التنمية الاقتصادية في السودان

 

واسباب خروج البلاد من منطقة النقد الاسترلينية 

يحي المصري  

نشر المقال في ايلول / سبتمبر 1962 ، العدد الثالث والعشرون ، الرائد العربي  

في الثالث من فبراير / شباط 1962 قرر مجلس الوزراء السوداني الخروج من منطقة النقد الاسترلينية التي كان السودان منتمياً اليها حتى هذا التاريخ ، واعتبار السودان منطقة نقدية قائمة بذاتها . ويعد هذا القرار من القرارات التاريخية المهمة التي يتوجب التوقف عندها قليلاً ، للبحث في الاسباب والدوافع التي أدت الى صدور القرار . ومن اجل ان نبين حقيقة هذه الدوافع ، يجب ان نلقي ، اولاً  ، نطرة سريعة على اقتصاديات البلاد والسياسة النقدية التي سارت عليها خلال السنوات الاخيرة ، خاصة منذ سنة 1957  أي بعد حصول السودان على الاستقلال . 

يقطن السودان حالياً حوالى عشرة ملايين نسمة . وتقدر مساحة اراضيه بنحو مليون ميل مربع . فاذا ما قسنا عدد السكان على المساحة نجد ان نسبة الساكنين في الميل المربع الواحد نحو عشرة اشخاص . اما المساحة الصالحة للزراعة فتقدر بمئة مليون من الافدنة ، يزرع منها في الوقت الحاضر حوالى ثلاثة ملايين من الافدنة. كما ان هناك ثمانين مليون فدان تصلح للرعي اكثر منها للزراعة . وعلى الرغم من ضآلة المساحة المزروعة بالنسبة للمساحة القابلة للزراعة ، فان السودان يعتمد اعتماداً كبيراً في اقتصاده الوطني على الزراعة ، التي بدورها تعتمد على المطر.  كما تعتمد الزراعة ايضاً على الري بشكل اوسع من ذي قبل بعد ان تبنت الحكومة مشاريع عديدة للري . ويعتبر القطن أهم محاصيل السودان . وهو المحصول النقدي الاول الذي يسهم بجزء كبير في الدخل الوطني السوداني . وقد بلغت صادرات السودان من القطن سنة 1959 ما يقرب من اربعين مليون جنيه سوداني ، أي حوالى 60 بالمئة من مجموع صادرات البلاد . كذلك يعتمد السودان في اقتصاده على الثروة الحيوانية . ويساعده على ذلك انتشار الحشائش في مناطق شاسعة ، مما يجعل الرعي في السودان من الحرف التي تسهم بنصيب كبير في الدخل الوطني . اما الصناعة ، فما زالت متأخرة ، إذ لا توجد صناعة بمعناها الحقيقي في البلاد ، باستثناء بعض الصناعات الصغيرة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية ، مثل صناعة السلع الاستهلاكية التي كان يستوردها السودان من الخارج .  

برامج التنمية الاقتصادية في السودان  

يعمل السودان حالياً على تطوير اقتصاده الوطني وزيادة دخله من الزراعة او الصناعة . وقد وضع لهذا الغرض مجموعة برامج طموحة . وكانت البلاد قد مرت منذ الحرب العالمية الثانية ببرامج اقتصادية عديدة ومختلفة ، بدأت بالبرنامج الخمسي 1946 – 1951 وكانت اعتماداته المالية ما يقرب من 14.5 مليون جنيه، تلاه برنامج خمسي آخر 1951 – 1956 وصلت اعتماداته الى حوالى 45 مليون جنيه سوداني . ووضعت بعد ذلك برامج سنوية عديدة اختلفت جملة اعتماداتها المالية بين سنة واخرى . وقد ساعد الانتعاش الذي طرأ خلال الاثني عشر شهراً الاخيرة على اقتصاد السودان في اعداد برنامج السنوات السبع القادمة . وقدر لهذا البرنامج مبلغ 240 مليون جنيه سوداني ، منها 75مليون جنيه من القطاع الحكومي و65 مليوناً من القطاع الأهلي . اما الاجهزة التي تشرف على هذه البرامج ، تخطيطاً وتنفيذاً ، فتضم جهاز التخطيط الاقتصادي الذي أنشيء في العام الماضي ، وهويتكون من " المجلس الاقتصادي " الذي مهمته رسم السياسة الاقتصادية للبلاد واقرار خطة الانشاء والتعمير، ومن " اللجنة الوزارية للانشاء والتعمير " ومهمتها دراسة المقترحات قبل عرضها على المجلس الاقتصادي . وهناك ايضاً "اللجنة الفنية للتخطيط " ويمثل فيها عدد من رؤساء المصالح التي تضطلع باعداد وتنفيذ مشاريع التعمير . 

