الاحصاء ومشروعات التخطيط والتنمية الاقتصادية

 

د. حسن محمد حسين  

نشر المقال في ايلول / سبتمبر 1962 ، العدد الثالث والعشرون ، الرائد العربي  

التخطط اسلوب علمي يستند الى الدراسة الشاملة لكل امكانات الدولة وثروتها الطبيعية ومواردها المادية والبشرية في العمل على تنسيق استغلال هذه الموارد والامكانات داخل كل قطاع على حدة وبين القطاعات المختلفة في اطار معين يوضع تصميمه مقدماً وتحدد فيه الكمية اللازمة للوصول الى تحقيق الاهداف القومية التي تتطلع اليها الدولة . ويهدف اسلوب التخطيط في النهاية الى توفير قدر معين من مطالب الحياة ، على اختلافها ، لكل فرد من افراد الشعب بأقل جهد وارخص نفقة ، وذلك عن طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية على النطاق القومي . وللتنمية الاقتصادية طابع ديناميكي ينشأ من تشابك العلاقات بين عواملها المادية ، ومن الاثار المتبادلة بين هذه العوامل وبين العامل البشري . لذلك فان عملية التخطيط عملية معقدة . فهي تتم على مراحل عديدة وتسبقها خطوات تنظيمية كثيرة قبل الوصول في النهاية الى خطة قومية محكمة متوازنة الجوانب. ومما يزيد هذه العملية تعقيداً ، حاجتها الى المتابعة المستمرة ، إذ ان المجتمع البشري متطور بطبيعته وتتزايد حاجاته باطراد بدون الوقوف عند حد معين ، وان كانت سرعة هذا التزايد تتفاوت تبعاً لظروف البيئة التي يعيش فيها المجتمع ، ومركزه الحضاري ، ودرجة مرونة موارده ، وغبر ذلك من العوامل التي تحدد استعداده للتطور والارتقاء . وفضلاً عن ذلك ، فان هذه السرعة تتوقف بصفة خاصة على كفاءة الاساليب والوسائل المتبعة في التخطيط . وهذه الوسائل ، وان اتفقت في الاهداف النهائية ، الا انها لا بد ان تختلف باختلاف ظروف المجتمع ومقومات تركيبه في نطاق وضعه الجغرافي . 

اما النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية كمقومات لتركيب المجتمع في نطاق الوضع الجغرافي ، فتعتبر بمثابة الناتج النهائي لتفاعل عوامل كثيرة اخرى ، ومحصلة القوى التي تتجاذب هذه العوامل ، وهي تتخذ اتجاهات تختلف باختلاف المجتمعات ، وان اتفقت في بعض الاحيان في وجهتها العامة . 

التخطيط والعامل الجغرافي  

للعامل الجغرافي ، بمعناه العام ، أثر كبير في عملية التخطيط للتنمية الاقتصادية الاجتماعية . فالمناطق الجغرافية المختلفة تتميز بصفات خاصة تفرض على المجتمعات المقيمة فيها التزام سياسات اقتصادية معينة تتدخل في رسمها قوى الطبيعة وعناصرها . فقد ظل سكان الجمهورية العربية المتحدة ، مثلاً ، فترة طويلة يعيشون على الزراعة وحدها ، ويهيئون اساليب معيشتهم وفقاً لنظام رتيب لا يختلف كثيراً من عام الى آخر ، يحدده نهر النيل وموسمي فياضانه وإنخفاضه . ومن المعروف ان امكانيات التنمية الزراعية محدودة اذا ما قورنت بالتنمية الصناعية . فالانتاج الزراعي أشد خضوعاً لقانون الغلة المتناقصة من الانتاج الصناعي ، نظراً لصعوبة التحكم في عنصر الطبيعة الممثل بالارض القابلة للزراعة ، بعكس الحال في الانتاج الصناعي الذي يستجيب للغير في نسب العناصر المختلفة للانتاج ، الامر الذي يساعد على اتساع امكانيات التنمية الصناعية بدرجة اكبر من التنمية الزراعية . ومما يعوق التنمية السريعة في الزراعة ايضاً صعوبة الاستفادة من تطبيق النظم الاقتصادية الحديثة في الانتاج ، لما يقتضيه ذلك من تغييرات جوهرية في الهيكل الانتاجي ذاته . فضآلة المواد الاعظم من الوحدات الانتاجية في الزراعة ، أي الحيازات الزراعية ، يحول دون استخدام الآلات على النطاق الاقتصادي الذي يساعد على تقليل النفقات وبالتالي زيادة الانتاجية ، فضلاً عن صعوبة تنسيق العوامل الاخرى  للانتاج في مثل هذه الوحدات . ولعل هذا ما يبرز أهمية تطبيق النظام التعاوني في الميدان الزراعي بصفة خاصة ، ويدعو الى الاستفادة من المزايا العديدة للمباديء التعاونية في الانتاج وفي تسويق المنتجات وتصريفها . وهو ما اتجهت اليه الدولة فعلاً . 

