أهداف السياسة النقدية بالنسبة للبنان

د. سليم الحص  

رئيس دائرة التجارة في الجامعة الاميركية في بيروت  

نشر المقال في ايلول / سبتمبر 1962 ، العدد الثالث والعشرون ، الرائد العربي  

كثر الحديث في الآونة الاخيرة عن ضرورة انشاء مصرف مركزي في لبنان ليحل محل مصرف سوريا ولبنان عندما ينقضي امتيازه سنة 1964 ، فيخلفه في اصدار الاوراق النقدية وفي الاحتفاظ بالودائع الحكومية، ويقوم بما لم يقم به مصرف سوريا ولبنان على الوجه الاكمل من سائر اعمال الصرافة المركزية ، كرسم سياسة نقدية واضحة المعالم وتنفيذها بصورة فعالة ، والوقوف على قدم الاستعداد لمد يد المعونة للجهاز المصرفي في البلاد كلما داهمته ازمة تهدد سيولة اوضاعه المالية . والغرض من هذه الدراسة هوتحديد الاهداف التي ينبغي ان يسعى المصرف المركزي الى تحقيقها عن طريق السياسة النقدية التي يختطها لنفسه . فلا بد ان يكون للسياسة النقدية التي يطبقها المصرف المركزي مضامير اقتصادية مختلفة في الامد الطويل .  

وبالنسبة لبلد كلبنان يجدّ في سبيل التنمية ، يجب ان يكون هدف السياسة النقدية ، في الامد الطويل ، المساهمة في تحقيق نمو اقتصادي سريع . والسبيل الى ذلك ذو شقين : الاول ، ان يستطيع المصرف المركزي المشاركة في اعمال التنمية بمراقبته لتوزيع الائتمان في البلاد بين مختلف قطاعات الانتاج ، فيوجه بوسائله الخاصة سيل الائتمان في اتجاهات معينة ، بحيث ينسجم توزيع الائتمان في البلاد مع المخطط العام للتنمية . فالتحكم بمجموع الائتمان في البلاد هو ، كما هومعروف ، أهم وسيلة للتحكم بكمية النقد الذي هو موضوع أي سياسة نقدية . اما مراقبة توزيع الائتمان بين القطاعات المختلفة ، فيمكن للمصرف المركزي فرضها في معرض التحكم بمجموع الائتمان بقصد التأثير على كمية النقد في البلد . ومن الوسائل التي يمكن للمصرف المركزي ان يعتمدها في توجيه مجاري الائتمان تقرير معدلات الفائدة التي يمكن لمؤسسات التسليف ، بما فيها المصارف ، ان تستوفيها على قروضها لمختلف قطاعات الانتاج او لمختلف الاستعمالات . وهذا ممكن اذا أعطي المصرف المركزي الصلاحيات اللازمة لأن يملي معدلات الفائدة . اما اذا لم يعط هذه الصلاحيات ، فمن الممكن للمصرف المركزي ان يضغط على تركيب معدلات الفائدة عن طريق اعمال الائتمان المباشرة التي قد يقوم بها ، او عن طريق اعمال الائتمان التي تقوم بها مؤسسات متفرعة عنه او خاضعة لاشرافه او لنفوذه ، او عن طريق عمليات السوق المفتوحة التي يقوم بها في معرض تحكمه بمجموع النقد في البلاد ، او عن طريق سياسة اعادة الخصم التي يرسمها للتفريج عن الجهاز المصرفي اذا ما ألمت به ضائقة مالية . 

الثاني ، يستطيع المصرف المركزي المشاركة في تحقيق نمو اقتصادي سريع بتأمين الاستقرار الاقتصادي في الأمد القصير . وهذا ما يهمنا عرضه في هذه الدراسة يشيء من التفصيل بالنسبة للبنان .  