التنمية الزراعية  

تم تخصيص ما يقرب من خمسين مليون جنيه سوداني لمشاريع التنمية الزراعية في السودان في برنامج السنوات السبع الذي يهدف الى تنمية اقتصاديات السودان وتحريره من تبعيته الاقتصادية للخارج في استيراد الكثير من السلع . ومن أهم هذه المشاريع الزراعية مشروعا المناقل وام كنانة . ويقع المشروع الاول جنوب غرب مشروع الجزيرة الحالي ، وينتظر بعد اتمامه ان تزيد المساحة المزروعة بحوالى ثمانمئة الف فدان من ارض الجزيرة في السهل الذي يقع بين النيل الازرق والنيل الابيض . أما مشروع ام كنانة ، فيمتد في سهل الجزيرة الى الجنوب من مشروعي الجزيرة والمناقل لري مليون ومائتي الف فدان بواسطة مشروع خزان الروصيرص. كما ان هناك مشاريع اخرى يجري تنفيذها بنشاط ، كمشاريع طلمبات النيل الازرق ومشاريع احواض شندى واحواض دنقله وسواها من المشاريع التي هي قيد البحث . ولعل كل هذه المشاريع ستساعد السودان على الاستفادة بنصيب وافر من الحياة الافضل بعد الانتهاء من مشروع السد العالي في الجمهورية العربية المتحدة حيث تبلغ حصة السودان حوالى 8 مليارات متر مكعب من المياه سنوياً . 

التنمية الصناعية والثروة الحيوانية  

بدأت الحكومة السودانية تهتم بالصناعة ، فقامت باصدار قوانين تنظيمية عديدة تكفل لهذا القطاع الحيوي شتى انواع الحمايات . فاتجهت الى تقديم الاعانات والاعفاءات الضريبية ، كما قامت باعفاء بعض سلع الانتاج كالآلات والمعدات من ضريبة الاستيراد . وسوف يتيح برنامج السنوات الذي بدأ في يوليو / تموز الماضي اقامة مصانع للسكر والكرتون والغزل والنسج والجوت والزجاج الى آخر هذه الصناعات التي ستؤدي الى تقليص واردات البلاد من السلع الاستهلاكية وتوفر للخزينة جزءاً كبيراً من العملات الاجنبية التي يمكن تخصيصها لاستيراد السلع الانتاجية . كما تهتم الحكومة السودانية ايضاً بالثروة الحيوانية ، واتجهت مؤخراً الى انشاء المصانع اللازمة لاستغلال هذه الثروة ، فبدأت باقامة مصنع لدباغة الجلود طاقته الانتاجية 6 الآف كيلوغرام من الجلود المدبوغة ، وكذلك مصنع لصناعة الاحذية والاطارات والانابيب الداخلية للدراجات تقدر طاقته الانتاجية السنوية بحوالى 600 الف زوج احذية و 60 الفاً من الاطارات ومئة الف من الانابيب الداخلية للدراجات .  

يمكننا القول ان السودان يقوم الآن بمحاولة استغلال ما امكن من موارده وطاقاته الانتاجية ، وانه سوف يحقق ، في حال نجاح هذه البرامج ، مستوى أعلى للمعيشة ، نظراً لضخامة موارده المتاحة بالنسبة لعدد سكانه المتزايد. 