يختلف عنصر العمل ايضاً في الانتاج الزراعي عنه في الانتاج الصناعي إختلافاً بيناً . فنصيب المشتغل من الدخل الزراعي ضئيل ، مما يؤدي الى تبرم القوة العاملة في الزراعة بالعمل في هذا الميدان وتطلعهم الى ميدان الانتاج الصناعي لتحسين حالهم ، ومن جهة اخرى فان زيادة استخدام القوى الميكانيكية في الزراعة تؤدي الى الاستغناء تدريجياً عن عدد من هؤلاء المشتغلين ، على الأقل في المدى الطويل . ومع ذلك ، فان قلة حاجة العمل الزراعي ، عادة ، الى خبرة خاصة تؤدي الى تراكم هذا الفائض من العمال عن حاجة الانتاج الزراعي لتمسكهم به ، ما لم تتوفر الخبرات الخاصة والامكانات في التنمية الصناعية وفقاً لتخطيط يرسى على أسس سليمة محكمة. فالتصنيع ، وان كان بعمل على تقصير الطريق الى تحقيق اهداف التنمية ورفع مستوى المعيشة  الا انه يقتضي توفير احتياجات خاصة أهمها تقدم العلوم والفنون وتطوير وسائل النقل والكشف والابتكار . واذا كان التخطيط للتنمية الزراعية لازماً ، فهو للتنمية الصناعية ألزم ، نظراً لضرورة تتبع المراحل المختلفة للعملية الانتاجية منذ بداية استخدام الخامات الطبيعية حتى الحصول على المنتجات . فمن المعروف ان الصناعات المختلفة يقوم بعضها على البعض الآخر ويعتمد عليه ، بمعنى ان منتجات صناعة معينة تدخل في صناعة اخرى كمادة اولية تجري عليها مراحل من التصنيع أكثر تقدماً وتخرج منها لتدخل في مراحل صناعية اخرى ، وهكذا دواليك . وفي كل مرة يتحقق ناتج صناعي جديد . فالقطن الزهر ، مثلاً ، يعتبرالمادة الخام الاساسية في صناعة الحليج . ومنتجات هذه الصناعة هي القطن الشعر والبذرة ، وكل من هذين بدوره يعتبر خامة لصناعة معينة : الاول لصناعة النسيج ، والثانية لصناعة الزيوت ، حيث تتحول الى زيت يدخل في صناعة الصابون وسواه كمادة خام . ويمكن تصور مراحل اخرى كثيرة ، تمثل كل مرحلة منها موارد دخل لعناصر الانتاج المختلفة في كل صناعة . وهكذا تأتي الزيادة الحقيقية في الناتج الصناعي ، وبالتالي في الدخل الاهلي الصناعي ، من زيادة مراحل التصنيع ووصولاً الى القمة في انتاج السلع الاستهلاكية ، وهي دائماً نقطة نسبية تتعرض الى الارتفاع كلما كشفت المخترعات عن خطأ إعتقاد الانسان بلوغه بالمادة الخام نهاية المرحلة الصناعية والتجهيز للاستخدام النهائي . 

