مع أهل الاختصاص: الدكتور محمد سعيد قدري يقول:

 

لا يجوز الفصل بين التنمية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية للمجتمع

نشر المقال في ايلول / سبتمبر 1961 ، العدد الحادي عشر ، الرائد العربي

يعتبر الدكتور محمد سعيد قدري ، مدير " مركز تنمية المجتمع العربي في سرس الليان " في الاقليم الجنوبي من الجمهورية العربية المتحدة ، من أشهر الاخصائيين في مجالات التنمية الاجتماعية واساليبها ومشاكلها . وقد ارتأت مجلة " الرائد العربي " ، بمناسبة انعقاد المؤتمر الاول لخريجي مركز التنمية في بيروت ان تطرح عليه بعض الاسئلة في نواحي اختصاصه . والمؤتمر المذكور انعقد في بيروت بين 25 تموز / يوليو و 2 آب / أغسطس 1961 . وكان الحوار التالي .

بصفتكم من العاملين في حقل التنمية ومديراً لمركز " تنمية المجتمع العربي في سرس الليان بمصر ، هل لكم ان تحدثونا عن رأيكم في علاقة التنمية الاجتماعية بالتنمية الاقتصادية ؟ .

لا بد من الاشارة ، في البدء ، الى ان كلمة تنمية اجتماعية هي كلمة فضفاضة ، أعم وأشمل من التنمية الاقتصادية . ومفهوم التنمية الاجتماعية يضم مفهوم التنمية الاقتصادية . لذلك ترانا نطلق على المركز اسم "مركز تنمية المجتمع العربي" لكي نتفادى مشكلة التفريق بين الناحيتين . وهناك من الناحية النظرية مدرستان تنظر كل منهما الى هذا الموضوع نظرة مختلفة ، بل معاكسة ، للنظرة الاخرى . فالمدرسة الاولى تعتبر التنمية الاقتصادية أساساً ، وترى ان رفع المستوى الاقتصادي وحده كفيل بان يرفع المستوى الاجتماعي . اما المدرسة الثانية فتنطلق من منطلق معاكس ، وترى ان رفع المستوى الاجتماعي يستتبع حتماً رفع المستوى الاقتصادي . وفي رأي ان النظرة الصحيحة تكمن في طرح ثالث يعلو فوق النظرتين السابقتين ، بمعنى انه لا بد من الجمع الزمني بين رفع المستوى الاقتصادي ورفع المستوى الاجتماعي . فمن الثابت عملياً،  ومن الحالات الواقعية ، ان زيادة الدخل بين العمال ، كما حدث خلال الحرب العالمية الثانية الماضية ، لم يؤد الى رفع مستواهم الاجتماعي ، بل أدى في كثير من الحالات الى نشوء نوع جديد من المشاكل الاجتماعية  التي رافقت زيادة الدخل الذي جاء من دون رقابة اجتماعية واعية .

هذا من جهة . ومن جهة ثانية ، ثبت ان الاقتصار على ما يسمى بالتنمية الاجتماعية البحتة قد يسهم في تكوين بعض الاتجاهات السليمة في الفرد والتي تحتاج الى تمويل مالي حتى يتمكن هذا الفرد من تحقيق الحاجات والمتطلبات التي تنتج عنها . إذ ما الفائدة من خلق اتجاهات سليمة عند الافراد في مجال الصحة العامة ، مثلاً ، من دون ان تتوفر لدى الفرد امكانات تحقيقها . ففي رأي ان تكوين الاتجاهات الاجتماعية السليمة من دون مساندة تتيحها الامكانات المادية يؤدي الى عكس ما هو مقصود ومراد ، ويولد احياناً عند الفرد شعوراً بالنقص وعدم القدرة على تحقيق آماله الجديدة ، مما يؤدي بالتالي الى نشوء نوع من الحقد على المجتمع ككل ، مع ان الهدف الأساس في التنمية الجتماعية هو المواءمة بين الفرد والمجتمع .

من خلال دراستكم لأوضاع المجتمع العربي ونفسية الفرد العربي ، هل ترون من صفات مشتركة او قاسم مشترك بين افراد العالم العربي ؟ .