مصادر التمويل  

بعد هذا الاستعراض للمشاريع الجديدة التي بدأ السودان في تنفيذها وفقاً لخطة التنمية ، يمكن التساؤل عن مصادر التمويل . لقد اتجهت الحكومة السودانية في اتجاهين لايجاد هذا التمويل الضروري :  

الاتجاه الاول ، الاستعانة بالاستثمارات والمعونات الخارجية ، بحيث تقوم الحكومة بتشجيع استثمار رأس المال الاجنبي بالسماح للمستثمرين الاجانب بتوظيف اموالهم في السودان وتحويل ما يوازي فائدة رأس المال من دون اي شروط ، كما يحق لهم استعادة روس اموالهم وتحويلها الى بلدانهم الاصلية من دون اي قيود . كما قامت الحكومة بعقد قروض عديدة مع بعض الدول الاجنبية والهيئات الدولية بغرض تمويل مشاريع التنمية ، بلغت ما يقرب من 44.2 مليون جنيه سوداني ، منها 21.1 مليون من البنك الدولي للانشاء والتعمير وصندوق النقد الدولي ، واربعة ملايين جنيه من بريطانيا و 1.9 مليون من المانيا و 5.4 مليون من يوغوسلافيا و 11.8 مليون جنيه من الولايات المتحدة الاميركية . 

الاتجاه الثاني ، تشجيع الاستثمار المحلي بترغيب الجمهور في استثمار رؤوس اموالهم  بشتى انواع الترغيب ، بما في ذلك الاستثمار عن طريق الحكومة السودانية نفسها ، حبث تقوم هذه الحكومة بوضع الميزانيات الانمائية المختلفة ، سواء في الزراعة او في الصناعة . وقد بلغت اعتمادات ميزانية الانشاء والتعمير لعام 1961 – 1962 ، أي العام الحالي ، 38 مليون جنيه سوداني وزعت على الشكل التالي :

                                                            المبلغ                النسبة المئوية

مشاريع الانتاج في القطاعات السلعية            23.6                     62.3

الخدمات الاجتماعية                                 7.8                       20.4

المواصلات                                               2.3                       6.0

المرافق العامة                                         1.9                       5.0

الابحاث                                                  1.2                       3.2

الادارة                                                    1.2                       3.1

المجموع                                                 38.00                   100 %

وهذه الميزانية تزيد عن ميزانية العام السابق التي كانت قد بلغت 25.4 مليون جنيه سوداني . وقد ادرج في الميزانية الحالية العديد من المشاريع الانتاجية ، كمشروع امتداد المناقل ومشروع الروصيرص ومشروع  خشم القرية القرية وكهربة خزان سقارة ومصنع السكر بالجنيد ومصنع دبغ الجلود الحكومي ومصنع الورق الحكومي وغيرها من المشاريع. 

تطور النظام النقدي  

كان السودان يعتمد في نظامه النقدي على كل من النقود المصرية والانكليزية . ويعود هذا الازدواج في الوحدة النقدية الى طبيعة الحكم الثنائي الذي كان يسود السودان قبل الاستقلال . وكان الجنيه المصري العملة الغالبة في التداول . وفي سنة 1956 قررت حكومة السودان انشاء نظام نقدي خاص بها ، فكونت لجنة لهذا الغرض سميت " لجنة العملة " لاحلال الجنيه السوداني محل الجنيه المصري والاسترليني . وتم فعلاً هذا الاحلال ، بالنسبة للبنكنوت ،  في مدى ستة اشهر بين 8 ايريل / نيسان و 8 اكتوبر / تشرين الاول سنة 1957 .اما بالنسبة للعملة المعدنية ، فقد استغرق استبدالها فترة اطول نظراً لانتشار استعمالها في المناطق النائية . وبذلك صار للسودان عملة وطنية خاصة هي الجنيه السوداني الذي حددت قيمته ب 2.55187 غراماً من الذهب الخالص . وتبعاً لذلك فهو يساوي 2.87156 دولاراً اميركياً ، كما يساوي جنيهاً مصرياً واحداً . وقد فرض القانون الاحتفاظ بتغطية كاملة مقابل النقد المصدر وحدد عناصر التغطية بالعملات الاجنبية المتداولة في السودان ، وبالعملات الاخرى التي تحددها لجنة العملة . 