للمعامل الجغرافي ، بالمعنى المحلي ، أهمية كبيرة ايضاً عند وضع خطط التنمية . فدراسة الفوارق بين المناطق الجغرافية المختلفة في دولة ما تضيء السبيل الى التنبوء بالمستقبل ، إذ كثيراً ما نجد داخل حدود الدولة الواحدة بعض مناطق اكثر تقدماً من المناطق الاخرى . وعندئذ يكون من المفيد ابراز هذا التقدم او أخذه كهدف لباقي مناطق الدولة . وهذا أفضل وأكثر تقبلاً من أخذ القدوة من دولة اخرى اجنبية . وقد لوحظ ان الدول في تطورها تسبق بعض اجزائها في التقدم والازدهار البعض الآخر ، إذ يسبق الحضر في ذلك الريف ، كما ان المناطق التي فيها موانيء اومطارات او مصانع تكون لديها فرصة اكبر من غيرها . ويحدث غالباً ان يصبح المستوى الاقتصادي والاجتماعي الذي تصل اليه هذه المناطق المتقدمة هو المتوسط العام للدولة كلها ، بعد مدة قد تطول او تقصر ، حسب سرعة تطورها . ولعل من الجدير ذكره في هذا المجال ايضاً ، ان الخلافات الاقليمية بين المناطق الجغرافية في الدولة الواحدة ، تؤثر في انتشار صناعات معينة ونجاحها في بعض المناطق دون البعض الآخر ، تبعاً لتوفر صفات مناخية ملائمة او لوفرة الانتاج من المادة الخام او لغير ذلك من الاسباب . ويساعد توطن الصناعات في اكثر المناطق ملاءمة لانتاجها على الاسراع في تحقيق أهداف التنمية الصناعية ، نتيجة ارتفاع الكفاية الانتاجية وانخفاض التكلفة وزيادة الانتاج ، فضلاً عن خلق المهارات وصقل الخبرات والمواهب في القوة البشرية داخل المنطقة ، مما يساعد غلى اطراد التحسن والنجاح في تحقيق التصنيع . ولذلك ، فان التخطيط التكنولوجي والبشري والميكانيكي يجب ان يصحبه ، بل يسبقه ، تخطيط جغرافي يأخذ في الاعتبار التوزيع الامثل لانواع الانتاج وميادينه في شتى انحاء البلاد . ويقتضي هذا ، بطبيعة الحال ، دراسة النواحي المختلفة في كل منطقة جغرافية وفي كل بيئة من البيئات المحلية ودراسة مفصلة أساسها الألمام العميق بخواص هذه البيئة والظروف التي تحيط بها وتقاليد السكان وعاداتهم وامكانياتهم ، بحيث تكون اشد اتصالاً وأكثرقابلية للتطبيق فيها .  

يتضح مما تقدم ان وسائل التنمية الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن ان تتفق اتفاقاً تاماً في كافة المجتمعات ، بمعنى ان ما يصلح منها للتطبيق في احدى الدول او في احدى المناطق ، قد يتعذر تطبيقه بالمستوى نفسه من النجاح في غيرها ، نظراً لاختلاف طبيعة المشروعات التي تتضمنها الخطة ، ونظراً لتفاوت الامكانات والموارد الطبيعية والبشرية من مجتمع الى أخر . 

يتكون برنامج التنمية ، عادة ، من عدد من المشاريع الانتاجية التي ترتبط ببعضها البعض ، ويتوقف نحاح كل منها على الآخر ، فيؤثر الواحد في الآخر ويتأثر به بحيث تتساعد كلها للوصول في النهاية الى الغاية المرجوة، الا وهي زيادة انتاجية الموارد عن طريق حسن الاستغلال وتنسيقه . وتتحقق هذه الغاية بالدراسة الواسعة والواعية للانتاج وعناصره والموارد والثروات الطبيعية ، وتتبع الخطوات والمراحل التي تسبق الغاية الاخيرة للانتاج المتمثلة بالاستهلاك او استخدام السلع والخدمات في اشباع حاجات الافراد بالقدر الذي يحقق الحياة الكريمة للسكان جميعاً . 

