أهمية التعاون النقدي العربي في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية

يحيى المصري  

نشر المقال في تشرين الاول / اكتوبر 1962 ، العدد الرابع والعشرون ، الرائد العربي  

تميز التعاون النقدي الدولي في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بقيام مؤسسة دولية تشرف عليه وتنظمه طبقاً للأسس المتفق عليها . اما قبل هذه الحرب ، فقد كانت المشاكل النقدية الدولية يتم بحثها بعقد مؤتمرات ، او تحال الى هيئات تقوم بدراسة مشكلات معينة تضع لها حلولاً جزئية قد لا تكون علاجاً تاماً للمشكلة ، كما كان ينحصر مداها ضمن الدول المنضمة الى هذه الهيئات من دون ان يكون هناك تضامن وتضافر دولي يعالج شؤون النقد والتجارة الخارجية ، مما أدى في كثير من الحالات الى تفاقم الازمات الاقتصادية والمالية وزيادة القيود التي كانت تفرضها الدول على التجارة الخارجية لتفادي مثل هذه الازمات . لذلك كان لا بد من تنظيم العلاقات النقدية العالمية بما يكفل دوام التشاور والتباحث بين الدول المختلفة وايجاد الحلول للمشاكل النقدية التي تواجهها هذه الدول . وقد تم الاتفاق في مؤتمر بريتون المنعقد سنة 1944 على انشاء مؤسسة دولية ( صندوق النقد الدولي ) لتعمل على اقامة نظام دولي ملائم للعلاقات النقدية والمالية عن طريق انشاء تنظيم دائم ، تتهيأ في ظله أسباب التشاور وتبادل وجهات النظر في حل المشاكل النقدية بين الدول ، وكي تعمل كذلك على تدبير الأرصدة اللازمة من العملات الاجنبية لاعضائه لمواجهة التقلبات القصيرة الأجل الناجمة من اختلال موازين مدفوعاتهم . 

فصّلت المادة الأولى من ميثاق الصندوق أهدافه ، التي كان من أهمها ، فيما يختص بمسائل الصرف والمدفوعات ، العمل على تحقيق ثبات اسعار الصرف والمحافظة على نظم الصرف السليمة المتفق عليها بين الاعضاء وتجنب المنافسة في تخفيض اسعار الصرف ، وكذلك التعاون في وضع نظام متعدد الاطراف للمدفوعات المتعلقة بالمعاملات الجارية بين الاعضاء والعمل على التخلص من قيود الصرف التي تعترض انماء التجارة الدولية . وعليه ، فان عدم التفرقة او التمييز في المعاملة بين الدول أصبحت القاعدة الأساس من قواعد السلوك التي أريد إقرارها في عالم ما بعد الحرب الثانية ، بالنسبة للعلاقات النقدية الدولية . وبناء على ذلك ، فلم يعد من حق أي عضو في الصندوق ان يعمد بدون موافقة الصندوق الى فرض القيود على المدفوعات الناشئة عن المعاملات الجارية اوممارسة الترتيبات النقدية المنطوية على التمييز في المعاملة بين الدول او اللجوء الى تعدد اسعار الصرف في مواجهة سائر الدول الأعضاء . 

لم يكن المقصود بهذه الترتيبات ان تمتثل معظم الدول فور انتهاء الحرب لقواعد السلوك المتفق عليها حول مسائل الصرف والمدفوعات ، والتي أهمها عدم فرض القيود النقدية على المدفوعات الناشئة عن المعاملات الجارية وترك الاعضاء أحراراً في فرض القيود النقدية على المدفوعات الناشئة عن المعاملات الرأسمالية ، لذا أقر الصندوق مبدأ وجود فترة للانتقال من اقتصاديات الحرب الى اقتصاديات عالم السلام ، يسوغ في خلالها للدول الاعضاء ان تتخلى عن الالتزامات المفروضة عليها في ما يختص بالقيود النقدية . غير ان الصندوق لم يحدد مدة هذه الفترة ولا الوسائل الايجابية الخاصة بالغاء القيود النقدية بعد انتهائها . كما سمح الصندوق للاعضاء بعدم الالتزام بقاعدة عدم التمييز في المعاملة بالنسبة للمعاملات المتعلقة باي عملية يعلن الصندوق ندرتها ، وكذلك في حالات خاصة اخرى وضّحتها الاتفاقية ، شرط الحصول مقدماً على موافقة الصندوق . 

