ملاحظات حول السياسة النقدية في لبنان

البروفسور الياس غناجي: استاذ علم الاقتصاد في كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية اليسوعية في بيروت

نشر المقال في تشرين الاول / اكتوبر 1961 ، العدد الثاني عشر ، الرائد العربي  

 

يعاني لبنان ، ككل بلد ينتهج سبيل التقدم الاقتصادي ، من اختلاط هيكلي على الصعيد النقدي . فامام فيض الموجودات النقدية التي تجد المصارف التجارية صعوبة في توظيفها التجاري ، تختفي السوق المالية ( وهي سوق الرساميل الطويلة الاجل ) اختفاء يكاد يكون تاماً . وفي هذا البحث الموجز سنعرض بعض الاجراءات التي من شأنها تقريب الفرق بين سوق القروض القصيرة الاجل ، أي السوق النقدية ، وبين سوق الرساميل الطويلة الاجل ، أي السوق المالية .  

 

تنحصر المقترحات الرئيسة في هذا الشأن في مقترحين اثنين ، هما : انشاء مصرف مركزي واقامة مجلس النقد والتسليف. 

 

إن إنشاء المصرف المركزي أمر ضروري وبالغ الأهمية بالنسبة للاقتصاد اللبناني ، ذلك ان بقاء الوضع الفوضوي الحالي المتميز بعدم وجود اي تنسيق في السياسة المصرفية يؤدي الى تثبيت سلطة قلة من السكان وتحكمها تحت ستار الحرية الاقتصادية . فما دام الميل النفسي والجماعي للسكان يبتعد عن توظيف الاموال واستثمارها في مشاريع طويلة الاجل بقصد تحقيق ربح سريع وكبير ، يصبح للمصرف المركزي مهمة أساسية ودوراً أساسياً ليكون الاداة الفعالة التي يتم بواسطتها تحويل السوق النقدية الى سوق مالية طويلة الامد . 

 

يشكل المصرف المركزي ، في سوق الرساميل الطويلة الاجل ، مركز الاقراض الرئيس . فعلى عاتقه يقع تمويل المشاريع الكبرى ، سواء قامت بانشائها المؤسسات الخاصة او مؤسسات الدولة الرسمية . وليس من الضروري ان يقوم المصرف المركزي بامداد القروض بشكل مباشر ، إذ انه من الممكن ان يمنح هذا المصرف مساعدات مهمة الى المؤسسات المتخصصة بأمور التسليف ، كمصرف التسليف العقاري والصناعي والزراعي، التي تقوم بدورها باقراض الافراد او الشركات . ومن اجل درء الخطر التضخمي الذي قد ينشأ عن قروض مؤسسة الاصدار مباشرة ، من الممكن انشاء مصرف انمائي ينحصر دوره في تخصيص جزء من الموجودات النقدية لدى المصرف المركزي في تمويل المشاريع الكبيرة . وهكذا تشكل مؤسسات التسليف المتخصصة ، مهما كانت طبيعتها ، صمام أمان بين المنتفعين من عمليات التسليف وبين المصرف المركزي الذي هو مرجع الاقراض الاخير . وبهذا يقوم المركز المركزي بوظيفة جديدة تتمثل بانه يؤدي وظيفة الحكم بين السوق النقدية ، من جهة ، والسوق المالية ، من جهة اخرى ، وذلك بامتصاصه لاي فائض من السوق النقدية لتدارك النقص في السوق المالية . 