إن الاستقرار الاقتصادي كهدف للسياسة النقدية في المدى القصير ، يمكن ربطه باغراض ثلاثة هي ، اولاً : تثبيت الانتاج الوطني على مستوى عال من العمالة ؛ ثانياً : تثبيت مستوى الاسعار الداخلية ضمن حدود معقولة؛ ثالثاً ، تثبيت سعر الليرة اللبنانية مقابل العملات الاجنبية ضمن حدود المقبول . ويهمنا هنا ان نتبين أهمية كل من هذه الاغراض ومدى توافق واحدها مع الآخر.  

ففي بلاد كلبنان حيث تعتمد اقتصادياتها اعتماداً كبيراً على التجارة الخارجية ، تشكل الصادرات لا التثميرات المولد الرئيس للدخل الوطني ، بينما تشكل الواردات لا الادخارات المنزف الرئيس في مجاري الدخل (1) . فالتقلبات التي تصيب صادرات لبنان ، سواء المنظورة منها او غير المنظورة ، تسبب عادة تقلبات مماثلة في مستوى الدخل وفي سعر الليرة بالعملات الاجنبية وفي المستوى العام لاسعار المنتجات الداخلية . وقد يتفاوت تأثير هذه التقلبات على اسعار مختلف المنتجات الداخلية .  

إن الحفاظ على مستوى ثابت ومرتفع من العمالة هو غرض مرغوب به بحد ذاته ، باعتبار اي تحقيق لمثل هذا الغرض يوفر على البلاد مغبة المشاكل الاجتماعية التي تلازم حالة تتفشى فيها البطالة وتعمر طويلاً او تعود  فتتردد كثيراً . وهذا الغرض ذو أهمية كذلك بالنسبة لنمو البلاد الاقتصادي باعتبار ان تحقيقه كفيل بتعبئة القدرة الانتاجية للبلاد على اوسع نطاق وباستمرار . وما البطالة التي قد تذر قرنها دورياً او من حين الى آخر في حال عدم الافلاح في تحقيق هذا الغرض  سوى هدر لقدرة انتاجيته  ، هذه الانتاجية التي يمكن استخدامها في تأمين نمو اقتصادي سريع .  

لا تتوفر لنا احصاءات دقيقة حول درجة العمالة في لبنان عبر الزمن وحسب القطاعات . لذلك يتعذر البحث بحثاً دقيقاً في مشكلة البطالة كظاهرة دورية . فقطاعات الانتاج التصديرية في لبنان تضم التجارة والخدمات والزراعة . والذي يبدو لنا ان درجة العمالة في الزراعة قلما تتأثر بالتغيرات التي تعتري الطلب الخارجي على المنتجات اللبنانية ، على ان الدخل الوطني الناشيء في قطاع الزراعة يخضع لمثل هذه التقلبات من خلال تأثير تقلبات الطلب الخارجي على اسعار المنتجات اللبنانية في الاسواق العالمية ، لا على كمية الانتاج التي تقررها ، بالدرجة الاولى ، الاحوال الطبيعية للمواسم او على مستوى العمالة . وكذلك في قطاعي التجارة والخدمات . فالذي يبدو لنا ان مستوى العمالة خلال فترة وجيزة من الزمن هو كمية معطاة قلما تتأثربالتقلبات الخارجية ، مع ان الدخل في هذين القطاعين يخضع لمثل هذه التقلبات بفعل تأثيرها على الاسعار وعلى كمية المبيع من الخدمات المعروضة خلال فترة معينة من الزمن . والبطالة الموجودة في لبنان هي من النوع المزمن الذي يعكس افتقاراً للرساميل الطويلة الاجل والموارد الطبيعية والى حد ما للعمال المهرة . وهذا النوع من البطالة لا يصلح لأن يعالج بالوسائل النقدية ، ذلك لأن السياسة النقدية تفعل فعلها بالتأثير على مجموع الطلب ، ولا أثر لها على توافر الموارد الاقتصادية ومعدات الانتاج والعمال المهرة . فباعتبار ان التقلبات التي تطرأ على الطلب الخارجي للمنتجات اللبنانية تحدث تقلبات في الدخل الوطني بتأثيرها على الاسعار أكثر من تأثيرها على كمية الانتاج او العمالة ، فان بحثنا ، فيما يلي سيقتصر على امكانية تثبيت الاسعار الداخلية وسعر الليرة اللبنانية مقابل العملات الاجنبية باتباع سياسة نقدية فعالة .  

