التنمية الاقتصادية والخير الاجتماعي

 


مروان نصر

عضو مجلس ادارة مكتب العمل الدولي بجنيف

اين سر جمعية الصناعيين اللبنانيين في بيروت

نشر المقال في تشرين الثاني / نوفمبر 1960، الرائد العربي ، العدد الاول

الحديث عن مناهج التنمية الاقتصادية ومخططات الخير الاجتماعي هو اليوم موضوع الساعة في كل بلد ناشئ وفي جميع الهيئات الدولية المعنية بشؤون الانسان والشعوب . فقد أثبتت اختبارات القرن العشرين بما لا يدع مجالاً للشك أن الفقر وما يلازمه من جهل يهدد سلامة الشعوب وأمن العالم . وقد نهض أصحاب المسؤولية في كل مكان الى محاربة الفقر العام عن طريق المناهج الوطنية للتنمية الاقتصادية . ونشأت في التنمية الاقتصادية مدرستان . تقول المدرسة الاولى، وهي الاقدم ، بأن تكتفي الدولة بإنماء الاقتصاد الوطني وزيادة المدخول العام وأن تترك بعد ذلك للناس حرية التصرف في مداخيلهم وإنفاقها في السبيل الذي يرتأون، لأن الامر في النهاية سيؤدي الى ارتفاع مستوى المعيشة وتأمين الخير العام للجميع .

أما المدرسة الثانية ، وهي الاكثر حداثة ، فتقول إن على الدولة ان ترعى التنمية الاقتصادية وان تفكر بالاغراض النهائية للتنمية الهادفة الى تأمين مستوى أرفع من العيش للجميع وضمان الخير العام . وحجة أصحاب المدرسة الجديدة أن التحول من الفقر الوطني الى الغنى لا يتبعه تلقائياً ، وبنفس الدرجة ، تحول جماهير المواطنين من حالة عوز وجهل ومرض الى حالة وفر ونور وصحة ، ذلك أن التنمية الاقتصادية تستهدف انماء كوادر البلاد الاساسية ، كحفظ التربة واستصلاح الاراضي والتحريج وشق الطرق وإقامة الجسور وبناء المرافيء والمطارات وانشاء السدود والاقنية وتوليد الطاقة بكميات وافرة وانشاء مراكز للبحوث الصناعية والتعليم والتدريب المهني واستثمار الثروات الطبيعية المنجمية وإقامة الصناعات الاساسية.

وتتطلب هذه الاعمال توظيف رؤؤس اموال ضخمة وأعداد كافيةً من الفنيين والاخصائيين وايدٍ عاملة غير متخصصة . وبما ان البلدان التي تحتاج الى التنمية ، على العموم ، بلداناً فقيرة او غير غنية بما يكفي ، فان الضغط على موارد الرسملة لديها يكون شديداً جراء تطبيق مناهج التنمية ، بينما مواردها وقدراتها محدودة او ضعيفة بحيث لا تؤهلها تخصيص بعض مداخيلها ، مهما زادت ، في اوجه بعضها استهلاكية ، انما ضرورية ، لرفع مستوى المعيشة وتأمين الرخاء والخير الاجتماعي لعامة الشعب .

فالخير العام يتطلب مساكن جديدة تتمتع بالشروط الصحية الضرورية ، كما يتطلب عملاً مؤمناً للجميع وضماناً ضد المرض والشيخوخة والبطالة وتعليماً الزامياً مجانياً على جميع المستويات ، بدءاً بالتعليم الابتدائي وانتهاءًا بمجالات التخصص العالي لذوي الكفاءات . كما يتطلب التوجيه المهني والارشاد والتدريب المتواصل ورعاية الطفولة وتأمين الجو الصحي النفسي والجسدي لها . كذلك يتطلب الخير الاجتماعي ان تحصل كل عائلة على دخل كافٍ لتأمين مستوى حياة لائق ، سواء أشمل ذلك حاجات الغذاء والكساء او المسكن او التعليم .