في 31 مايو / ايار 1958 تم استبدال النقود المعدنية المصرية والانكليزية بنقود سودانية في كل انحاء البلاد . وبلغت القيمة الكلية للنقود الاجنبية التي تم استبدالها لهذا الغرض 2198170 من الجنيهات السودانية . واذا أضفنا اليها قيمة العملة الورقية المصرية المستبدلة وقدرها 23757454 من الجنيهات السودانية ، والعملة المعدنية المستبدلة في اول العام الماضي وقدرها 821530 من الجنيهات السودانية ، أصبح مجموع قيمة العملة الاجنبية الورقية والمعدنية التي سحبت من التداول في السودان 26777154 من الجنيهات السودانية .

في عام 1959 صدر قانون قضى باحلال بنك مركزي سوداني محل لجنة العملة في اصدارالعملة والاشراف على النقد والائتمان والقيام بالاعمال الاخرى التي يقوم بها عادة البنك المركزي . وقد باشر البنك المركزي السوداني أعماله في سنة 1960 وانتقل اليه حصراً حق اصدار النقد ، كما انتقلت اليه ودائع حسابات الحكومة المركزية التي كانت لدى البنك الاهلي المصري في السودان . وأوجب القانون على البنك المركزي ان يحتفظ بتغطية كاملة مقابل النقد وغيره من مطلوباته تحت الطلب ، شرط الا تقل قيمة الذهب والموجودات بالعملات الاجنبية في التغطية عن 25 بالمئة من المجموع . وقد بلغت نسبة الذهب والموجودات الاجنبية في التغطية في نهاية مارس / اذار 1960 حوالى 76.9 بالمئة . 

الرقابة على النقد والمعاملات السودانية الخارجية  

لما كانت ناحية الرقابة على النقد الاجنبي من العوامل المهمة التي يتوجب ذكرها عند البحث في السياسة النقدية التي كان يطبقها السودان قبل صدور قرار الخروج من منطقة النقد الاسترلينية ، لذلك تجدر الاشارة هنا الى النظم التي كان معمولاً بها بشأن الرقابة على النقد ونظم المدفوعات التي كانت تطبق مع البلدان التي كان لها تعامل مع السودان . فالرقابة على النقد في السودان ، بصرف النظر عن علاقة السودان بمنطقة النقد الاسترلينية ، تشرف عليها وزارة المالية والاقتصاد . اما تراخيص الاستيراد والتصدير فتصدر عن وزارة الصناعة والتجارة والتموين ، الا انه يجب اعتمادها من سلطات الرقابة على النقد ، كما انه كانت تحدد نسب الواردات على اساس 25 بالمئة من المدفوعات الخارجية لاستيراد المواد الغذائية و 25 بالمئة لاستيراد الملابس الجاهزة والنسوجات القطنية والصوفية والباقي يخصص لاستيراد السلع الرأسمالية والسلع الاخرى . اما الصادرات السودانية فلم تكن تخضع لاية قيود باستثناء التعهد باستيراد قيمة هذه الصادرات في خلال ستة اشهرعن طريق احد البنوك المعتمدة من تاريخ شحنها . وكانت هناك قواعد لمنح التسهيلات الائتمانية في ما يتعلق باسترداد هذه القيمة خلال المهلة المصرح بها . وكانت هنالك قواعد محددة لتنظيم تصدير الاقطان الطويلة التيلة الى المملكة المتحدة برسم الامانة . اما بالنسبة للبنكنوت فلا يصرح للمسافرين القادمين الى السودان بان يحمل كل منهم ما يزيد عن عشرة جنيهات سودانية في صورة اوراق نقد . الا انه بوسعهم ان يحملوا معهم اي مبلغ كان من اوراق النقد الاجنبية .

كانت المدفوعات والتحصلات بين السودان والبلدان الاخرى تتم طبقاً للثواعد التالية :  

- بلدان المنطقة الاسترليني : بالعملة الاسترلينية او بالجنيهات السودانية عن طريق حساب احد المقيمين في المنطقة الاسترلينية .