إن الدعوة لتثبيت اسعار المنتجات الداخلية منوطة ياعتبارات شتى . ففائدة النقود في المدى البعيد كمستودع للقيم وبالتالي صلاحها كمقياس للدفعات المؤجلة ، وكذلك كواسطة للتبادل ، تزول اذا ما استمر مستوى الاسعار على ارتفاع او الهبوط بمعدل محسوس (2)  . وان ارتفاعاً معتدلاً في الاسعار قد يكون سائغاً . إلا انه من الممكن القول ، على اساس اعتبارات العدالة الاجتماعية ، ان التضخم في الاسعار هو غير منصف للدائنين وسواهم من ذوي المداخيل الثابتة في المجتمع . ويمكن القول لصلح بعض التضخم في الاسعار انه يعمل على اعادة توزيع الدخل في المجتمع لمصلحة جماعات من الاهلين يتميزون عادة بميل اعلى للادخار . وبذلك يساعد التضخم في تعزيز ممكنات النمو الاقتصادي السريع .و" لكن غالباً ما يؤول التضخم الى اساءة توجيه المدخرات التي يولدها شطر التثمير في الصناعات المنتجة للكماليات ، مثلاً ، تاركاً المصالح العامة الضرورية لتذوي " (3) .  

اما في الامد القصير ، فالدعوة لتثبيت الاسعار ، ولو ضمن حدود تتركز على ان عدم استقرار الاسعار الداخلية، يولد عنصر عدم اليقين في الاعمال . وعلى حد تعبير احد الاقتصاديين "ينبغي ان لا نضيف اخطار موجات التضخم والانكماش المتلاحقة ، والتي يتعذر التكهن بها ، الى اخطار تغير الطلب وظهور منتجات مماثلة وتقدم المنافسين التقني ومجموعة اخرى من الاخطار التي يتوارثها رجال الاعمال " (4)  .

ترتكز الدعوة لتثبيت مستوى اسعار العملات الاجنبية على حجة مماثلة . فالتقلبات المحسوسة في مستوى اسعار العملات الاجنبية تنعكس في تقلبات اسعار المستوردات . ومن المحتمل ان يكون لها مضاعفات على الاسعار الداخلية . وفي لبنان ، حيث ينفق على المستوردات المنظورة وحدها ما ينيف عن نصف الدخل الوطني ، لا تقل اسعار العملات الاجنبية اهمية عن الاسعار الداخلية في تقرير المستوى العام للاسعار . فالدعوة لتثبيت اسعار العملات الاجنبية ، اذن ، لا تعدو كونها جزءاً لا يتجزأ من الدعوة لتثبيت المستوى العام للاسعار . وقد تبدت اهمية استقرار اسعار النقد الاجنبي بالنسبة للبنان بجلاء سنة 1953 حين تكبد المستوردون خسائر جسيمة وكثرت دعاوى الافلاس من جراء وقوع هبوط مفاجيء في اسعار النقد الاجنبي ، مما حدا بالحكومة اللبنانية ان تحرك صندوق تثبيت النقد لدى مصرف سوريا ولبنان لأول مرة منذ انشائه سنة 1949 ، بغية الحد من ارتفاع سعر الليرة اللبنانية مقابل العملات الاجنبية (5)  . 

