمت الى الاسباب الاقتصادية بصلة . فجاءت هذه التدابير لتمنع الانفاق غير الطبيعي والكمالي ، اذا صح التعبير ، لتضمن بقاء اموالها في داخلها ولتستفيد منها في خطط وبرامج النصنيع والانشاء التي تقوم بها ، والتي تهدف الى جعلها بلداً مصدراً ومنتجاً .

 

لقد أخطت حكومة الجمهورية العربية المتحدة لنفسها ، ولها ملء الحق في ذلك كحكومة مسؤولة، سياسة تهدف الى حماية اقتصادها وتنميته وفق نهج ثابت محدد وتخطيط شامل يحفظ تقدم هذا الاقتصاد ونموه الى أبعد حد ممكن . وليس هنا مجال البحث في التفاصيل الفنية وبعض الانتقادات التي يوجهها البعض في لبنان الى هذه التدابير ، إنما نكتفي بالقول ان تلافي الاضرار الناتجة بالنسبة للبنان لا يكون عن طريق مطالبة الغير بتعديل مناهجه تعديلاً يناسب لبنان ، بل عن طريق وضع مخطط اقتصادي شامل وتنفيذه ، ينطلق من دراسة علمية لموارد البلاد وامكاناتها الانتاجية والتسويقية ، ويأخذ بالاعتبار :

اولاً ، الاعتماد فقط على الموارد الثابتة التي لا تهزها المضاعفات السياسية والاجتماعية في البلدان المجاورة او تزيلها حوادث معينة طارئة .

 

وثانياً ، اعتماد سياسة التكامل الاقتصادي قدر الامكان مع البلدان المجاورة لتلافي الاخطار التي تنتج عن المنافسة . ذلك ان التطورات الاقتصادية والاجتماعية تتوالى في البلاد العربية مما يجعلها ، أي هذه البلاد ، تخفف من انفاقها على كثير من الخدمات التي يقدمها لبنان فتستغني عن قسم منها لأنها ليست بحاجة لهذا القسم ، كالكماليات مثلاً ، وتعمل على توفير القسم الآخر من طاقاتها وامكاناتها.

 

 أخيراً ، هناك رأي لا بد من دراسته دراسة وافية ومعمقة ، وهو ان النظام الاقتصادي الحر المتبع في لبنان حتى الآن هو وليد ظروف ومفاهيم أصبحت قديمة ولا مفر من تعديل هذا النظام من أساسه او تطويره على الاقل ، لاسباب عديدة أهمها : اولاً ، التطور الداخلي في لبنان نفسه ، وثانياً تأثر لبنان بالاوضاع الاقتصادية الجديدة والمتجددة يوماً بعد يوم في البلدان العربية المجاورة .

 

إن هذه القضية يجب ان تطرح على بساط البحث وان تشبع درساً من قبل أهل المعرفة والاختصاص في البلد ليخرجوا بحل سريع علمي وواقعي للازمة التي يتخبط بها الاقتصاد الوطني .