التخطيط والعامل السكاني  

للعامل السكاني أهمية كبيرة في عملية التخطيط والتنمية الاقتصادية والاجتماعية . فمن المعروف ان عدد السكان يتزايد من سنة الى اخرى وفقاً لمعدلات مرتفعة في الدول الحديثة النهضة بصفة خاصة . فلذلك ، ليس من المغالاة في شيء ان يؤكد القائمون بتخطيط لمستقبل افضل ، أهمية هذا العامل في الدول المزدحمة بالسكان حيث يفوق النمو السكاني معدل الزيادة في الانتاج . فمثل هذه الدول لا تكاد تنتج عادة سوى الضروريات ، بل قد تقصر امكانياتها عن هذا الانتاج ، فتلجأ الى استيرادها والاعتماد على العالم الخارجي ، وهو شأن الدول المتخلفة التي لا تتمكن من سد احتياجاتها بنفسها مما قد يوردها موارد العجز ويؤدي بها الى عواقب غير مرغوبة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية . وتتحقق المرتبة التالية في سلم الانتاج بوجود فائض منه يسمح بانتاج المربحات او الميسرات . فاذا اتيح لهذا الفائض ان يزيد الى الحد الذي يساعد على انتاج الكماليات ، انتقل المجتمع الى المرتية العليا من مراتب الانتاج ، وهي مع ذلك مرحلة واسعة المدى بصعب تحديد نهايتها ، لما تتصف به من النسبية ، إذ ان حاجات الفرد وقدراته لا يمكن ان تنتهي ما دامت العلوم والفنون في تقدم مطرد ، وما دامت نواحي المعرفة والوان المتع والرغائب آخذة في التزايد والتنوع بارتقاء الجنس البشري وتقدمه وتطوره .  

يتفاوت تأثير نمو السكان على رخاء الشعوب ورفاهيتها المادية من دولة الى اخرى ، نظراً لتوقفه على كثير من الظروف التي ينبغي دراستها كلها لتفهم المشكلة السكانية في الدولة . فالنمو السريع للسكان في بعض الدول ، مثلاً ، يزيد من المشاكل الناجمة عن قلة الموارد الطبيعية ، ويدعو الى اتخاذ سياسة خاصة في التنمية الاقتصادية ، كالتصنيع . وهذا بدوره يقتضي بطبيعة الحال توفير رؤوس الاموال اللازمة وتوفير العمال المهرة. ويرتبط نجاح الخطة في هذه الحالة بتنمية العامل البشري وزيادة نسبة السكان المنتجين الى المعولين . وعلى الرغم من ان كل دولة لها ظروفها الخاصة التي يجب دراستها دراسة كاملة قبل محاولة وضع اي سياسة سكانية تهدف الى رفع مستوى المعيشة فيها ، فان الدول الحديثة النهضة ، بوجه عام ، تواجه ثلاث مشاكل سكانبة رئيسة هي :  

1 – ارتفاع معدل المواليد فيها مما يؤدي الى وجود عبء كبير من الاطفال المعولين على البالغين ، ويعوق الادخار وتكوين رؤوس الاموال ، ويزيد صعوبات التنمية . 

2 – تناقص معدلات الوفيات مع بقاء معدل المواليد مرتفعاً ، مما يؤدي الى زيادة كبيرة وسريعة في السكان ، التي بدورها تعجل في انكماش رؤوس الاموال وتضاعف صعوبات رفع مستوى المعيشة .  

3 – ارتفاع كثافة السكان الزراعيين بالنسبة للمساحات المزروعة . 