ما يقصد بالخير العام هو إشعار الانسان بأنه شريك محترم في مجتمعه ووطنه، وعضو نافع في مجتمع انساني حر ، يسهم هو في رفعته وتطوره ويشارك في مصيره ويتمتع ، بالتالي ، بنتاجه . ويندر اليوم ان نجد انساناً لا يدرك مقاصد الخير الاجتماعي . كذلك يندر ان نجد أحداً لا يطمح بالحصول على هذه المنافع والمقاصد . ويصعب كثيراً على قادة الامم وموجهي الشعوب ان يقنعوا الانسان العادي ان ينتظر حتى تتحق مقاصد التنمية الاقتصادية كلها قبل ان تتحول تدريجياً وتلقائياً الى منافع تخدم الخير العام . فالفقر لا ينتظر والجوع لا تتغلب عليه الوعود . ومن يعيش هذه الحالة يريد ان يجني منافع الان وليس بعد غد . فقلما يستطيع هذا الانسان الغارق في فقره المدقع ان يصبر على مرارة حاضره بانتظار حلاوة مستقبله ، خاصة وان مناهج التنمية قد لا يصيبه منها الا القليل بينما تجلب النعمة لقلة من مواطنيه المحظوظين ، كالاخصائيين والمتعهدين واصحاب رؤوس الاموال الكبيرة . وتزداد مرارته حدة اذا ما قارن بين ما فيه وبين ما عليه سواه من المستفيدين .

يخشى المعنيون على الصعيد العالمي بمناهج التنمية الاقتصادية ، كالمجلس الاقتصادي التابع للامم المتحدة ، او الذين يشرفون على المصرف الدولي او صناديق المساعدات الخارجية في الدول المانحة ، أن تؤدي مناهج التنمية الاقتصادية البحتة الى خلق الشعور بالشك والتقمة عند سواد الناس بدلاً من أن تؤدي الحياة أكثر رفاهية وطمأنينة وغنى .

لا تأتي المساعدات الخارجية للتنمية الاقتصادية من شعور حكومات البلدان المتقدمة بالشفقة على افراد شعوب البلدان المتخلفة . فقد يكون هذا الشعور موجوداً وقد لا يكون . وانما ينبثق عن قناعة بأن الفقر والجهل والمرض اذا عم شعوباً كثيرة لن يلبث ان يخل بالتوازن الاجتماعي والسياسي في اطراف العالم وتحدث ، بالتالي ، اضطرابات وانقلابات تصيب شذاياها الكثيرين في الداخل وفي الخارج . فاذا بذلت الدول الغنية بعض الجهد لمساعدة الدول الفقيرة فانها تكون بذلك تفدي امنها وسلامتها وتترك أثراً جيداً وشعوراً جياشاً بنبل اهدافها. واذا ما شعرت هذه الدول المانحة ان مناهج التنمية الاقتصادية لم تعط ثمارها او انها جاءت متأخرة فانها قد تترد في تقديم المساعدات او تقطعها .

لقد دلت الاحداث التي مر بها العالم مؤخراً على ان مناهج التنمية الاقتصادية لا تكفي وحدها لاشاعة الخير الاجتماعي . إن عملاً مركزاً وسريعاً يجب ان يسير جنباً الى جنب مع هذه المناهج لكي يزداد الدخل الحقيقي لدى جميع الافراد باستمرار وبنسبة متوازية مع زيادة الثروة الوطنية . وقد فعلت هذا الاحداث فعلها وبدأت تخترق اذهان المسؤولين في البلدان الأشد تعصباً للنظام الاقتصادي الحر ، كالولايات المتحدة الاميركية ودول غربي اوروبا . وبتنا نرى الان ان الكثيرين من المسؤولين الاميركيين بدأوا يعترفون بضرورة ان تقترن مناهج التنمية الاقتصادية بمناهج تهدف الى إشاعة الخير الاجتماعي ، ولم يعودوا يكتفون بالقول ان عملهم يقتصر على تقديم المساعدات وان على حكومات الدول الفقيرة ان تقوم هي ايضاً بواجب تحقيق الخير الاجتماعي المطلوب . وبات الان ، نظراً لان موارد التنمية وبخاصة الموارد الخارجية محدودة لا تكفي لتلبية طلبات كل البلدان المحتاجة ، يطلب من حكومات البلدان المتلقية للمساعدة ان تثبت حاجتها للمساعدات وانها اكثر كفاءة من سواها في تحقيق الاهداف المطلوبة . ومن هنا ينطلق الباحثون اليوم عن المساعدات الخارجية الى ابراز أوجه الخير الاجتماعي الذي سيعم او يزداد تعميماً بفعل تحقيق المشاريع الاقتصادية والانمائية المحتاجة الى مساعدات .

