نظرة في قوانين العمل

سامي بعقليني

ليسانس في الحقوق

ب.ع. اقتصاد

نشر المقال في تشرين الثاني / نوفمبر 1960 ، الرائد العربي ، العدد الاول

يختلف قانون العمل عن باقي فروع القانون الخاص بروحه وبالمبادىء التي قام عليها منذ نشأته. فبينما يهدف القانون المدني مثلاً الى حماية الحقوق الشخصية للفرد ، كحماية شخص الانسان والاملاك الخاصة ، يهدف التشريع العمالي الى فرض القيود على هذه الحقوق نفسها لتلافي ما يمكن ان ينتج عن سوء استعمالها من ضرربالغير . ولا يعني ذلك ، كما يخشى ان يتبادر الى ذهن البعض ، تقديم مصلحة فئة من المواطنين ، أي العمال والموظفين ، على مصلحة فئة اخرى ، أي أرباب العمل ، بل أن هذه التشريعات ، وهنا الظاهرة الكبرى التي تمتاز بها وتجعلها فريدة وجديدة ، تقدم دائماً مصلحة المجتمع العامة على مصلحة اي عضو فيه.

ترتكز القوانين العمالية على أسس ومباىء إجتماعية وفلسفية وقانونية خاصة ، تختلف في جوهرها ومضمونها عن الاسس والمبادىء الكامنة وراء سائر القوانين . فحالة الاتكال على رب العمل في تحصيل معيشته التي يجد فيها الموظف او العامل نفسه ، تفسر وتبرر تدريجياً ومنطقياً نشوء فرع خاص في القانون لرعاية مصالحه والحفاظ على حقه بعيش رغيد هانىء . لذلك فالقوانين العمالية المعمول بها اليوم لا تشمل احكامها الذين يخضعون لقوانين أخرى .

العوامل التاريخية لنشوء قانون العمل

إن الاطوار التي مر بها العمل الانساني كفكرة فلسفية وكواقع مادي عبر التاريخ تقرر الى حد بعيد مبادىء واحكام قوانين العمل المعمول بها اليوم في مختلف بلدان العالم . فالاقدمون عرفوا عظمة العمل وقيمته ، بالرغم من انهم لم يكوِنوا فلسفة عامة له . ولا يمكننا القول في هذا المجال ان العالم القديم كان يحتقر العمل لان المدنيات البدائية إعتبرت العمل واقعاً ضرورياً محتماً على كل فرد من المجموعة العائلية ، أحراراً أكانوا أم عبيداً .

غير ان الحال تغيرت في ما بعد عندما حطمت التطورات في الزراعة والتجارة نظام الاقتصاد العائلي فانقسم المجتمع الى طبقات . ومع ولادة طبقة الاشراف عم الرق وأصبح مؤسسة معترفاً بها . وعندما صار بوسع الاغنياء الاستغناء عن القيام بالاعمال اليدوية التي كانت تؤديها طبقة العبيد و الطبقات الدنيا في المجتمع ، أصبحوا يحتقرون عمل الفلاحين والصناع اليدويين ، وتألفت نتيجة لذلك درجات للعمل موازية للدرجات الاجتماعية . وكانت هذه الدرجات نسبية ، تختلف باختلاف النظام الارستقراطي او الديمقراطي للبلد ، وبالدور الذي يلعبه الجيش او السياسة اوالادب او التجارة ، في الحياة العامة . كما كانت تتأثر الى حد بعيد بالاوضاع الاجتماعية ، إذ كانت كل طبقة تعظم العمل الذي تقوم به وتحقر عمل الطبقات الدنيا ، كما ان الطبقات الدنيا كانت تحسد الطبقات العليا في نوع عملها .

لم يطرأ تغيير يذكر على هذه الحال حتى أواخر القرون الوسطى الاوروبية عندما جاءت النقابات المهنية المشهورة في اوروبا بتنظيم جديد للعمل . فنشأت في ذلك الحين نقابات لكل مهنة وحرفة وتجارة ، في كل مدينة من مدن أوروبا ، خاصة في شمالي القارة . وكان التنظيم الذي أحدثته هو حصر المهنة او التجارة في أشخاص معينين يتوارثونها أباً عن جد ويمنعون من ولوجها أياً كان من الخارج ، كما يحظرون استيراد مثيلات السلع التي ينتجونها الى مدينتهم . ومما لاشك فيه ان هذا النظام كان يتجاوب الى حد ما مع أوضاع المجتمع الاقطاعي . غير ان مساوئه كانت عديدة ، مما حدا بعلماء الاقتصاد في القرن السابع عشر الى اعتبار الامتيازات التي كانت تتمتع بها هذه النقابات لم تكن سوى نتيجة لمؤامرة طويلة حاك خيوطها ونفذها أصحاب المصالح الخاصة للانقضاض على المصلحة العامة . بيد ان ضراوة عداوة هؤلاء العلماء للعمال منعتهم من دراسة الاسس التاريخية لهذه الامتيازات . وفي الحقيقة كان المهنيون يسايرون عصرهم والبيئة الاقطاعية التي كانت بيئة امتيازات يمنحها الحاكم لبعض الافراد او الجماعات عندما كان يرى في ذلك ما يخدم مصالحه .