غير ان العمل على تثبيت الاسعار الداخلية ، كثيراً ما يتعارض مع العمل على تثبيت مستوى اسعار العملات الاجنبية . فغالباً ما تنشأ أوضاع تميل فيها الاسعار الداخلية واسعار العملات الاجنبية للتغيير في اتجاهين متباينين ، فيتمخض عن ذلك فائض او عجزمحتملين في المدفوعات الدولية على الحساب الجاري . والاجراءات النقدية التي تكفل وضع حد لهبوط اسعار العملات الاجنبية او اعادة رفعها تتنافر تماماً مع تلك التي يتطلبها وضع حد لارتفاع الاسعار الداخلية او اعادة خفضها . ويستطيع المصرف المركزي ، اذا ما وجد ضرورياً ، ان يحاظ على ثبات الاسعار الداخلية واسعار النقد الاجنبي معاً في حال ظهور فائض في المدفوعات الجارية ، وذلك عن طريق شراء العملات الاجنبية من السوق والعمل على تقليص المعروض النقدي في وقت واحد . ويمكن تحقيق التقلص النقدي المطلوب عن طريق بيع بعض ما لدى المصرف المركزي من اوراق مالية مثلاً ، او رفع الاحتياطيات النقدية القانونية . غير ان السعي الى تثبيت كل من الاسعار الداخلية ومستوى اسعار النقد الاجنبي في واقت واحد عن هذا السبيل ، ليس تدبيراً عملياً  الا اذا كان الاختلال في ميزان المدفوعات على الحساب الجاري طارئاً او نتيجة عوامل عابرة . اما اذا كان الاختلال ناجماً عن عوامل مقيمة، فان توازن المدفوعات على الحساب الجاري لا يمكن استعادته الا عن طريق انخفاض اسعار النقد الاجنبي او ارتفاع الاسعار الداخلية او عن طريق هذين التعديلين معاً , ذلك لأن هناك حدوداً لامكانية رفع الاحتياطيات النقدية القانونية ، كما ان هناك حدوداً لما يصلح ان تجمعه السلطات من احتياطيات العملات الاجنبية . وقد لا يكون بامكان المصرف المركزي ان يبيع الاوراق المالية على نطاق واسع في سوق للاوراق المالية متخلفة كالسوق اللبنانية . فضلاً عن ذلك ، فان المصرف المركزي ، إذ يبيع الاوراق المالية ويشتري العملات الاجنبية، يقوم في واقع الامر بمنافسة المستثمرين في القطاع الخاص على المدخرات الفردية الخاصة . وكما يقول احد الاقتصاديين : " بصرف النظر عما ينطوي عليه ذلك من مشاكل رقابية نقدية ، فان المجتمع لا يحتمل ان يرتضي استبدال جزء من منتوجه بمدخرات نقدية عقيمة الى غير ما حد ..." (6)

كذلك في حال وقوع عجز في حساب مدفوعات البلاد الجارية ، فان تثبيت اسعار النقد الاجنبي والاسعار الداخلية في آن واحد ليس ممكناً الا اذا كان الاضطراب في ميزان المدفوعات طارئاً . اما اذا كان هذا الاضطراب اساسياً مقيماً ، فان اعادة التوازن في ميزان المدفوعات لا يكون الا بارتفاع اسعار النقد الاجنبي او في هبوط الاسعار الداخلية او في نشوء الظاهرتين معاً ، حيث ان مقدرة المصرف المركزي على الحد من اتجاه اسعار النقد الاجنبي للارتفاع في هذه الحال ، مرهونة بكمية احتياطيه المتوفر من العملات الاجنبية . هذا بصرف النظر عن سائر الصعوبات الفنية التي قد تواجه المصرف المركزي في فرض الاجراءات النقدية المطلوبة . وخلاصة القول ان هناك هدفين للسياسة النقدية يتعذر التوفيق بينهما في كثير من الاحيان ، هما تأمين استقرار نسبي في اسعار النقد الاجنبي وكذلك في اسعار المنتجات المحلية . ومن العسير على الباحث ان يحكم على اساس نظري خالص ما اذا كان من الافضل ان يستأثر بالاولية هذا او ذاك . 