التنظيمات النقدية الاقليمية  

يستنتج مما تقدم ان قواعد السلوك المتفق عليها في مسائل الصرف والمدفوعات في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية قد جاءت مصحوبة بعدد من الاستثناءات ، يتعلق بعضها بفترة الانتقال او بندرة العملة ، واستثناءات اخرى تتعلق بحالات خاصة يمليها اختلاف الدول عن بعضها في مراحل النمو الاقتصادي . وطبقاً لذلك ، فقد أصبح من الممكن انشاء تنظيمات نقدية اقليمية تنظوي على التمييز في المعاملة خلال فترة الانتقال ، كما انه أصبح من الممكن استحداث ترتيبات او تنظيمات اقليمية دائمة لا تنطوي على التمييز في المعاملة ، مثل تكوين صندوق اقليمي تخصص موارده لتعزبز مقدرة اعضائه على مواجهة ما قد يطرأ من اختلال في موازين مدفوعات تلك الدول .

ولما كانت الدول ، في فترة ما بعد الحرب ، في حاجة الى أرصدة متزايدة من الذهب والدولارات الاميركية لشراء السلع والآلات الضرورية من الدول الاجنبية التي لم تكن تقبل السداد بعملة اخرى ، فقد أدى ذلك الى تصدع العلاقات النقدية بين الدول التي لا تنتمي الى منطقة الدولار الاميركي . ورؤي حينذاك ان اتفاقيات الدفع الثنائية هي الوسيلة التي يمكن بواسطتها علاج هذا التصدع ، وذلك بما تكفله هذه الاتفاقيات لكل من الطرفين من تسهيلات إئتمانية يجوز الاستيراد في حدودها من الطرف الآخر من دون الالتزام بالدفع ذهباً او بالدولار . على ان هذه الاتفاقيات لم تكن العلاج الدائم للمشكلة ، ذلك انه كان يتوجب على الدول ان تدفع بالذهب او بالدولار ما يتجاوز حد التسهيلات الائتمانية ، وهو ما أريد للاتفاقيات الثنائية ان تتلافاه أصلاً . لذلك لم تغن الاتفاقيات الثنائية عن اللجوء الى التنظيمات النقدية الاقليمية التي عرفها العالم في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، والتي هيأت لعدد كبير من الدول تسوية المدفوعات في ما بينها على أساس المعاملات المتعددة الأطراف . 

شهد العالم بعد الحرب استمرار قيام المناطق النقدية المختلفة التي أهمها منطقة النقد الاسترلينية ومنطقة النقد الفرنسية وغيرهما . وباستعراض خصائص هذه المناطق نجد انه ليس هناك ما يدعو للتمييز في المعاملات النقدية او التجارية بين البلاد التي تنتمي الى المنطقة النقدية نفسها ، إذ تتميز هذه المناطق بثبات سعر الصرف المقرر وبوحدة تدابير الصرف والمدفوعات وتناسق السياسات التجارية في محيط البلدان المنتمية للمنطقة . ومما شهده العالم بعد الحرب الثانية ايضاً الجهود التي بذلت لاقامة نظام نقدي اقليمي في محيط دول اوروبا الغربية . وقد أدت هذه الجهود الى قيام اتحاد المدفوعات الاوروبي سنة 1950 لينشيء نظاماً متعدد الأطراف لتسوية المدفوعات في محيط اعضائه والمناطق النقدية التابعة لهم . واقتضى ذلك تحقيق أمرين اثنين :  

الأول ، تقرير مبدأ تسوية الدائنية الثنائية التي تتولد لأي دولة من هذه الدول قبل بعض زملائها مع المديونية التي تحققها قبل البعض الآخر بصفة آلية ، بحيث يتمخض لكل دولة في النهاية مركز واحد دائن اومدين تتمثل فيه النتيجة الصافية لعلاقاتها الدولية مع دول اوروبا الغربية كلها . 