للعامل البشري أهميته البالغة بالنسبة للتخطيط . فعملية التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تتم على مراحل عديدة ، تتوقف كل منها على سابقتها وترتبط بها ارتباطاً وثيقاً وتتأثر كثيراً بالاسلوب الذي يسير عليه العمل فيها . أولى هذه المراحل وأولاها بالعناية هي مرحلة التصميم . فهي من العوامل الاساسية في سلامة نتائج الخطة بشكلها العام . وأهم ما يلزم مراعاته في هذه المرحلة ، تنسيق المشروعات واحكام التقديرات اللازمة لكل منها من النواحي المالية والبشرية والفنية والآلية . ونظراً لأهمية هذه المرحلة ، فانها قد تكلف كثيراً من النفقات بسبب الحاجة ، في كثير من الاحيان ، الى اجراء بحوث ودراسات مستفيضة على المجتمع في شتى قطاعاته . وقد تكون هذه الدراسات مكتبية اوميدانية ، ما لم تتوفر المعلومات الكافية مسبقاً . 

تأتي بعد ذلك مرحلة تنفيذ المشروعات طبقاً للتصميم المعد . ولهذه المرحلة ، بطبيعة الحال ، احتياجات خاصة، قوامها العامل البشري ، من ايد عاملة مدربة تدريباً مهنياً كافياً ، وفنيين من مختلف التخصصات كي يضطلعوا بمتابعة التنفيذ والاشراف على حسن سيره وفقاً للخطة المرسومة بكل تفاصيلها .  

المرحلة الثالثة في التخطيط هي مرحلة التقويم . وهي بدورها مرحلة مهمة ، إذ يستفاد منها في وضع الخطة المقبلة ، في الفترات الزمنية المحددة . ويلزم لتقويم مشروعات الخطة احتياجات بشرية ايضاً من مستوى علمي وفني خاص . 

من هنا تتضح أهمية العامل البشري في التخطيط . فعلى هذه القوى البشرية ، عدداً ونوعاً ، يقوم استغلال الموارد . وتزداد اهمية هذا العامل على مر السنين ، تبعاً لتطور وعي الدول والشعوب ورغبتها في رفع مستوى المعيشة . لذلك ، فان تخطيط القوة البشرية يحظى بجزء كبير ومهم من اهتمام المخططين للوصول بالطاقة الانتاجية للفرد الى أقصى حد مستطاع ، مع حسن توزيع هذه الموارد البشرية وطاقاتها ، مما يحقق الحصول على اعلى قدر ممكن من السلع والخدمات الاقتصادية . وهذا القدر لا يتسنى له ان يتحقق بغير تخطيط سوق العمل وتنظيمه وتهيئته لاستقبال الافواج البشرية المتدفقة ، مع مراعاة تحقيق التوازن بين العرض والطلب بما يتمشى ، في الوقت نفسه ، مع احتياجات الانتاج في حقول الصناعة والزراعة والخدمات على خلافها ، من اجتماعية وتعليمية وصحية وعلاجية وعمرانية . ومن اهم ما يجب الالتفات اليه في هذا الصدد ، توجيه القوة البشرية المعطلة نحو ميادين جديدة للانتاج ، وتهيئة هذه القوة واعدادها للنهوض بالانتاج في كل ميادينه.  

عند وضع الخطط الطويلة الامد ، يجب ان يؤخذ في الحسبان صفات السكان وتركيب المجتمع من حيث السن والنوع ومعدل الزيادة السنوية في كل فئة حتى يمكن تقدير احتياجات الشعب في كل هذه الفئات ، من الناحية الاستهلاكية للسلع والخدمات ، والتنبوء بالطاقات الانتاجية التي يمكن استغلالها في النشاط الاقتصادي وكيفية توزيع هذه الطاقة في القطاعات المختلفة . وعلى ضوء هذه الدراسة يصمم الاطار العام للخطة على اساس المشروعات الفردية ، بعد تجميعها وتصنيفها وتقدير احتياجاتها بالتفصيل .  