- بلدان المنطقة الاميركية : بالدولارات الاميركية او بالاسترليني عن طريق حساب اميركي في المملكة المتحدة ( نظراً لما كان يقتضيه ارتباط السودان بمنطقة النقد الاسترلينية ) . 

- البلدان الاخرى : بالجنيه الاسترليني عن طريق حساب قابل للتحويل في المملكة المتحدة . 

غير ان السودان قام بعقد اتفاقات عديدة للتجارة والدفع مع بعض البلدان الاجنبية ، وهذا استثناء من ارتباطها بمنطقة النقد الاسترلينية . واهم هذه البلدان : الجمهورية العربية المتحدة ، المملكة العربية السعودية ، تشيكوسلوفاكيا ، المانيا الشرقية ، المجر، بولونيا ، ويوغسلافيا . وكانت المعاملات مع هذه الدول تكوّن نسبة كبيرة من مجموع معاملات السودان مع العالم الخارجي ، الامر الذي شجعها على الاستمرار في انتهاج هذه السياسة ، أي سياسة عقد اتفاقيات الدفع الثنائية مع الدول الاجنبية ، في محاولة لاستكمال استقلال نقدها بخروجها من منطقة النقد الاسترلينية . 

اسباب خروج السودان من منطقة النقد الاسترلينية  

لمعرفة حقيقة العوامل التي دفعت مجلس الوزراء السوداني لاصدار هذا القرار ، وفي هذا الوقت بالذات ، يقتضي ان نلقي نظرة على مدى القيمة الاقتصادية والسياسية للمبررات التي تزين الانتماء للمناطق النقدية . ويمكن ايجاز هذه المبررات ، بوجه عام ، في ثلاث فئات :  

1 – مبررات ترجع لاعتبارات الملائمة . هذا الاعتبار لهاهميته من حيث قيام الدولة التي تتزعم المنطقة النقدية بدور الصيرفي بالنسبة للبلدان المنتمية اليها . ويبدو هذا واضحاً بالنسبة للبلدان ذات النظم المصرفية البدائية ، نظراً لأن هذه الدولة تعتمد على نظام مصرفي نام ومتطور في تسوية المدفوعات الخارجية . على ان لهذا الوضع مخاطره الكبرى ، نظراً لما يترتب عليه من غل يد السلطات الوطنية في مزاولة سياسة نقدية مستقلة ، حتى بالنسبة للدول المستقلة التي تنتمي للمنطقة النقدية ، إذ انه لا يتأتي للبنوك المركزية في مثل هذه الدول سوى مقدرة محدودة على الغاء اثر تراكم الارصدة الخارجية على عرض النقود عن طريق القيام بعمليات السوق المفتوحة نظراً لضيق الاسواق النقدية والمالية فيها . 

2 – مبررات ترجع لاعتبار الاستقرار الاقتصادي . تحتفظ البلاد المنتمية للمنطقة النقدية برصيد من اصولها الدولية السائلة لدى الدولة التي تتزعم المنطقة ، مما يمكنها من مواجهة عجز طاريء او موقوت في ميزان المدفوعات من دون اللجوء الى وسائل استعادة التوازن الاخرى ، كالانكماش اوتخفيض سعر العملة الوطنية او غيرها من الوسائل التي يترتب على استخدامها تأثيرات جوهرية على الاوضاع الاقتصادية الداخلية . وهذا ما يؤدي الى تعزيز مركز الارصدة الدولية السائلة وزيادة امكانات الدولة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي ، كما يؤدي حشد ارصدة البلاد التي تنتمي اليها الى الاقتصاد في المقدار الذي يلزم الاحتفاظ به ، حيث يندر ان تزداد الجاجة الى استخدام هذه العملات في نفس الوقت بالنسبة لمختلف البلدان التي تتألف منها المنطقة النقدية . على انه من الواضح ان مثل هذا الاعتبار لا يعتد به حيث تتجه اكثر البلدان التي تتألف منها المنطقة النقدية الى التوافق في تحقيق عجز او فائض مع بلدان العالم الاخرى ، نظراً لتشابهها في مراحل النمو الاقتصادي . 