ثانياً ، ايجاد وسيلة تتمتع بقبول عام من جانب هذه الدول لتسوية ما يتمخض لكل دولة فيها بصفة دورية من عملية المقاصة من مركز صاف دائن او مدين قبل زميلاتها جميعاً . 

نظر الى هذه الاتحاد على انه مرحلة وسيطة بين مرحلة الموازنة الثنائية التي قامت حينئذ ، وكانت تنطوي على عيوب ، وبين مرحلة تسوية المدفوعات على أساس متعدد الأطراف . لذلك رأينا انه عندما أعلنت الدول الاعضاء في الاتحاد قابلية عملاتها للتحويل للدولار الاميركي بالنسبة لغير المقيمين في 28 كانون الاول / ديسمبر سنة 1958 ، إنتهت مهمة اتحاد المدفوعات الاوروبي وحلت محله الاتفاقية النقدية الاوروبية التي أقامت صندوقاً يزود دول اوروبا الغربية بالقروض القصيرة الاجل لمواجهة العجز الموقت في موازين المدفوعات ، بل اننا رأينا ايضاً ان عشراً من هذه الدول قد أعلنت امتثالها اعتباراً من 15 شباط / فبراير سنة 1962 للالتزامات التي تفرضها عليها المادة الثامنة من اتفاقية صندوق النقد الدولي ، بما تنطوي عليه هذه الالتزامات من تجنب فرض القيود على المدفوعات الجارية او اللجوء الى تعدد اسعار الصرف او الأساليب النقدية الاخرى المنطوية على التمييز في المعاملة . 

وأخيراً ، فقد شهد العالم تأسيس ما يدعى " بالنوادي النقدية " . وهذا " النادي " عبارة عن اتفاق بين دولة معينة وبين عدد من الدول التي تعظم اهميتها في تجارتها الخارجية . وبمقتضى هذا الاتفاق ، تتمتع الدولة العضو في النادي بحرية استخدام ما يتحقق لها من ارصدة دائنة بعملة احدى دول " النادي " في سداد مديونيتها لأي دولة من الدول الاخرى المنضمة للاتفاقية . ومن أمثلة هذه النوادي الاتفاق المعقود بين البرازيل وثماني دول اوروبية ويطق عليه " نادي لاهانا " كذلك الاتفاق المعقود بين الارجنتين واحدى عشر دولة اوروبية ويطلق عليه " نادي باريس " . 

العلاقات النقدية بين البلدان العربية  

إستعرضنا فيما سبق أسس التعاون النقدي الدولي والاقليمي في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ورأينا ان الدول ووجهت بعد الحرب مباشرة بمشكلة ندرة الدولار والعملات الصعبة الاخرى ، مما أدى الى نشوء التنظيمات النقدية الثنائية في محاولة للتغلب على هذه المشكلة . غير ان هذه الاتفاقيات كانت محدودة الفائدة ولم تنجح في علاج لب المشاكل الا بقدر ضئيل ومحدود . وعليه  لم يكن ، ازاء هذا الوضع ، من حل جذري الا الالتجاء الى التنظيمات النقدية الاقليمية التي انطوت على تسوية متعددة الاطراف داخل محيط الاعضاء . وقد رأينا ان اتحاد المدفوعات الاوروبي نجح بشكل واضح في التغلب على المشاكل النقدية التي واجهت دول غرب اوروبا ، وأسهم بقدر كبير على الوصول بهذه الدول الى مستوى مرتفع من النشاط الاقتصادي ساعدها في القضاء على القيود النقدية والعمل بالاحكام الواردة في المادة الثامنة من احكام صندوق النقد الدولي . وعلى ضوء كل هذا ، يمكن التساؤل ما اذا كان الوضع النقدي بين الدول العربية ، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحصولها تباعاً على استقلالها ، يدل على التعاون في ما بينها . وبالتالي الى اي مدى وصلت هذه البلدان في تعاونها هذا .  