جاءت الثورة الفرنسية والغت جميع هذه الامتيازات واعلنت مبدأ حرية العمل في سنة 1791 . وجرى تعميم هذا المبدأ في اوروبا بواسطة فتوحات نابليون بونابارت التي أعقبت الثورة .

أما التشريع العمالي كما نعهده اليوم فلم يبدأ إلا في مطلع القرن التاسع عشر ، وكانت بريطانيا السباقة في هذا المضمار نتيجة لتصنيعها المبكر . ففي مطلع القرن التاسع عشر كانت الثورة الصناعية الكبرى قد حققت الكثير من التقدم الفني والتقني في انتاج السلع ، كما كانت وسائل النقل الحديثة قد ادخلت النشاط في حركة التجارة ، حيث أصبح انتقال البضائع وتبادلها يجريان على نطاق واسع لم يسبق له مثيل . ونشأت عن هذه الاوضاع الجديدة مشاكل جديدة كان على المجتمع ايجاد الحلول لها . ومن الناحية القانونية ، أصبحت القوانين المعمول بها قديمة لا تلائم الوضع الناشيء ، خصوصاً وان تلك القوانين كانت تتصف بفردية متطرفة وحرية فردية لا رادع لها . فكان تطبيقها يلحق بأصحاب الاجور والمعاشات ، أي العمال والموظفين ، ظلماً فادحاً . ونشأ عن تطور أساليب الانتاج فقدان قيمة المهارة المهنية الفردية لأن الآلة لا تحتاج لادارتها إلا الى قدر بسيط نسبياً من المهارة . وأدى تشغيل الاحداث والاناث الى تفشي البطالة بين صفوف الرجال لأن أصحاب العمل كانوا يؤثرون تشغيل أولئك نظراً لضآلة أجورهم . وجاء حشر البالغين من الجنسين في المعامل ليسبب انحطاطاً في الاخلاق العامة ، كما تسبب جو هذه المعامل الموبوء بتفشي الامراض وانتشار الحوادث بين العمال . وكان ذلك من الاسباب التي أدت الى شن حملات شعبية لحمل الحكومات على التدخل لتصحيح الاوضاع . فقد جاء في الاسباب الموجبة لقانون سنة 1802 في انكلترا ، وهو أول قانون هدف الى الاهتمام بشكل رئيس بشؤون العمال ومشاكل العمل ما يلي : " لقد أصبح مؤخراً من المألوف تشغيل المتمرنين من الاناث والذكور في معامل غزل القطن والصوف باعداد كبيرة تحت سقف واحد . لهذا فقد بات من الضروري إيجاد أنظمة لحماية صحتهم وأخلاقهم " .

منذ ان بدأت فكرة تنظيم العمل وحل مشكلاته الجديدة ، التي أثارتها وبلورتها الاوضاع الجديدة المنبثقة عن الثورة الصناعية ومؤسساتها العملاقة ، أخذت هذه الفكرة تتطور بخطى ثابتة حتى وصلت الى ما هي عليه اليوم في البلدان الصناعية . وساعد في سرعة نموها عاملان مهمان هما حسب تسلسلهما التاريخي : اولاُ ، نيل الطبقات الكادحة حقوقها السياسية الكاملة ، بحيث أصبحت تؤثر في حكوماتها تأثيراً مباشراً ؛ وثانياً ، تنظيم العمال في نقابات لها تأثير كبيرعلى حركة الانتاج ، ومن ثم على الحياة الاقتصادية العامة . وعمدت هذه النقابات الى اللجوء للاضرابات كسلاح قوي لنيل حقوقها .