3 – مبررات ترجع لاعتبار التمييز في المعاملة . تعتبر المناطق النقدية احد انواع المنظمات النقدية الاقليمية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية والتي تميزت بانتفاء القيود على التجارة الخارجية والمدفوعات في محيط الدول المنتمية الى كل منها ، او بتبسيط القيود المفروضة على المعاملات في ما بين الدول الاعضاء ، بالقياس الى القيود المفروضة على المعاملات مم بلدان العالم الخارجي ، بما يترتب على ذلك من التمييز في المعاملة بين البلاد التي تنتمي الى المنطقة النقدية الاقليمية وتلك التي لا تنتمي اليها ، مما يؤدي الى تشجيع الاستيراد من البلاد المنتمية للمنطقة ولو لم تبلغ السلع المستوردة مستوى الواردات من بلدان العالم الاخرى ، سواء أكان ذلك من ناحية السعر ام الجودة ام شروط البيع . على ان هذا العامل لا يمكن التسليم به بالنسبة لمختلف البلدان التي تتألف منها المنطقة التقدية ، نظراً لاختلاف هذه البلدان في مراحل النمو الاقتصادي والتخصص الانتاجي . كما يلاحظ ان التمييز في المعاملة لا يحقق نفعاً يعتد به بالنسبة للبلدان المنتجة للاغذية والمواد الاولية التي يجري تسويق منتجاتها في اسواق عالمية تتنافس يها هذه المنتجات مع مثيلاتها من السلع من مختلف بلدان العالم . فعلى العكس ، يحقق التمييز في المعاملة منافع كبيرة بالنسبة للدول التي تتخصص في انتاج السلع المصنعة والسلع الرأسمالية وسلع الاستهلاك الدائمة ، ومعظمها من الدول التي تتزعم المناطق النقدية .  

واخيراً ، فان من مبررات الانتماء للمناطق النقدية تزويد الدول التي تتزعم هذه المناطق للبلدان المنتمية اليها برؤوس الاموال اللازمة لدفع عجلة التنية الاقتصادية فيها . غير ان مقدرة هذه الدول أصبحت محدودة الى ابعد الحدود ، نظراً لما تمخضت عنه الحرب العالمية الثانية من تدهور مراكز هذه الدول كبلدان مصدرة لرؤوس الاموال . 

هكذا تختلف مبررات الانتماء للمناطق النقدية من حيث مدى أهميتها السياسية والاقتصادية . ويمكن القول ، بوجه عام ، ان التمييز في المعاملة لم يعد شأن يذكر ، خصوصاً بعد ان أعلنت الدول المتزعمة للمناطق النقدية امتثالها للعمل بالالتزامات الواردة في المادة الثامنة من ميثاق صندوق النقد الدولي . أما المبررات المتعلقة باعتبار الاستقرار المالي والاقتصادي ، فقد أصبحت المناطق النقدية الراهنة أضعف من ان تحقق نتائج فعالة في هذا  المضمار . وأخيراً ، فان مبررات عوامل الملاءمة تختلف من حيث اهميتها بين بلد وآخر ، بحسب اختلاف الظروف.  وهي بوجه عام محدودة الأهمية ، بل ان منها ما يثير من الصعوبات ما قد يؤدي الى انهيار هذه المناطق النقدية في المستقبل .  