أنشئت جامعة الدول العربية في سنة 1945 بهدف تنظيم التعاون بين الدول العربية في مختلف النشاطات والحقول السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وذلك على أسس سليمة وبطريقة تتناسب مع طموحات العرب بالوحدة التاريخية لبلدانهم المتفرقة ، تجواباً مع وحدة الفكر والعقيدة التي تسود شعوب هذه المنطقة . فماذا كان دور هذه الجامعة في هذا المجال من التعاون ؟ . بل وماذا كان دور الحكومات العربية في تحقيق احلام شعوبها وطموحاتهم وآمالهم ؟ . 

لاشك اننا اذا ألقينا نظرة سريعة على التعاون النقدي ، وهذا ما يهمنا في هذا المقال ، بين الدول العربية لتبين لنا بوضوح ان هذا التعاون ما زال قاصراً ومحدوداً . فهو لايزال محدوداً بالاتفاقية الجماعية المعقودة داخل جامعة الدول العربية ، وهي اتفاقية تسديد مدفوعات المعاملات الجارية وانتقالات رؤوس الاموال . وهو كذلك ما زال قاصراً على ان يسهم مساهمة فعالة وايجابية في تنشيط المعاملات الاقتصادية بين الدول العربية . ولعله من المفيد هنا ان نبين بشيء من التفصيل الاسس التي قام عليها التعاون النقدي العربي بعد الحرب الثانية . فاتفاقية تسديد مدفوعات المعاملات الجارية وانتقال رؤوس الاموال بين الدول العربية تهدف الى معالجة ناحيتين اثنتين: الناحية الاولى تسوية المعاملات الجارية ؛ والناحية الثانية تتعلق بانتقال رؤوس الاموال بين البلدان العربية . ففيما يتعلق بالمعاملات الجارية ، فان كل بلد عضو يلتزم بالتزامين هما : تسهيل تحويل مدفوعات المعاملات الجارية الى البلاد المتعاقدة ، ومنح هذه المدفوعات أقصى ما يمكن من معاملة مفضلة ، وذلك في حدود امكانيات هذه الدول ووفقاً لانظمة الرقابة على النقد المعمول بها في كل منها . غير ان الاتفاقية حاولت ان تعالج حالة من الحالات التي قد تؤدي فيها تطبيق تلك الرقابة الى عرقلة المعاملات الجارية . وتتحقق تلك الحالة اذا توفر شرطان هما : ان يكون نظام تحويل العملات الاجنبية المطبق لدى احد الاعضاء يفرض قيوداً على تحويل مدفوعات المعاملات الجارية الى الاعضاء الآخرين ، وان يكون وضع ميزان المدفوعات في هذا البلد لا يساعده على تحويل المدفوعات بالعملات الاجنبية التي تقبلها الدول المتعاقدة الاخرى ، مما يؤدي الى الحد من المبادلات التجارية والمعاملات الاقتصادية الاخرى بين الاعضاء . لذلك نص الاتفاق على ان تتعهد تلك الدول، في هذه الحالة ، بان تمنح المقيمين في البلد الاول ( والبلاد الاخرى المتعاقدة التي قد تكون في الوضع نفسه ) التسهيلات التالية على الاقل :  

1 – الحق في ان يستعملوا حسابهم الدائن لتسديد كل مدفوعات المعاملات الجارية (المبينة في القائمة المرفقة بالاتفاقية ) المستحق دفعها في تلك الدولة ولتسديد قيمة كل مستوردات البلد الذي يقيم فيه صاحب الحساب من تلك الدولة . 

2 – الحق في ان يستعملوا حسابهم الدائن لتسديد قيمة اي بضاعة يشترونها من اقليم تلك الدولة بقصد تصديرها الى اي بلد من بلدان احد الاطراف المتعاقدين او اي بلد آخريسمح القانون بالتصدير اليه . 

3 – الحق في ان يحولوا كل او بعض حسابهم الدائن الى المقيمين في اي بلد من بلدان الاطراف المتعاقدة .    