واذا تركنا جانباً هذا التطور المادي لقانون العمل ، نرى ان هنالك ، على الصعيد الفكري ، ثلاثة جذور فكرية كان لها ، ولا يزال ، تأثيرها الكبير : الاول ممثل بالمسيحية وذو نزعة روحية ، والثاني ذو مفعهوم مادي ، والثالث تغلب عليه مبادىء سياسية – اجتماعية .

فالمسيحية لم تأت ، كما يعتقد بعض الكتاب ، بجديد في فلسفة العمل . فقد رأينا أن الاقدمين كانوا ملمين بعظمة المسيحية الروحية ، غير انهم لم يفهموا دورها على الصعيد العملي، بالرغم من ان هذا الدور كان كبيراً . فهي اذ تعتبر الفروقات في احوال البشر كواقع طبيعي ، فانها تؤكد من جهة اخرى ، على تساوي الجميع امام الله وتساوي قيمة العمل الذي يقوم به كل فرد حسب قدرته وامكاناته .

أما المبدأ المادي فكان ذو نظرة معاكسة تماماً لأنه يجرد العمل من روحيته وصلته بالدين .هذا المبدأ أخذت به مدرسة الاقتصاد الحر في بريطانيا ، فاعتبرت العمل سلعة كباقي السلع تخضع لمبدأ العرض والطلب . وبالتالي فان كل العلاقات بين العامل ورب العمل يجب ان تخضع لهذا القانون الطبيعي . وهكذا فعلى العامل ان يتحمل جميع ما يترتب من نتائج على هذا القانون .

إن هذا المبدأ يعكس النظرة المادية لاصحاب العمل . وقد جاءت الماركسية كردة فعل له تعكس على النقيض الآخر نظرة العمال المادية . فقد استنتج ماركس من نظريته لكلفة الانتاج ( التي تعتبر العمل سلعة لا يميزها شيء عن سائر السلع ) نظرية جديدة هي نظرية الفائض ( surplus ( value . وبمجرد أخذ قيمة العمل الحقيقية بعين الاعتيار يتضح الاستغلال الرأسمالي الذي يوجب ، في نظر ماركس ، قيام مجتمع اشتراكي .

أما المفهوم الوطني الاشتراكي للعمل فيتميز باهتمامه الشديد بالنواحي السياسية والاجتماعية . وقد ظهر هذا المفهوم منذ وقت قريب وتطور ، خاصة في المانيا وايطاليا . فهو يعتبر العمل ظاهرة اجتماعية ، خصوصاً في هدفه الذي هو سد حاجات المجتمع الوطني . فالعمل في مفهومه " هو خدمة اجتماعية " . إذاً ، فهو ليس سلعة تباع وتشرى وتخضع لقانون العرض والطلب . حتى ان كلمة سوق العمل اختفت من معجم الاشتراكية الوطنية لان مثل هذه التسمية تعكس فكرة مادية بحتة .

العلاقة بين المفهوم الفلسفي والاقتصادي والقانوني للعمل

يختلف تحديد العمل في كل من الفلسفة والاقتصاد والقانون . فالعمل مادياً هو كل فعل من شأنه ان يغير العالم الخارجي . وفلسفياً هو كل مسعى ارادي للانسان يصحبه جهد ، ويتميز عن اللعب بما يرمي اليه من هدف . اما التعريف الاقتصادي فلا يعتبر العمل الا بقدر ما يزيد ، بطريقة مباشرة او غير مباشرة ، كمية السلع ،أي الاشياء النافعة بالنسبة الى احتياجات الانسان . فقانون العمل اذاً ، بشكل عام ، هو مجموع القواعد القانونية التي تنظم العمل الانساني .

إن مفهوم العمل بمعنى انه كل فعل يخضع لاحكام القانون ، واسع جداً . إنه أعم مما هو في التحديد الاقتصادي لأن القانون لا يهتم بمنفعة العمل الواسع . فالعمل المضر اقتصادياً او الذي لا يسمح به قانوناً لا يمكن اسقاطه كعمل ، بل يعتبرعملاً بالمعنى القانوني . وبكلام آخر ، إن كل ما يقوم به شخص وضع طاقته العملية تحت تصرف الاخرين ، بناء لتوجيهاتهم ، يقع ضمن نطاق العمل القانوني . ولا يهم في ذلك طبيعة العمل الذي يمكن ان يكون خارجيا او مجرد امتناع محدد للحرية . وهكذا ، فان عارض الازياء الذي يقف من دون حراك في واجهة محل تجاري يقوم بعمل بالمعنى القانوني . ولا يهم ايضاً في العمل دوامه او وجود معاش او مكافآت . ومن جهة اخرى ، فان اللذة التي يمكن ان يجنيها العامل لا تجرد عمله من صفته القانونية.

