هل حقق مصنع السماد الآزوتي السوري أهدافه ؟

 محمد فياض دندشي  

نشر المقال في ايلول / سبتمبر 1962 ، العدد الثالث والعشرون ، الرائد العربي  

من اهم نتائج التطورات الزراعية في الجمهورية العربية السورية ، وما أعقب هذه التطورات من تقدم سريع ونهضة شاملة طالت مجالات مختلف نشاطات القطاع الزراعي ، أن حدث تغيير جذري في اساليب العمل الزراعي ، فشاع انتشار النشرات الارشادية التي دخلت كل بيت في كل قرية من قرى الريف وازداد اكتساب الخبرة الفنية في كيفية استخدام الوسائل الوقائية من الامراض الفتاكة والحشرات الضارة ، وانصب على استخدام كل الوسائل الضامنة لرفع الانتاج الرأسي ، أي زيادة غلة الهكتار الواحد . وظهر عند العامل في الارض اندفاع قوي ورغبة صادقة للعمل على استبدال البذار التقليدي بنوع افضل ذات مردود اكبر ، ثم لجأ الى استعمال المخصبات الكيماوية في تسميد ارضه ، حيث برهنت له التجارب عن طاقة هذه الوسيلة الكبيرة في زيادة لم يكن يحلم بها من قبل .    

كان من الطبيعي ان يرافق ازدياد الطلب على استعمال الاسمدة الكيماوية زيادة مماثلة في قيمة المستورد منها . وقد بلغت هذه القيمة في عام واحد حوالى 20 مليون ليرة سورية ، كلها من القطع الاجنبي ، مما يرهق كاهل الخزينة ويبعدها عن تحقيق مشاريعها الانتاجية الضرورية . وفي نظرة سريعة على تطور استهلاك المخصبات الكيماوية في الجمهورية العربية السورية ، يتبين لنا ان مقدار ما تستنفذه هذه المادة من العملة الصعبة في البلاد. ففي سنة 1952 ، وهي بداية اليقظة الزراعية ، بلغ مقدار الكميات المستوردة من المخصبات الكيماوية حوالى 3100 طن . غير انه بمرور الزمن وانتشار الوعي ، زاد الاقبال على استخدام هذه المادة في شتى انواع الميادين الزراعية ، لا سيما في زراعة القمح والقطن . فكلما جاءت العوامل الجوية مبشرة بجودة الموسم الزراعي ، كلما زاد الاقبال على استخدام هذه المادة وارتفع الطلب على استيرادها . 

تضاعف حجم الكميات المستوردة في عام 1953 عما كان عليه في العام الفائت ، حيث بلغ مجموع ما استهلك من المخصبات الكيماوية نحو 5900 طن . وكان من الطبيعي ان يرتفع الطلب على النقد الاجنبي لاستيراد هكذا كمية . وفي سنة 1954 تضاعف الحجم مرة ثانية عما كان عليه في العام السابق ، فبلغت الكميات المستوردة حوالى 10200 طن . ومن الملفت ان عامي 1955 و 1956 كانا من اخصب الاعوام التي مرت على البلاد بسبب هطول كميات كبيرة من الامطار استفادت منها الزراعة استفادة عظيمة ، خاصة وان توزيع الامطار جاء بشكل طبيعي ، ليس بالنسبة للمناطق المختلفة حسب ، بل وبالنسبة لتوزع هذه الكميات على فصول السنة . وكانت النتيجة ان أقبل المزارعون اقبالاً كبيراً على استخدام الاسمدة الكيماوية بكميات كبيرة جداً . وقد قدرت الكميات المستهلكة في سنة 1955 بحوالى 22200 طن . وتعتبر هذه الكمية اكبر ما استهلك حتى هذا التاريخ ووصولاً الى بداية سنة 1960 . وبسبب القحط والجفاف الذي لازم الزراعة فيما بعد ، أخذ حجم استيراد الاسمدة الكيماوية يتدنى عاماً بعد عام . ففي سنة 1956 هبط الاستيراد هبوطاً طفيفاً بلغ حوالى 18700 كن ، واستقر على حواى 15900 طن في عامي 1958 و 1959 . لكنه ما لبث ان عاود ارتفاعه من جديد ، ارتفاعاً كبيراً في سنة 1960 بحيث بلغ حوالى 40 الف طن ، ثم تلاه ارتفاع آخر في سنة 1961 حيث بلغ مجموع الكميات المستوردة حوالى 40 الف طن . 