 4 – اذا كان النظام المطبق في البلد المدين يرفض تسديد جزء من قيمة انواع معينة من البضائع بعملة اجنبية معينة ، فيحق لصاحب الحساب الدائن في الحالتين المنصوص عليهما في الققرتين 1 و 2 السابقتين ان يسدد فقط بالعملة الاجنبية جزءاً من القيمة في حدود أضل نسبة مقررة في البلد المدين في الحالات المماثلة ، ويسدد الجزء الباقي من حساب البلد الدائن . 

اما في ما يتعلق بحركة رؤوس الامزال ، فقد تعهدت كل من حكومات البلدان الاعضاء بان تجيز انتقالها تمكيناً لرعاياها والمقيمين يها من الاشتراك في مشاريع التنمية الاقتصادية التي يتفق عليها ، وذلك ايضاً في حدود القواعد التي تضعها كل دولة لحماية رؤوس اموالها او رؤوس الاموال التي انتقلت اليها من خارج البلاد . وقد حددت الاتفاقية التزامين اثنين على عاتق الاعضاء لتسهيل انتقال رؤوس الاموال في ما بينها ، وهما :  

أ – عدم اخضاع رؤوس الاموال التي تنتقل من بلد عربي الى بلد عربي آخر لأية رسوم او ضرائب استثنائية تفرض للحيلولة دون ذلك الانتقال .

ب – سماح حكومة كل بلد عربي لرؤوس الاموال العربية التي ترد اليها بعد توقيع الاتفاقية بالعودة الى موطنها الاصلي ، اذا شاء أصحابها ذلك . كما صدر تعديل للاتفاقية سنة 1955 سمح بتحويل الارباح الناتجة عن استثمار رؤوس الاموال داخل احدى الدول المتعاقدة الى موطن رأس المال الأصلي . 

نجد ، من الناحية العملية ، انه لم يترتب على الاتفاقية حدوث انتقال لرؤوس الاموال بين البلدان العربية ، إذ ان الاتفاقية لم تنظم الوسائل العملية الفعالة التي من شأنها وضع بنود هذه الاتفاقية موضع التنفيذ العملي ، ونظراً لعدم وجود رغبة أكيدة وصريحة لتشجيع رؤوس الاموال بالانتقال الى داخل البلاد الاعضاء حيث يتم توظيفها . كما ان الاتفاقية اقتصرت على راس المال الخاص دون العام . ومن ناحبة اخرى ، فان الاتفاقية لم يترتب عليها، في مجال تسوية المدفوعات الجارية ، أي نتائج تذكر ، باستثناء الحالة الخاصة المتعلقة بتسوية المدفوعات الجارية التي سبق ذكرها . وقد تكون طريقة تسوية المدفوعات في الاتفاقيات الثنائية المعقودة بين هذه الدول أكثر سهولة وتسهيلاً الطريقة التي نصت عليها الاتفاقية في هذه الحالة الخاصة لأنها أكثر تحديداً ولأنها غالباً ما يتفق فيها على تسوية المدفوعات بين البلدين بعملة احد الطرفين ، كما سيأتي ذكره . 

هناك التزام من الالتزامات التي وضعت في تلك الحالة الخاصة المشار اليها يستحق الاهتمام لأنه كان من الممكن ان يكون نقطة البداية في اقامة تنظيم نقدي فعال بين البلدان العربية ، وهو الالتزام المشار اليه في البند الثالث الذي ينص على ان يكون لاصحاب الحسابات الدائنة الحق في تحويل كل او بعض حساباتهم الدائنة الى المقيمين في اي بلد من بلدان الاطراف المتعاقدة . وبهذه الطريقة كان من الممكن اقامة نظام مقاصة متعدد الاطراف بين البلدان العربية يستخدم فيه ما يتجمع من فائض لدى احد الاعضاء في تسديد عجز يحققه هذا العضو لصالح بلد ثالث ضمن نطاق دول الجامعة العربية . وكان من شأن هذا النظام بالطبع أن يعمل على زيادة المعاملات الاقتصادية بين البلدان العربية . غير ان هذا الالتزام نفسه لم يوضع موضع التنفيذ الا في حدود ضئيلة وضيقة ، بل يكاد يتلاشى ويضمحل في الوقت الحاضر. 