ومن الطبيعي ان تختلف الاعمال بعضها عن بعض ، حسب الظروف والاحوال . فالقانون يأخذ بالاعتبار الاخطار المتعلقة بالعمل وكمية الاجهاد الذي يسببه ، فيحمي ، مثلاً ، العامل بمنعه من تعاطي الاعمال المضرة بالصحة ويساعده في تحديد ساعات العمل . كما انه يضع قواعد مختلفة للعمل العقلي والعمل اليدوي. غير ان هذه الاختلافات ثانوية ، إذ انه بالرغم منها يظل العمل خاضعاً لاحكام قانون العمل .

ومع رحابة مفهوم العمل بالنسبة للقانون ، فإنه محدد تحديداً دقيقاً ، وهوأضيق بكثير من المفهوم الذي تتبناه الفلسفة او النظريات الاقتصادية . فلكي يخضع العمل لاحكام القانون ، يجب ان تتوافر فيه الشروط التالية :

1 – ان يكون عملاً ينفذه الانسان وليس عمل حيوان او قوى طبيعية .

2 – ان لا يكون عملاً حراً . فالقانون يفترض دائماً حالة العامل الاتكالية بالنسبة لرب العمل .

3 – ان يكون العمل مرتبطاً بعقد . فإتمام العمل يجب ان يكون نتيجة للقيام بواجب او بخدمة . ولا يفترض بالعامل ان يكون بوضع يخوله عدم اتمام العمل حسب ارادته .

4 – على العامل و العمل الذي يؤديه ان يكونا " تحت تصرف " رب العمل ولمصلحته او مصلحة شخص آخر . اما اذا كان لمصلحة العامل فانه يخرج عن نطاق قانون العمل ، حتى ولو توافرت فيه الشروط الاخرى .

تأثير الاقتصاد على قانون العمل

للعنصر الاقتصادي تأثير مباشر على قانون العمل . فالنظريات الاقتصادية التي شاعت في القرن التاسع عشر حاولت كلها حل المشكلة الاجتماعية . والتاريخ يبين مدى الدور الذي لعبته هذه النظريات في تطور قانون العمل .

إن الواقع الاجتماعي يؤلف المادة الاولية التي ترتكز عليها احكام قانون العمل . فالوقائع الطبيعية ، كأن يكون العمل عقلياً او يدوياً ، صناعياً او زراعياً او تجارياً ، عملاً فصلياً او دائماً وسواها من عوامل التنوع في الحياة الاقتصادية ، تفرض نفسها على القانون وتكيفه بحسب مقتضياتها . ومستوى التقنية في عملية الانتاج ، أي حالة التصنيع ، تخلق كثيراً من المخاطر على حياة وصحة العمال ، كما تخلق البطالة وعدم الاستقرار في صفوف الطبقة العاملة ، مما يوجب مواجهتها وايجاد الحلول لها ضناً بمصلحة العمال والمصلحة العامة . وهنالك ايضاً الاحوال الاقتصادية العامة لمستوى الاسعار وتأثيره على المداخيل الحقيقية وأهمية الانتاج وانعكاساته على الدخل الفردي ، ومن ثم على مستوى المعيشة وغيرها ، مما يؤثر مباشرة على قانون العمل.

يؤثر النظام الاقتصادي بدوره على قانون العمل ويطبعه بطابع مميز . فالنظام الرأسمالي ، مثلاً ، يعتبر العمل سلعة يخضع لقانون السوق ويشدد على حرية العمل والفرق بين العمل في المؤسسات الخاصة والدوائر العامة . والروابط بين قانون العمل والنظام الاقتصادي المطبقة حالياً تظهر الفروقات بين قوانين العمل المعمول بها في البلدان المختلفة .

غير ان قانون العمل لا يقتصر على نظام اقتصادي معين ، لأن واقع اتكال العمال على وجدود قانون عادل هو هو في الانظمة الرأسمالية والانظمة الاشتراكية . وهذا ينطبق على النظام الاشتراكي ، إذ ان الدولة في مثل هكذا نظام ، تقوم بدور رجل الاعمال ، حتى ولو انبثقت هذه الدولة من طبقة العمال وممثلة لها . فما لا يمكن تجاهله انها ، أي الدولة ، تبقى مجموعة مؤسسات وافراد يخضع لسيطرتها السواد الاعظم من المواطنين .