يحدد التركيب العمري والنوعي للسكان نسبة المعولين في المجتمع ويكشف عن الحجم المتوقع للقوة العاملة . ولا شك ان نسب الاطفال والاحداث البالغين القادرين على العمل ، والكبار الذين اقعدتهم السن عن التكسب عن طريق العمل المثمر ، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالظروف الاقتصادية والهيكل الاجتماعي العام للدولة . ومن جهة اخرى ، فان للسكان من فئات السن المختلفة احتياجات متفاوتة بالنسبة لاستهلاك السلع والخدمات . لذلك ، فان التغيير في التركيب العمري للمجتمع يصحبه عادة تغير مناظر في الطلب على السلع والخدمات . فزيادة نسبة الصغار في مجتمع ما ، تقابله زيادة في حجم الخدمات الاساسية التي تلتزم الدولة بتوفيرها بحكم رعايتها للشعب ، مثل خدمات التعليم والخدمات الصحية وسواها من خدمات . والمشاهد في المجتمعات الحديثة النهضة ان نسبة فئة صغار السن تشمل نسبة كبيرة من السكان يقابلها انخفاض نسبي في فئة كبار السن . ويترتب على مثل هذا النمط السكاني ارتفاع عبء الاعالة في المجتمع على المتكسبين من سكانه . 

يتبين مما تقدم انه لا بد ، عند اتباع سياسة التخطيط ، من اجراء الكثير من الدراسات لضمان توفير البيانات والمعلومات التي يمكن رسم هذه السياسة في ضوئها . وتعتبر هذه الدراسات اساسية في التعرف على الاحتياجات وقياس الامكانيات والموارد ، معتمدة في هذا السبيل الاسلوب الاحصائي العلمي الدقيق . فالاحصاء هو الدراسة الشاملة والالمام الكامل بخصائص المجتمعات الكبيرة وصفاتها ، سواء كانت هذه المجتمعات مكونة من كائنات حية بشرية او حيوانية او نباتية او كانت غير ذلك ، ما دامت تتكون من وحدات او مفردات يمكن حصرها باسلوب او بآخر . فهنالك ، مثلاً ، احصاء السكان ، أي دراسة خصائص الافراد الذين يتكون منهم المجتمع السكاني ، واحصاء الانتاج الزراعي الذي يهدف الى الالمام بكل ما يتعلق بهذا الانتاج ، من حيث المساحات المزروعة من الارض وكمية الناتج من المحاصيل المختلفة ومقدار النفقات المطلوبة للحصول على هذا الانتاج وغير ذلك .  

علاقة الاحصاء بالتخطيط  

 للاحصاء علاقة وثيقة بالتخطيط . فالتخطيط ، كما سبق ان ذكرنا ، اسلوب عملي يقوم على الدراسة الشاملة لكل امكانيات الدولة ، وعلى تقصي احتياجات الشعب ، ويسمح بالتنبوء بنتائج تنفيذ الخطة بدرجة كبيرة من الثقة . واساس التخطيط السليم للمستقبل هو دراسة الحاضر وجمع المعلومات عنه بالطرق العلمية ، فضلاً عن الالمام بالتطور التاريخي . والاحصاء بأساليبه المختلفة لازم لهذه الدراسة نظراً لما يقتضيه من جمع للبيانات المتعلقة بالظواهر الاقتصادية والاجتماعية والحيوية وعرضها بطريقة واضحة ، ثم تحليلها تحليلاً علمياً يساعد على استقراء النتائج واستنباط المقاييس الصحيحة للظواهر المدروسة . ونظراً لهذه العلاقة الوثيقة ، فقد تزايد اهتمام الرأي العام بالاحصاء واساليبه بعد ان اصبح يقوم بدور اساس في نشاط الدولة العام وسياستها في عهدها الجديد ، تلك السياسة التي تهدف الى الاصلاح الشامل لكافة المرافق عن طريق وضع خطط قومية وتصميم برامج محددة للآجيال الطويلة والقصيرة ، حتى يسير المجتمع نحو حياة أفضل . 