الاتفاقيات الثنائية بين البلدان العربية  

ذكرت سابقاً ان الاتفاقيات الثنائية للتجارة والدفع نشأت على أثر الازمة الدولارية التي نجمت عن حاجة الدول العربية الى المزيد من العملة الاميركية لشراء المواد الاولية والسلع الضرورية اللازمة لاصلاح ما خربته الحرب . على ان هذه الازمة استمرت فيما بعد ، وتعقدت تسوية المدفوعات بين المتعاقدين . كما ساعد في استمرارالازمة ما تقرر من تبادل تسهيلات ائتمانية في حدود كبيرة .  

عرفت اتفاقيات الدفع هذه في البلاد العربية بعد خروج مصر من منطقة الاسترليني سنة 1947 . فقد عقدت مصر بعد هذا العام اتفاقيات تجارة ودفع عديدة مع البلدان العربية ، كما تم عقد اتاقيات عديدة مماثلة بين الدول العربية الاخرى . ونظراً لأن الجمهورية العربية المتحدة كانت اكثر الدول العربية التي عقدت اتفاقيات دفع في المحيط العربي من ناحية ، ونظراً لاهمية هذه الاتفاقيات في تنظيم العلاقات النقدية بين هذه البلدان من ناحية اخرى ، فلا بد من الاشارة هنا الى بعض الاحكام الواردة في هذه الاتفاقيات . 

1 – ينص الاتفاق المعقود في تونس في الخامس من شهر آذار / مارس الماضي على اجراء المدفوعات بين البلدين بالدولار الحسابي ، على ان تستورد تونس منتجات قيمتها مليون وثمانمئة الف دولار خلال هذا العام (1962) ، ومنتجات بلميوني دولار في خلال العام القادم ، واخرى بمليونين ونصف مليون دولار في خلال سنة 1964 . وأهم المنتجات التي اتفق على تصديرها الى تونس هي القطن والكبريت والافلام والمواد الصناعية ، مقابل ان تستورد الجمورية العربية المتحدة من تونس زيت الزيتون وموالح وطماطم ( بندورة ) محفوظة وخشب ورصاص بالقيمة نفسها .  

2 – ينص الاتفاق المعقود مع السودان على اجراء المدفوعات بين البلدين بالجنيهات عن طريق الحسابين المسميين أ و ب . فالحساب أ يتعلق بتسديد السلع المتبادلة والمصاريف المتصلة بها ، بينما يتعلق الحساب ب بتسديد المدفوعات الجارية الاخرى . وهذان الحسابان مفتوحان لدى البنك المركزي المصري باسم بنك السودان. واتفق على ان تسدد الجمهورية العربية المتحدة صافي رصيد هذين الحسابين في نهاية شهر حزيران/ يونيو من كل عام بعملة حرة ، وذلك بشرط ان تصل مشتريات كلا الطرفين الى الحد المتفق عليه وقدره خمسة ملايين جنيه مصري سنوياً . 

3 – ينص الاتفاق المعقود مع لبنان على اجراء المدفوعات بين البلدين بالجنيهات المصرية عن طريق حسابات لبنانية مصرفية غير مقيمة باسماء المصارف اللبنانية المعتمدة في الجمهورية العربية المتحدة ، على ان تتم التسوية النهائية لهذه الحسابات ببضائع ومدفوعات جارية . ويلاحظ انه قد اتفق على ان يتم تحويل نفقات السفر للسياحة في لبنان بالجنيه المصري عن طريق حساب باسم الجمهورية اللبنانية غير المقيم المفتوح باسم بنك سوريا ولبنان لدى البنك المركزي المصري . وتحدد سعر صرف الجنيه المصري بالنسبة لليرة اللبنانية في الحساب المذكور اعتباراً من 30 ايار / مايو 1961 بثمانية ليرات لبنانية لكل جنيه مصري . وفي 19 ايار / مايو الماضي (1962 ) تم الاتفاق على تمديد العمل بالاتفاق السياحي المعقود بين لبنان والجمهورية العربية المتحدة لمدة سنة اخرى . ويقضي الاتفاق ان يصرح لكل مسافر بتحويل ما يعادل مبلغ مئة جنيه مصري بالليرات اللبنانية بالسعر المذكور ، كما يسمح للرعايا اللبنانيين المقيمين في الجمهورية العربية المتحدة باجراء هذه التحويلات . وقد تم الاتفاق ايضاً على ان تستورد الجمهورية المتحدة من لبنان هذا العام فاكهة لبنانية ، وأهمها التفاح ، في حدود الف جنيه مصري . 