4 – مصر ومنطقة النقد الاسترلينية . لعل ظروف انضمام مصر( وهي الآن الجمهورية العربية المتحدة ) الى منطقة النقد ، المشابهة لظروف السودان ، تتلخص في ان مصر، بحكم وقوعها تحت السيطرة البريطانية في الماضي ، إنضمت عند نشوب الحرب العالمية الثانية الى ما اصطلح على تسميته في ذلك الوقت بمنطقة النقد الاسترلينية التي كانت تضم مجموعة من البلدان المتحررة من اية قيود نقدية تطال التحويلات التي تتم بينها . كما كانت هذه البلدان تقوم بتسليم حصيلتها من بعض العملات الاجنبية ، وأهمها الدولار الاميركي ، الى مجمع نقدي في لندن ، على ان يقوم هذا المجمع بدوره بمنح كل منها قدراً من هذه العملات طبقاً لاسس كانت تتبدل بين وقت وآخر . ومما يذكر ان بعض نشرات بنك نيوزيلندا المركزي عرّفت المنطقة الاسترلينية تعريفاً يدل على مدى خضوع هذا التنظيم لمشيئة لندن . فقد ذكرت هذه النشرات ان المنطقة الاسترلينية ما هي الا منطقة نقدية تعطي لها المملكة المتحدة تعريفاً يختلف بين حين وآخر وفقاً لتعليمات الرقابة البريطانية على النقد . 

وعليه ، فقد فرضت مصر ، بناء لطلب بريطاني ، الرقابة على النقد منذ سنة 1939 ، أي عند بدء الحرب العالمية الثانية . وكانت السلطات المصرية تترك النقد حراً قبل هذا التاريخ . على ان رقابة النفد ، بالطريقة التي صدرت بها حينذاك ، لم تكن تهدف الى خدمة اغراض مصرية ، بل كانت تهدف الى تحقيق اطماع بريطانية تتمحور حول الحرب وكسبها ، حتى ولو ألحق ذلك ضرراً بمصر ومصالحها .  

ضاقت مصر ذرعاً بهذه التبعية التي جعلت من الجنيه المصري ملحقاً بالاسترليني اثناء الحرب ، وبالتالي الى زيادة تراكم الارصدة الاسترلينية لديها ، هذا الاسترليني الذي فقد في اعقاب الحرب العالمية الثانية الكثير من أهميته كعملة دولية . لذلك خرجت مصر من منطقة النقد الاسترلينية سنة 1947 ، وكانت قد مهدت لذلك بانضمامها لصندوق النقد الدولي . وقد ترتب على خروجها من عضوية هذه المنطقة ان استقلت مصر في شؤون الرقابة على النقد . فأصدرت على الفور القانون رقم 80 لسنة 1947 الخاص بتنظيم الرقابة على عمليات النقد الاجنبي ، والتي راعت يه استخدام هذه الرقابة في اغراض خاصة بتنمية اقتصادياتها . ومن ثم شملت هذه الرقابة التحويلات التي تتم مع اعضاء المنطقة الاسترلينية ، شأنها في ذلك ، شأن غيرها من البلدان والمناطق النقدية الاخرى . وعليه ، فقد توقفت حرية تحويل الاموال التي كانت مقررة من قبل بين مصر وباقي بلدان المنطقة الاسترلينية . ويعتبر هذا التدبير ، في حد ذاته ، انقضاضاً على ما كان يجري سابقاً من تحويل آلي بين العملة الاسترلينية والعملة المصرية عن طريق اذونات الخزينة البريطانية في البنك الاهلي المصري . وصدرت خلال سنة 1948 قوانين عديدة تتعلق باصلاح النظام النقدي الداخلي في مصر ، بعد ان أصبحت البلاد مستقلة في سياستها النقدية . 

يتبين مما حدث في مصر ان مبررات الانتماء الى المناطق النقدية قد تضاءلت الى حد كبير ، وانه ما لم يكن من عوامل سياسية ، فليس من الحكمة في شيء الاستمرار في الانتماء الى هذه المناطق . فاستمرارهذا الارتباط، لو حدث ، لكان لا بد له ان بؤدي الى فقدان الدولة سلطتها في رسم سياسة نقدية وطنية مستقلة تتمشى مع اهدافها الاقتصادية والمالية والاجتماعية . وعليه ، لم يكن مستغرباً ان يصدر مجلس الوزراء السوداني في جلسته رقم 292 المنعقدة يوم السبت الواقع في 3 فبراير / شباط 1962 قراره التاريخي بالخروج من منطقة النقد الاسترليني واعتبار السودان منطقة نقدية قائمة بذاتها .