مراحل التخطيط في الجمهورية العربية المتحدة  

مرت عملية التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في الجمهورية العربية المتحدة بمراحل متعددة منذ ان بدأت الدولة توجه اليها عناية خاصة في عهد حكومة الثورة . وجاءت اولى الخطوات في هذا السبيل لدى تأسيس المجلس الدائم لتنمية الانتاج القومي في اكتوبر / تشرين الاول سنة 1952 ليضطلع بدراسة الانتاج والمشروعات اللازمة للتنمية في مختلف الميادين ثم انشيء المجلس الدائم للخدمات العامة في اكتوبر / تشرين الاول سنة 1952 ايضاً لينهض بمشروعات الخدمات ويعمل على تنسيق السياسات التنموية والخدماتية  العامة والتوفيق بينها في مختلف البيئات . وظل المجلسان يتابعان المهام الملقاة على عاتقيهما ويعملان على دراسة المجتمع ، كل في اختصاصه ، دراسة مفصلة شاملة وبحث المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والعمل على تحليل عناصرها للوصول الى الحلول الناجعة واقتراح المشاريع التي يساعد تنفيذها في تحقيق بعض اهداف التنمية .  

عندما تبلورت نتائج الاعمال التي قام بها كل من مجلس الانتاج ومجلس الخدمات ، تبينت بصورة قاطعة حاجة الدولة الى رسم سياسة عامة مدروسة تأخذ بالاعتبار كل الاتجاهات التي تسهم في الوصول الى مستوى اقتصادي واجتماعي معين في خلال مدة محددة لاستغلال الموارد المختلفة في كافة القطاعات وتصميم المشاريع الانتاجية ومشروعات الخدمات العامة في آن واحد  داخل إطار موحد لخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية يتم بناءه على اساس الامكانيات المتوافرة وقت اعداده ، والتنبوء بالامكانات المستقبلية في حدود فترة تنفيذ الخطة ، عاماً بعد آخر،  مع مراعاة التنسيق العام بين الموارد وبين الامكانيات ، والاثار المتبادلة بين القطاعات المختلفة.  

هكذا أنشئت لجنة التخطيط القومي . ونص قانون انشائها على " وضع خطة قومية شاملة طويلة الاجل للنهوض الاقتصادي والاجتماعي للدولة ، تعبأ لها كل الجهود القومية العامة والخاصة " . وظلت هذه اللجنة تقوم بالاعمال الموكولة اليها حتى أتمت في سنة 1959 اعداد الخطة الخمسية الاولى للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتضمنت الخطة مضاعفة الدخل القومي في خلال عشر سنوات على اساس تنفيذ عدد من المشاريع الانتاجية تشمل شتى المرافق وتطرق مختلف الميادين مع تحقيق التوازن بين هذه المشاريع ومراعاة توفير فرص العمل لجميع الافراد ، بحيث تقل البطالة ثم تختفي تماماً ، وعلى رفع نصيب الفرد من الدخل القومي ، بحيث يتحسن مستواه الاقتصادي ويصبح اكثر قدرة على مواجهة اعباء الحياة ، والعمل على تحسين توزيع الدخول بين الافراد لتحقيق عدالة التوزيع وتعميم الخدمات الاساسية على الافراد بدون مقابل او بنفقات قليلة فتشبع حاجاتهم الضرورية من تعليم وصحة وغذاء وكساء من دون ارهاقهم مالياً او التقتير عليهم .  