ينادي الاقتصادي الاميركي المعروف ميلتون فريدمان بضرورة العزوف عن التعرض لاسعار النقد الاجنبي باعتبار ان اسعار النقد هي عموماً أكثر مرونة وقابلية للتغيير من الاسعار الداخلية،  وباعتبار ان الاسعار الداخلية تتفاوت يما بينها من حيث درجة المرونة . ويقول في هذا الصدد : " لو ان الاسعار الداخلية توازي اسعار النقد مرونة لما كان هناك كبير فرق ، من الناحية الاقتصادية ، بين ان تتصحح الاوضاع الاقتصادية ، إثر اختلال في ميزان المدفوعات ، عن طريق تغير في اسعار النقد اوتغير بالقدر نفسه في الاسعار الداخلية . الا ان هذا الشرط ، كما يبدو واضحاً ، غير متوافر" (7)  . لذلك ، فان أي تصحيح للاوضاع الاقتصادية يجيء عن طريق الضغط على مستوى الاسعار الداخلية او تركيبها اثروقوع اختلال في ميزان المدفوعات ، يكون من نتائجه العاجلة تبديل في مستوى الانتاج الوطني وتركيبه ، وكذلك في مستوى العمالة وتركيبها . فالابقاء على مرونة اسعار النقد الاجنبي ، اذن ، هو أكثر توافقاً مع سياسة نقدية تستهدف تثبيت الانتاج الوطني والعمالة من ترك الضغط ينصب على الاسعار الداخلية . 

إن الحفاظ على مرونة اسعار النقد الاجنبي يساعد في منع التقلبات النقدية التي تقع في العالم الخارجي ، سواء كانت تضخمية او انكماشية ، من التسرب الى الحياة الاقتصادية الداخلية . فحيث تبقى اسعار النقد حرة ومرنة ، لا تتأثر الحياة الاقتصادية الداخلية بالتقلبات النقدية في العالم الخرجي الا بالقدر الذي تؤثر به هذه التقلبات على مستوى الدخل الحقيقي في الخارج ، أي ان نظاماً تبقى فيه اسعار النقد حرة مرنة لا يسمح للمضاعفات ان تتسلل من الخارج من خلال المجاري النقدية الخالصة (8)  . وبعبارة اخرى ، فان نظاماً كهذا ، مع انه لا يصون البلاد من آثار تغير يقع في الدخل الحقيقي في العالم الخارجي ، يساعد على منع هذه الآثار من التضخم نتيجة لمضاعات نقدية قد ترافقها (9)  . ويدعم الاقتصادي فريدمان حجته في تحبيذ نظام حر للنقد بتأكيده ان الحفاظ على مرونة اسعار النقد لا تتنافر مطلقاً نع ثباتها . فعمليات المضاربة التي تجري في سوق النقد الحرة ، حسب ما يؤكد ، تتجه عادة الى تأسيس استقرار اسعار النقد في حال وقوع اختلال طاريء في ميزان المدفوعات الدولية ، وتتجه الى التعجيل في الانتقال الى وضع توازن جديد في حال وقوع اختلال اساسي في ميزان المدفوعات . 

إن الحجج التي سبقت الاشارة اليها تأييداً لنظام نقدي مرن ، لا غبار عليها في حد ذاتها . الا ان هناك اعتبارات خاصة بلبنان ينبغي ان نضعها في الميزان اذا شئنا الموازنة بين اهمية تحقيق استقرار في الاسعار الداخلية واهمية تحقيق استقرار في اسعار النقد الاجنبي .