تدل الارقام الاستهلاكية الاولية على ان كميات المخصبات الكيماوية المستوردة قد ارتفعت بشكل مذهل في سنة 1962 ، بالمقارنة مع الاعوام السابقة ، لا سيما في سنة 1952 . ففي هذا العام بلغ حجم الاستيراد حوالى 92 الف طن ، أي بنسبة قدرها 297 بالمئة عما كانت عليه في سنة 1952.  ومن المنتظر ان يرتفع هذا الرقم الى حوالى 118 الف طن في سنة 1963 ، خاصة اذا ما ساعدت العوامل الطبيعية على ذلك وجاءت الامطار تبشر بمحصول جيد . وازاء هذا التطور السريع بانتشار الوعي الزراعي عند الافراد واقبالهم على استخدام كافة الوسائل التي من شأنها ان تزيد انتاجية الارض ، لا سيما ياستعمال الاسمدة الكيماوية ، قررت الحكومة السورية اقامة مصنع محلي لانتاج مادة السماد الازوتي ، بقصد سد حاجات البلاد من هذا السماد من جهة ، وتوفير ما قيمته ملايين الليرات السورية من العملة الصعبة التي تذهب سنوياً لشراء هذه المادة من جهة اخرى . فقامت الحكومة السورية عندذاك باجراء الاتصالات مع عدد من الحكومات الاجنبية بغية اقامة معمل لسماد الآزوة ، طالبة المعونة المالية والفنية اللازمتين لتنفيذ المشروع والاشراف على تشغيله ريثما يكتسب الجانب السوري الخبرة الفنية المطلوبة . فتقدمت بعض الحكومات بعروض مختلفة ورسا الخيار على العرض السوفياتي نظراً لملاءمته شروط الجانب السوري أكثر من سواه من العروض الاخرى المقدمة . وفي 12 تشرين الثاني / نوفمبر 1957 توصل الطرفان الى ابرام اتفاقية تعاون اقتصادي تتعلق بمشروع المعمل المذكور وتم التصديق على الاتفاقية بشكل نبدئي بموجب القانون رقم 454 . 

نصت الاتفاقية في ملحقها على امكانية انشاء مصنع لانتاج مادة السماد الآزوتي في الجمهورية العربية السورية. غير انه لم تتخذ اية خطوة عملية للبت في انشاء المصنع ، وظل يتأرجح بين التنفيذ والتأجيل الى ان تم التوقيع النهائي على العقد رقم 945 – أ ، تاريخ 8 ايلول / سبتمبر 1960 . عندها ظن الجميع ان المشروع دخل مرحلة التنفيذ ، لكن سرعان ما خابت الآمال . وبعد انقضاء سنة تقريباً على توقيع العقد المذكور ، صدر القرار الجمهوري ذو الرقم 273 تاريخ 20 آب / اغسطس 1961 الذي خول الهيئة المشرفة على التنفيذ حق استملاك الاراضي اللازمة لانشاء المصنع . وعلى الرغم من تزايد الاستهلاك المحلي ونفاذ القطع الاجنبي من البلاد وضرورة انشاء مصنع من هذا النوع ، لا تزال الاعمال تتأرجح بين دور الدراسة ودور التصميم.  وهناك اكثر من دليل على ان هذه المرحلة سوف تطول ، حتى انه أصبح من المشكوك فيه ان يوضع هذا المشروع موضع التنفيذ في خلال المدة المحددة له . 

كان العقد قد حدد طاقة المصنع الانتاجية ، الجزئية والكلية ، كما كان الاتفاق قد تم على تنفيذه على مراحلتين ، بحيث تبدأ الاولى بالانتاج الفعلي في اوائل سنة 1965 بقدرة انتاجية قصوى تبلغ جوالى 55 الف طن في السنة، على ان يستمر المعمل بانتاج الكمية نفسها حتى نهاية سنة 1968 عندما تتضاعف طاقته الانتاجية في مرحلته الثانية لتبلغ جوالى مئة وعشرة الآف طن  في السنة ، وهي الطاقة الانتاجية الكلية للمصنع .  

هناك عقبات عديدة تعرقل تقدم سير العمل في تنفيذ مثل هذا المشروع الحيوي بطاقتيه الجزئية او الكلية . واهم هذه العقبات تتمثل بالصعوبات المالية والفنية التي تواجهها الهيئة العامة لتنفيذ المشروعات الصناعية ، وهي الهيئة الرسمية التي تشرف على اعمال التنفيذ من تشييد وبناء واستملاك وتدريب فني وايجاد العمال المهرة . وتوجد الآن دلائل تشير الى انه من العسير الجزم بامكانية تحقيق المشروع ، وفي انه فعلاً ، وبشكل عملي ، يسد حاجات البلاد من مادة السماد الآزوتي في حال تحقيقه . ذلك ان الكميات المستهلكة من هذا السماد تزداد بسرعة مذهلة بينما كان المشروع يخضع للتأرجح بين التنفيذ والتأجيل . واذا ما بوشر في بنائه ، فان الكميات التي سينتجها قد لا تساوي ، على ضوء زيادة الاستهلاك ، ثلث حاجات البلاد تقريباً ، مما يفرض استيراد ثلثي الكمية المستهلكة من الخارج . ولا يخفى ما لهذا الاستيراد من ضغط مستمر للحصول على العملة الصعبة ، مما يؤدي الى ارهاق كاهل الخزينة وامتصاص ما لديها من فائض . من هنا يتضح ان التلكوء في تنفيذ هذا المشروع يجعله يتخلف فعلياً عن تحقيق احد اهدافه المهمة . غير انه تبقى اهداف رئيسة اخرى قد تتحقق في حال السير في تنفيذ مشروع السماد الآزوتي ، واهمها :  

اولاً ، يساعد المصنع في تصريف الفائض من انتاج مصفاه النفط باعتبار ان مادتي البنزين والفيول تشكلان احدى المواد الاولية الرئيسة التي تقوم على تحويلها هذه الصناعة . 