 

إن الملاحظات التي أبديناها تعاكس ظاهرياً السياسة النقدية الكلاسيكية التي تهدف الى المحافظة على تفريق واسع بين السوق النقدية والسوق المالية . وتفسير ذلك ان مشاكل التمويل تختلف من حيث صفاتها ومن حيث الحاحها في البلاد المتقدمة عنها في البلاد التي ما زالت تفتش عن اسباب التقدم . ففي هذه البلاد الاخيرة يكون من المهم جداً تحريك الاموال المعدة للاقراض لغايات منتجة اجتماعياً من دون الاهتمام بمصدر هذه الاموال ، حتى ولو كان ذلك على حساب تخفيض الموارد المعدة عادة للاقراض القصير الامد ، لاقراضها الى أجل طويل. فاقتصار التسليف على العمليات المصرفية القصيرة الاجل يكبح التوسع الاقتصادي ويحد من فعاليته ، خصوصاً عندما تعطي النشاطات الطويلة المدى عائداً اجتماعياً أكبر . ويحفز ، عادة ، الاهتمام يالتسليف القصير الاجل الجمهور الى استهلاك المنتوجات المترفة . فالقروض تمنح في مثل هذه الحال الى مستوردي الجملة الذين يسلفون ، بدورهم ، البائعين الصغار ، الذين يبيعون بدورهم الافراد بالتقسيط . 

 

من الممكن الاعتراض على سياسة تمويل القروض الطويلة الاجل على حساب القروض القصيرة الاجل بانها تقلل من المخزون ، وتنحصر بذلك اسواق التوزيع . غير ان هذا الانتقاد يعوزه البرهان ، ذلك ان انخفاض التسليف لا يؤدي بالضرورة الى تحديد كميات المخزون ، ولكن الى انخفاض في القروض المخصصة للاستهلاك . ومهما يكن من أمر ، فان هذه الحجة لا تبرر حصر التسليف في العمليات التجارية وحدها.

 

ومن الانتقادات الموجهة الى هذه السياسة ، تقليلها مرونة الجهاز النقدي باستعماله الودائع تحت الطلب لتمويل الاستثمارات الطويلة الاجل . مما لا شك فيه ان مثل هذه السياسة تزيد من الاخطار التي يتعرض لها النظام النقدي بمجمله . ولكن يجب ان لا تفوتنا الفوائد التي تنتج عن زيادة حجم التسليف والتي تترك آثاراً دائمة في الهيكل الاقتصادي . 

 

ليس مؤكداً ان السياسة النقدية ، في نهجها التقليدي الكلاسيكي ، تستطيع ان تخدم لبنان على الوجه الاكمل . ومن ثم ، فاذا اردنا تنمية اقتصاد البلاد عن طريق إرساء هيكل أساسي كامل ، فلا بد من ان نحرك المدخرات من اجل غايات انتاجية اجتماعياً ، وذلك بواسطة وضع وتنفيذ سياسة نقدية متجددة . وسواء أكانت وسيلة السياسة تشريعاً مصرفياً ملائماً ، أم مصرف انشاء ، أم مؤسسة تسليف متخصصة ، فان تحريك السوق النقدية او السوق المالية يجب ان يتم تحت اشراف المصرف المركزي ، بالتعاون مع مجموعة مؤسسات التسليف والإئتمان . 

 

إن أمر تنفيذ السياسة النقدية التي رسمنا خطوطها العريضة ، يمكن ان يوكل الى مجلس النقد والتسليق الذي أنشيء بالمرسوم الاشتراعي رقم 154 بتاريخ 12 حزيران / يونيو سنة 1959 ، والذي حدد هدفه القيام بدراسة الهياكل النقدية والمصرفية في البلاد واعداد التشريع اللازم لتنظيم مهنة المصارف والاعمال المصرفية، بغية توجيه السياسة النقدية والمالية في لبنان . وبكلمة موجزة ينبغي على لبنان ، من أجل تمويل برنامج تنمية اقتصاده ، ان يتبع سياسة نقدية فعالة تهدف الى ان تكون فيصلاً بين السوق النقدية وسوق الرساميل . اما الاعتماد على المعرفة الاجنبية او القيام بمراجعة النظام الضريبي ، ومع انه يساعد في انشاء نشاطات انتاجية جديدة ، إلا انه يكون ذا فعالية محدودة في بلد كلبنان حيث الاعتدال والمبادرة الفردية يشكلان قاعدة من قواعد المجتمع الاساسية .