4 – ينص الاتفاق المعقود مع العراق على اجراء المدفوعات بين البلدين بالدينار العراقي عن طريق حساب الجمهورية العربية المتحدة لدى البنك المركزي العراقي باسم البنك المركزي المصري . وحددت قيمة تبادل التسهيلات الائتمانية بحد اقصى مشترك قدره 500 الف دينار عراقي ، على ان يسدد اي تجاوز لهذا المبلغ من رصيد الحساب بعملة قابلة للتحويل . اما التسوية النهائية فتتم ببضائع ومدفوعات جارية في خلال ستة اشهر ، وبعد ذلك بعملة قابلة للتحويل يتفق على نوعها . 

5 – ينص الاتفاق المعقود مع ليبيا على اجراء المدفوعات بين البلدين بالاسترليني الحر على الوجه التالي :  

أ – المدوعات لليبيا ، إضافة الى الحساب الليبي ، باسم البنك الوطني الليبي لدى البنك المركزي المصري .

ب – المدفوعات من ليبيا ، اضافة الى الحساب المصري ، باسم البنك المركزي المصري لدى البنك الوطني الليبي ، مع تبادل تسهيلات ائتمانية بحد اقصاه مشترك قدره 750 الف جنيه استرليني . واذا ظهرت مقاصة الحسابين في نهاية اي شهر تجاوزاً عن هذا الحد فيسدد هذا التجاوز بالاسترليني او بعملة اخرى قابلة للتحويل عند مطالبة الطرف الدائن . اما التسوية النهائية فتتم ببضائع ومدفوعات جارية في خلال سنة ، وبعد ذلك بالاسترليني او باي عملة اخرى قابلة للتحويل يتفق عليها الطرفان فور مطالبة الطرف الدائن . 

6 – ينص الاتفاق المعقود مع المغرب على اجراء المدفوعات بين البلدين بالدولار الاميركي الحر عن طريق الحساب المغربي باسم بنك المغرب لدى البنك المركزي المصري ، مع تبادل تسهيلات ائتمانية مشتركة حدها الاقصى مليون وخمسمئة الف دولار . وما زاد عن ذلك ، بسدد بعملة قابلة للتحويل يتفق عليها الطرفان . اما التسوية النهائية فتتم ببضائع ومدفوعات جارية في خلال تسعة اشهر من تاريخ انتهاء العمل بالاتفاق ، وبعد ذلك بطريقة يتفق عليها الطرفان .  

كذلك تم عقد اتفاقيات دفع بين البلدان العربية الاخرى تشبه الاتفاق الثنائي الذي عقدته الجمهورية العربية المتحدة مع كل من لبنان والعراق . 

من الملاحظ ان هذه الاتفاقيات الثنائية قد أدت الى تنشيط المعاملات التجارية بين البلدان العربية في حدود التسهيلات الائتمانية . اما بعد تجاوز هذه الحدود فكانت المعاملات تتوقق قي الغالب ، إذ كانت الدولة الدائنة ترفض السماح للدولة المدينة بسداد مدفوعاتها بالطريقة الميسرة التي نص عليها الاتفاق ، فلا يكون امام الدولة المدينة الا امرين : اما ان تحاول تقييد الاستيراد من الدولة الدائنة ، وسبيلها الى ذلك انما ينحصر في قصر الترخيص بالاستيراد منها على السلع الضرورية التي لا يتيسر الحصول عليها من البلاد التي تحقق لها فائض معها ، ويكون من شأن ذلك الاتجاه بمستوى التبادل التجاري بين البلدين الى الانخاض ، واما ان تقبل الدفع بالعملات الحرة وتجميد الاتفاق الثانئي . وهذا ما حدث بالفعل منذ فترة قريبة بين تونس والجمهورية العربية المتحدة وكذلك بين هذه الاخيرة والمملكة العربية السعودية . 