ثانياً ، ان نجاح هذه التجربة يخلق افاقاً جديدة في مجال التطور الصناعي عن طريق تشجيع تأسيس صناعات كيماوية وبتروكيماوية جديدة . ولا يخفي احد ما لهذه من فائدة عظيمة في استهلاك اغلب المنتجات البترولية وتوفير عناء تسويقها في الخارج ، سيما وان هناك اعتقاداً سائداً بان مادة النفط الخام متوفرة في الجمهورية العربية السورية بالغزارة نفسها المتوفرة في العراق . 

ثالثاً ، يساعد في امتصاص قسم لا بأس به من فائض اليد العاملة ويؤهل بعض العمال على اكتساب الخبرة وعلى القيام باعمال فنية بحتة ، فيكون بذلك قد اسهم في التخفيف من حدة البطالة عن طريق استيعاب حوالى 600 عامل يؤلفون نواة للصناعات البتروكيماوية المنتظر انتشارها . 

وكان قد تم اختيار موقع المصنع على مسافة اثني عشر كيلومتراً الى الحنوب الغربي من مدينة حمص ، بناء للاعتبارات التالية :  

1 – قرب المصنع من طرق المواصلات . فشبكات الخطوط الحديدية والطرق البرية متوفرة بشكل لا بأس به، مما يساعد في تصريف المنتجات بكلفة قليلة .  

2 – قربه من موقع المعمل البخاري التابع لمؤسسة كهرباء حمص – حماه . وهذا يسهل عملية استخدام الكهرباء والماء باسعار زهيدة مما يخفض سعر كلفة انتاج السماد .

3 – وجود بحيرة قطنية على مسافة قريبة منه تقوم بتأمين المياه الضرورية لمثل هذه الصناعة . 

4 – قربه من موقع مصفاة البترول التي تقوم بتزويده بالكميات اللازمة من مادتي البنزين والفيول . قد اجريت مؤخراً بعض التعديلات على تصميم المشروع أصي بموجبها انشاء خط انابيب يصل المصفاة بالمصنع لنقل المواد الاولية بكلة زهيدة . 

5 – بعد الموقع عن الاماكن المأهولة بالسكان تحسباً لكل طاريء قد يؤدي الى ايذاء المواطنين من الغازات الناجمة عن عمليات التحويل قبل القيام بتبديدها نهائياً . 

6 – تمتع المنطقة الوسطى ، لاسيما مدينة حمص بمركز تجاري وصناعي مرموق . 

اما من الناحية الفنية ، فبتألف المشروع من الوحدات الرئيسة التالية :  

1 – الوحد الفنية الخاصة بانتاج مادة نترات الامونيوم – النشادر – الحاوية على 34 بالمئة من مادة الآزوت . 

2 – احداث ورشة ميكانيكية كبيرة تكفي لاعمال التصليح السريع واعمال المراقبة والصيانة . 

3 – انشاء نوعين من مستودعات التخزين . النوع الاول يستخدم لتخزين المواد الاولية الضرورية لتشغيل المصنع ، والنوع الثاني يستخدم لتخزين المنتجات ليصار الى توزيعها فيما بعد على المناطق حسب مقتضيات الاستهلاك .  

4 – اقامة ابنية تستخدم لاعمال الادارة وعمليات توزيع القدرة الكهربائية على اجزاء المصنع . 

يمكن القول ، نتيجة لتتبع سير اعمال تنفيذ مشروع مصنع السماد الآزوتي المزمع اقامته بالقرب من مدبنة حمص ، انه لا يزال يتعثر بسبب الظروف المالية القاسية حينا ، وبسبب النقصان في وفرة اليد العاملة الفنية الضرورية لاعمال التركيب والتشغيل احياناً اخرى . وكل ما تم على هذا الصدد ان وضعت الهيئة المسؤولة مشروع برنامج اطلقت عليه اسم التدريب الفني لليد العاملة ، على ان يباشر العمل بتنفيذه في اواخر العام الماضي . هكذا ، انقضت سنة كاملة تقريباً ولا يزال امر التنفيذ معلقاً بانتظار التحقيق . ان كل ما تحقق من هذا المشروع الحيوي حتى الآن هو صدور القرار الجمهوري رقم 273 بتاريخ 20 آب / اغسطس 1961 الذي خول الهيئة المشرفة على التنفيذ حق استملاك العقارات التي تقرران يبنى فوقها المصنع . ومن الواضح ان هذا الاجراء وحده لا يكفي لاقامة المصنع وتشغيله والذي تقدر كلفته حالياً بحوالى مئة مليون ليرة سورية ، لا يزال امر تأمينها مشكلة تعترض سبيل التنفيذ .