وبعد ان كان المشرفون على تخصيص المساعدات ينظرون ، اذا تساوت المواقف السياسة ، الى اي من المشاريع هو اكثر ربحاً اقتصادياً ، أصبحوا اليوم يفضلون المشاريع الاكثر اشاعة للخير الاجتماعي . وليس ببعيد ذلك اليوم الذي سيحكمون على جدوى اي مشروع من زاوية اثره في اشاعة الخير الاجتماعي .

أتيح لنا أن نرى اليوم هذا التطور في مؤسسة من اكبر المؤسسات الدولية ونعني بها منظمة العمل الدولية . فقبل خمس سنوات عرض على المؤتمر السنوي العام للمنظمة قرار يطلب من الهيئات التي تقررمنح مساعدات التنمية الاقتصادية للدول المتخلفة ان تمتنع عن اعطاء هذه المنح والمساعدات الا للدول التي تثبت انها تستخدم مشاريع التنمية الاقتصادية كقاعدة لمناهج تنمية اجتماعية. وقد فشل مشروع القرار هذا يومئذ لأن أكثرية الدول عارضته . وكانت حجتها ان مناهج التنمية الاقتصادية لن تلبث ان تجلب الخير الاجتماعي ، وقالت ان ربط المساعدات الاقتصادية بقيود اجتماعية يعرقل منح المساعدات او يعيق الاستفادة منها .

وعاد مشروع قرار مماثل ان طرح للبحث في مؤتمر منظمة العمل الدولية خلال دورة حزيران / يونيو سنة 1960 ولم يرفض انما جرى تعديله بعد جدال طويل بحيث تضمن القرار الطلب من الهيئات الدولية عند تقديمها للمساعدات الاقتصادية ان تدرس النتائج الاجتماعية التي ستحققها هكذا مساعدة وان تسعى جهدها لتكون المشاريع الممولة ذات نتائج خيِرة . ولا نستبعد ان يطرح بعد سنتين مثلاً مشروع قرار آخر يعدل هذا القرار فتحذف المنظمة " درس " و " السعي " وتجعل القرار كله الزامياً . واذا صح ما نتوقع ، يصبح حظ الدول في الحصول على المساعدات الحارجية لتنمية اقتصادها مرهوناً بمدى المناهج والبرامج التي تضعها لاشاعة الخير الاجتماعي ، وكفاءة هذه المناهج وحسن تنفيذها . وقد يكون من نتائج ذلك ان يصبح التقدم الاجتماعي شرطا ملازماً للحصول على المساعدات الخارجية المخصصة للتنمية الاقتصادية . وهي ستصبح كذلك اذا بقي التزاحم على المساعدات الخارجية كما هو عليه الان او اذا زاد وارتفعت وتيرته . فأي حظ يكون عندها لبلد عربي في الحصول على المساعدات هذه ؟ .

هذا هو السؤال الملح الذي يتطلب اجوبة سريعة ، على ان لا تكون الايجابة وعوداً وعبارات فضفاضة لا جدوى منها ، بل مناهج مدروسة مقرونة لاحقاً بتنفيذ حسن يثبت صلاح خطة التنمية الاجتماعية الموضوعة وكفاءة تنفيذها .