أولاً : ان الاعتماد الكبير على القطاع الخارجي الذي يميز الاقتصاد اللبناني يجعل الاحوال الاقتصادية داخل البلاد عظيمة التأثر بالتغيرات التي تطرأ على مستوى اسعار النقد . والاستقرار الاقتصادي داخل البلاد مرتبط، الى حد كبير ، باستقرار اسعار النقد . لذلك يمكن القول ان الحجة التي ترتكز عليها الدعوة لتطبيق نظام نقدي حر ومرن تصح بالنسبة للبنان بالقدر الذي يصح فيه القول ان حرية اسعار النقد تقترن باستقرارها . وفي رأي بعض الاقتصاديين " انه يجب ان يبقى في الحسبان ان المضاربين ، في سوق النقد الاجنبي ، قد يقومون بعملياتهم بحيث يسوقون اسعار النقد في الاتجاه الخاطيء ، او بحيث يدفعون بها في الاتجاه الصحيح ، لكن عبر مستواها التوازني الجديد ... ان المضاربة قد تكون عامل استقرار ولكن من الصعب التكهن بمفعولها في ظل نظام حر للنقد ... والاجتهاد النظري في هذا الموضوع اجتهاد عقيم " (10)  . اما في لبنان ، فالدلائل تشير الى استقرار نسبي في اسعار النقد . غير ان المرجح ان هذا الاستقرار النسبي عائد ، الى حد كبير ، ان كثيراً من المصارف العاملة في لبنان تنظر الى العملات الاجنبية التي بحوزتها على انها مماثلة للنقود المحلية في تركيب احتياطاتها السائلة . وقد أسهم الجهاز المصرفي في تثبيت مستوى اسعار النقد نسبياً بوقوفه على أهبة الاستعداد لتقبل تغيير في توزيع موجوداته السائلة ما بين النقود المحلية والنقود الاجنبية من دون فرض تبدل محسوس في سعر الليرة اللبنانية بالعملات الاجنبية . ولكن من غير المحتمل ان يستمر الجهاز المصرفي في النظر الى العملات الاجنبية على انها مماثلة للنقود اللبنانية في تركيب احتياطاتها السائلة اذا ما كف صندوق النقد في مصرف سوريا ولبنان عن العمل ، او اذا فرضت احتياطات نقدية قانونية بالنقود اللبنانية ، كما ينتظر ان يجري عند انشاء مصرف مركزي في لبنان . 

ثانياً : ان التقلبات في مستوى النقد الاجنبي كثيراً ما تنتج عن تغيير في معدل تدفق الاموال الخارجية الى البلاد. وهذا عامل من العوامل التي قد لا تمت بصلة الى الظروف الاقتصادية الحقيقية التي تحيط بالتبادل التجاري بين لبنان والعالم الخارجي . ولطالما تأثر معدل تدفق الاموال من والى لبنان بالجو السياسي الذي يسيطر على منطقة الشرق الاوسط . فباعتبار ان الحركة التجارية في لبنان شديدة التأثر بتقلبات اسعار النقد الخارجي ، فهل يصح ان تترك الحركة التجارية عرضة لمختلف العوامل غير الاقتصادية التي تهيمن على حركة تدفق الاموال من والى لبنان ؟ . 

ثالثاً : ان تقلب الطلب الخارجي على المنتجات اللبنانية هو من أهم مسببات تقلب مستوى الدخل في لبنان . فالكساد الاقتصادي ، مثلاً ، كثيراً ما يقترن بعجز في ميزان المدفوعات على الحساب الجاري ، او يتزايد ذلك العجز . وباعتبار واقع توزيع مجمل الانفاق في البلاد ، ما بين المنتجات المحلية والمنتجات المستوردة ، فان توسعاً نقدياً يقوم به المصرف المركزي مستهدفاً من ورائه تنشيط الطلب الداخلي ، يحتمل ان يؤدي الى تعزيز الطلب على الاستيراد  كما على المنتجات المحلية ، او ان يحد على الاقل من تقلص الطلب على الاستيراد الذي قد ينجم عن هبوط الدخل الوطني ، نتيجة العجز في ميزان " المدفوعات الجارية " . لذلك ، فان اتجاه مستوى اسعار النقد الاجنبي للارتفاع ، إثر عجز في ميزان المدفوعات ، يحتمل ان يشتد بسبب التوسع النقدي . وسياسة نقدية كهذه ، تتعارض اساساً مع متطلبات تثبيت اسعار النقد ، لا توفر الجو المؤاتي لعمليات المضاربة الآلية الى تثبيت هذه الاسعار في حال وجود ضغط عليها للارتفاع او للهبوط. والوضع يختلف كل الاختلاف بالنسبة للبلدان التي لا تعتمد اقتصادياتها اعتماداً كبيراً على القطاع الخارجي ، حيث الاجراءات النقدية التي تتطلبها استعادة التوازن الداخلي إثر وقوع اختلال دوري ، هي عين الاجراءات النقدية التي تتطلبها المحافظة على ثبات مستوى اسعار النقد الاجنبي (11) . ومرد هذا التباين ان التقلبات الاقتصادية الدورية في البلاد التي لا تعتمد اعتماداً كبيراً على قطاعها الخارجي مصدرها في الغالب حركة التثمير لا ميزان المدفوعات . 