صحب اهتمام الدولة باسلوب التخطيط توجيه عناية خاصة الى الاحصاء واجهزته منذ ان أخذت الدولة بهذا الاسلوب لارساء قواعد التنمية الاقتصادية والاجتماعية على اسس سليمة . وكانت اولى الخطوات في هذا السبيل العمل على رفع مستوى الاجهزة الاحصائية في الدولة لضمان قيامها بواجبها والنهوض باعبائها بدرجة كافية من الدقة وسرعة الانجازبما يتفق ومقتضيات التنمية العامة والعمل ، في الوقت نفسه ، وعلى تحقيق التنسيق اللازم بين هذه الاجهزة وتنظيم خطط العمل فيها وتوحيدها توفيراً للجهود وضماناً لعدم تكرارها ، ولكي تكون مساهمة الخدمات الاحصائية في رسم خطة التنمية وتتبعها بفعالية مثمرة . لذلك ، ولهذا الغرض ، أنشئت في عام 1957 اللجنة المركزية للاحصاء والقيت على عاتقها ، بموجب القرار الجمهوري الخاص بانشائها ، مهمة تقرير الاحصاءات والتعدادات التي تحتاج اليها اجهزة الدولة ، وما يلزم منها لمعاونة لجنة التطيط القومي في رسم الخطة وتتبعها وتقويمها ، ولبيان التطورات الاجتماعية والاقتصادية وقياسها والتوجيه الفني لكل الاجهزة الاحصائية في الحكومة والهيئات العامة . كما اضطلعت هذه اللجنة ايضاَ بتعيين الاجهزة الاحصائية التي تقوم بالعمليات الاحصائية المختلفة ، بما يحقق التنسيق الكامل بين هذه العمليات وبين الاجهزة الاحصائية ، والعمل على نشر الوعي الاحصائي في البلاد والنهوض بمستوى الاحصاء فيها . 

بدأت الجهود التي بذلتها الدولة تؤتي ثمارها في تطوير الاحصاءات العربية لدرجة ملحوظة وسد الكثير من الثغرات وتوفير بيانات احصائية اساسية عن اوجه النشاط الاقتصادي والاجتماعي والعمراني في البلاد ومواردها الطبيعية والبشرية . وقد اجريت في السنوات الاخيرة بحوث ودراسات احصائية على نطاق قومي لخدمة المرافق المختلفة وتحقيق الاهداف التخطيطية . ومنها بحوث القوى العاملة ودراسة ميزانية الاسرة ونفقات المعيشة والبحوث الاحصائية عن السكان وعن درجة انتشار الامراض وغير ذلك ، مع تحسين مستوى الكثير من العمليات الاحصائية المهمة الاحرى ، مثل احصاءات الانتاج الصناعي واحصاءات الاجور والتوظيف وساعات العمل والاحصاءات الصحية والمواليد وتوحيد الكثير من التصنيفات المستخدمة في الاحصاء . ومن مظاهر التقدم الملحوظ ايضاً في الاحصاء ما أعده الجسم الاحصائي وقام بتنفيذه من برامج واسعة النطاق لتدريب موظفي الاجهزة الاحصائية على العمليات الاحصائية ، من جمع البيانات وتجهيزها وتكوين قوة احتياطية من بينهم للاستعانة بها في التعدادات والعمليات الاحصائية الكبرى ، وهو أمر له أهميته في سلامة هذه العمليات والحصول على بيانات دقيقة وفي سرعة انجازها .

من المنتظر ان يترتب على تنفيذ مشروعات خطة التنمية من صناعية وزراعية واجتماعية وعمرانية تغيير ملحوظ في المجتمع وظروف معيشة الناس ، مما يلزم معه متابعة البحث والدراسة على اساس احصائي لقياس هذا التغيير وتقديرأثره العام في صفوف الشعب في مختلف ظروف البيئة حتى يمكن تقويم هذه المشروعات والمضي في رسم الخطط المتتابعة في الفترات القصيرة والاماد الطويلة على ضوء النتائج . ومع نجاح برامج التنمية ، يزداد النشاط في شتى الميادين ويصبح من الواجب تركيب المقاييس الاحصائية لتصوير هذه الظواهر تصويراً رقمياً صحيحاً يشبع رغبات المخططين وواضعي برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية .  

وهكذا ، تتبين أهمية الاحصاء للمخططين والمنفذين كأداة أساسية يهتدي بها المخطط في اختيار وتصميم الخطة المثلى التي تؤدي في اسرع وقت واقل تضحية الى تحقيق الاهداف المنشودة من التخطيط ، الا وهي رفع مستوى حياة الشعب وتحقيق الرخاء والرفاهية الحقيقية للمواطنين .