إن أول ما نلاحظ ، كصفة مشتركة بين افراد المجتمع العربي ، هو هذه الصفة الانفرادية التي تطبع النفس العربية . وهذه الصفة غير أصيلة ، بل تكونت نتيجة لظروف تاريخية مر بها العالم العربي وجعلت الفرد العربي يفقد الثقة في الجماعة التي تحيط به ، بما في ذلك الجماعة في أضيق حدودها ، كألاسرة مثلاً ، وفي الحكام وأجهزة الدولة .

وقد ثبت زيف هذه الصفة بالتجربة . فنحن لو تمكنا ، بشكل ما ، من ان نقضي على الهوة بين الحاكم والمحكوم ، وبين الفرد والجماعة ، نجد انه سرعان ما تعود الثقة للفرد . وليس هذا فحسب ، وانما نجد الفرد، بعد ان تتوفر له هذه الثقة المفقودة ، ينطلق انطلاقة تدل على المعدن الأصيل للفرد العربي في التعاون والاندماج . ولدينا أمثلة كثيرة جداً توضح صدق الفرد العربي مع من يصدق معه .

ومن الغريب ان فقدان ثقة الفرد العربي بمن يحيطون به قد امتدت لتطال فقدانه للثقة بنفسه . وهذا الامر تمتد جذوره في التاريخ الحديث للعالم العربي الذي جعل من الفرد شخصاً اتكالياً يعتمد على غيره ولا يثق بنفسه . ولعل هذه العقدة ، عقدة النقص ، هي أهم العقد التي يجب التغلب عليها عند البدء في اية عملية من عمليات الاصلاح الاجتماعي في البلاد العربية .

أما الصفة الثانية البارزة ، التي يشترك فيها الافراد العرب ، فتتمثل في احترام الفرد لمن هو أكبر ولما هو أكبر . ولا نقصد بالكبر السن الزمني او الضخامة المادية فحسب ، وانما قد يكون الى جانب هذا ، النضوج والزعامة . وقد يرجع نشوء هذه الظاهرة الى طبيعة البلاد الزراعية والطبيعة البدوية في البلاد العربية . وهذه الظاهرة ذات حدين : فهي تضر اذا لم تتوفر مثل هذه الزعامة ، سواء أكانت روحية ام علمية ، او توفرت بشكل ممسوخ ومشوه ؛ وقد ينجح النفع كله في ميادين التنمية الاجتماعية اذا ما توفرت هذه التنمية بالشكل الصحيح.

من تجاربنا العملية ، يمكن القول ان الجماعات العربية لديها كل الاستعداد ان تلتف حول من يقودها لأنها تشعر بهذه الحاجة ، شرط ان تكون هذه القيادة قيادة واعية . وينطبق هذا الامر على الجماعات الصغير ، القروية مثلاً ، مثلما ينطبق على الجماعات الكبيرة ، مثل الدولة او أكثر من دولة واحدة . ومن الغريب انه في الوقت الذي تلح فيه هذه الحاجة على الافراد او الجماعات الى اختيار من يقودها ، تتوفر لدى الجماعة او الفرد العربي حساسية ، قد نسميها غريزية ، لاصالة هذه القيادة وأمانتها او زيفها .

في ميدان عملكم في مركز التنمية ، هل تعتمدون الفرد ام الاسرة كخلية للمجتمع ؟ .

اننا نتبع في هذا المجال الاتجاه العام في العالم نحو تكبير الوحدة الاجتماعية لا تصغيرها . ولا أعني بذلك طمس معالم الفرد ، فذلك يعني في النهاية طمس معالم المجتمع ، بل أقصد اننا في تنميتنا للفرد نعتمد تقويته لكي يشغل في الجماعة مكاناً تحتاج اليه هذه الجماعة ، بحيث يكون عاملاً من عوامل تقويتها لا عاملاً من عوامل اضعافها وامتصاص طاقاتها وقدرتها . فما نطمح اليه هو تقوية الفرد كي يقوي بدوره المجتمع لا ان يقوى على المجتمع .