رابعاً : قلنا في معرض بحثنا للانتاج والعمالة في لبنان ان تقلب الطلب الخارجي ينعكس في تقلب الدخل الوطني الناشيء في قطاعات التصدير نتيجة لتغير الاسعار وكمية المبيع من الخدمات ، لا نتيجة لتغير مستوى العمالة . فان صح هذا القول ، تقوض الاساس الذي بنيت عليه حجة الدعوة للحفاظ على مرونة اسعار النقد . 

الخلاصة  

يقودنا هذا البحث الى نتائج ثلاث :    

اولاً ، ان استقرار اسعار النقد الاجنبي هو شرط من شروط الاستقرار الاقتصادي الداخلي . وهذا الواقع ينطبق على لبنان اكثر مما ينطبق على البلدان التي لا تعتمد على القطاع الخارجي اعتماد لبنان البالغ عليه .

ثانيا ، من المحتمل ان تقترن التقلبات الدورية في النشاط الاقتصادي بتعارض بين هدفي السياسة النقدية ، أي تثبيت اسعار النقد الاجنبي وتثبيت الاسعار الداخلية . وهذا الواقع ينطبق على لبنان دون البلدان التي لا تعتمد على القطاع الخارجي اعتماده البالغ عليه . 

ثالثاً ، في ظل سياسة نقدية مكرسة لتثبيت مستوى الدخل الوطني ، من غير المحتمل ان يتوافر الجو المؤاتي لعمليات المضاربة الكفيلة بتثبيت مستوى اسعار النقد في الامد القصير ، في بلد بالغ الاعتماد على قطاعه الخارجي كلبنان . 

نستنتج مما تقدم ان اي سياسة نقدية ترسم للبنان ينبغي ان تستهدف ، في ما تستهدفه ، التخفيف من حدة تقلب مستوى اسعار النقد الاجنبي قدر المستطاع . وفي ظل نظام حر للنقد الاجنبي يترتب على مثل هذه السياسة ان تعتمد صندوق تثبيت النقد كأداة فعالة من ادواتها .

(1) Henry C Wallich , Monetary Problems of an export Economy , Cambridge ,1950 , P . 16

(2) ًW. Fellner .Trend & Cycles in Economic Activity , N.Y. 1956 . Ps 168 – 171

(3) R. Nurkse. Problems of Capital Formation in Under Developed Countries , N.Y. 1953 , P . 145

(4)L . Mints , Monetary Policy for a Competitive Society , N.Y. 1950 , P. 126

(5) Food & Agriculture Organization , Country Report . Lebanon , Rome , 1959 , Ps 11 – 39

(6) Milton Friedman , Essays in Positive Economics , Chicago , 1959 , P . 171

(7)  المصدر السابق ، ص. 165 .

(8) Flexible Exchange System

(9) المصدر السابق ، ص . 200

(10) A. Hart & P. Kenen , Money , Debt , and Economic Activity , 3rd edition , J.J 1961 , Ps 320 – 321

(11)  راجع ولش الحاشية الاولى اعلاه ، ص. 203