قصور التعاون النقدي العربي  

رأينا في ما سبق ان التعاون النقدي العربي ما زال محدوداً ، وانه منظم في معظمه على أساس ثنائي . وهذا ما حاولت تلافيه أغلب الدول التي ترتبط فيما بينها ببعض الصلات او التقارب ، فأنشأت التنظيمات النقدية الاقليمية حتى لا تكون القيود النقدية المطبقة في كل منها سبباً لعرقلة تعاونها في الشؤون الاقتصادية المختلفة ، بل حتى تستطيع تسخير علاقاتها النقدية في سبيل تنشيط هذا التعاون وازدهاره ، وذلك عن طريق الحد من القيود النقدية واقامة نظام للتسوية المتعددة الاطراف بين الاعضاء . اما في البلدان العربية فانه ما زالت هناك عقبات تحد من وجود تعاون نقدي عربي فعال . ومن هذه العقبات ما هو سياسي او نقدي او اقتصادي او مزاجي . ثم ان هناك بعض هذه البلدان من هو مرتبط بمناطق نقدية اجنبية مما يؤدي الى الحد من سيطرتها على وضع سياسة نقدية مستقلة . على انه يجب ان نؤكد ان اي تنظيم نقدي عربي ، اذا أريد له النجاح ، ان يقوم اساساً على نظام للمقاصة المتعددة الاطراف بين الدول الاعضاء ، على غرار ما كان معمولاً به في اتحاد المدفوعات الاوروبي . كما يجب ان يكون هناك راس مال مشترك يخصص لانجاح هذا التنظيم . ولعل أهمية هكذا تنظيم ستبدو ضرورية عندما يقدر لهذه الدول ان تعمل على زيادة المعادلات والمعاملات الاقتصادية فيما بينها . وعندما تتوطد الاوضاع السياسية وتستقر ويتم القضاء على اسباب الخلافات السياسية القائمة حالياً ويسود المنطقة كلها الاستقرار السياسي والأمني الوطني المنشود . عند ذلك سيكون الجو مناسباً لتعاون حقيقي فعال يسخر لصالح الشعب العربي بكامله . 

تجدر الاشارة هنا الى انه حيث لا ينتظر اقامة مثل هذا التنظيم في الوقت الحالي ، لسبب او لآخر، فانه ليس هناك ما يمنع من ان يتخذ التعاون النقدي الاقليمي بين البلدان العربية صورة صندوق نقدي يزود اعضاءه بالقروض القصيرة الامد لمواجهة العجز الموقت في موازين مدفوعاتهم ، على غرار نظام الصندوق الذي أنشيء بمقتضى الاتفاقية النقدية الاوروبية . 

إنه لمن الخطأ الاعتقاد ان التعاون النقدي بين الدول العربية سيظل محدوداً وقاصراً لاعتبارات اقتصادية بحتة ، ذلك انه ، بصرف النظر عن وجود أي تنظيم نقدي عربي ، فانه اذا خلصت النيات في اقامة تعاون فعال ، فان المجال متسع في هذا الميدان . فالى جانب ما يؤدي اليه هكذا تعاون من تنشيط للمعاملات التجارية بين هذه البلدان ، وعدم اضطرار بعضها الى الشراء من الدول الاجنبية نتيجة للصعوبات النقدية ، فان هناك ناحية اخرى لا تقل أهمية عن الناحية السابقة،  ذلك ان الفائض في متحصلات بعض هذه الدول من العملات الحرة التي تصرف حالياً في بعض النواحي غير الضرورية ، يمكن استخدامها في شراء السلع والمواد الضرورية اللازمة لبلاد عربية اخرى بدلاً من لجوء هذه البلاد الى الاقتراض الخارجي . وبذلك يساعد هذا التعاون العربي – العربي على اقامة مشاريع انمائية وعمرانية من شأنها ان تسهم في رفع مستوى الشعوب العربية بأكملها .