أهمية قانون العمل

أصبح قانون العمل في المجتمعات الحديثة من أهم فروع القانون بدليل ان اعداداً ضخمة من المواطنين يخضعون له ويعتمدون عليه في تنظيم معيشتهم . ولقانون العمل مدلولان مهمان ، الاول خلقي والثاني إجتماعي .

فالمدلول الخلقي يتجسم في رفض المجتمع الحديث اعتبار العمل سلعة مادية تخضع لقانون السوق . فعلاقات العمل تخضع لقانون خاص لان هذه العلاقات تتعلق بشخص العامل الانساني . ومن هذا الواقع يتضح ان قانون العمل انما هو ردة فعل ضد الفلسفة المادية . فكما يقول الاستاذ برو Perroux : " انه ، اي قانون العمل ، يمثل مجموعة الوسائل التي بواسطتها يعترف قانوناً بشخص العامل في مدلوله الانساني المطلق " . فالقانون يحمي شخص العامل الطبيعي ويضمن كرامته بالنسبة الى صاحب العمل ، كما يضمن المستوى الخلقي اللائق لشروط العمل واحواله . وأخيراً ، فهو يحقق تحرير الشخص الانساني بواسطة التعليم المهني والمشاركة في الحياة الاجتماعية .

أما المدلول الاجتماعي فيتمثل بتجريم قانون العمل للفردية . فهو لا يرضى ان يعتبر العامل فرداً منعزلاً في المجتمع ، بل يعامله كعضوة في اسرة او في مجموعة مهنية او اجتماعية مميزة بطرق معيشتها وتفكيرها ومصالحها الخاصة .

وقانون العمل يحد كثيراً من الحرية . فهو يعلم ان اية حرية لا يمكن ان تكون مطلقة . فالعامل ليس حراً في ان يعمل ساعات طويلة في اليوم الواحد ، كما انه ليس حراً في ان يتصرف كما يشاء وساعة يشاء باوقاته واوقات اولاده .

واخيراً ، ان قانون العمل يعكس المكانة الجديدة التي تحتلها الطبقات العاملة في المجتمع الحديث والتوازن الاجتماعي الذي يفرض نفسه . فقد كان قانون العمل في البدء زجرياً ، جرى وضعه لحماية المجتمع من الثورات العمالية . ثم انتقل الى حماية العمال ، إذ إعتبرهم طبقة غير راشدة تستوجب الحماية . أما اليوم ، فإنه يعتبر العمال شركاء منتجين في المؤسسة التي يعملون فيها او في المهنة التي يمارسونها مع اقران لهم ، واهم من كل ذلك يعتبرهم القانون جزءاً من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي لبلادهم . من هنا اكتسب قانون العمل الحديث اسماً جديداً هو القانون المنسق للعمل .

قوانين العمل في البلدان العربية

رأينا ان نشوء قانون العمل إرتبط تاريخياً بقيام أوضاع إجتماعية أوجدها التطور التقني في أساليب الانتاج . إن مثل هذه الاوضاع لم تقم في المجتمعات العربية إلا منذ وقت قريب . وهذا يفسر تأخر هذه البلدان في حقل التشريع العمالي .
ففي مصر ، صدراول قانون عمالي سنة 1933 ، باستثناء قانون يتعلق بتشغيل الاحداث ( تحت 13 سنة ) في معامل غزل القطن صدر سنة 1909 .

وفي لبنان كان التشريع العمالي قبل سنة 1936 ينحصر في بعض مقاطع من قانون الموجبات والعقود وقانون 17 نيسان / ابريل 1935 . ومنذ سنة 1936 أصدرت الحكومة بعض القوانين أهمها القرار رقم 21 المنشور بتاريخ 12 حزيران / يونيو سنة 1936 والمتعلق بالمؤسسات الخطرة والمضرة ، والقرار رقم 25 سنة 1943 المتعلق بحوادث العمل . وفي كانون الثاني / يناير سنة 1946 صدر قانون شامل ينظم العلاقات بين العمال وأرباب العمل .

وفي العراق ، تعتبر القانون رقم 72 سنة 1936 أول تشريع مصدق عليه من مجلس النواب يتعلق بالمسائل التي يثيرها العمل في الصناعة والتجارة . ولم يكن قبل صدوره سوى بعض القرارات الادارية الصادرة في أوقات مختلفة وبحسب الظروف .

أما في سوريا فقد صدر اول قرار عمالي في ايلول / سبتمبر 1935 ، وهويتعلق بانشاء النقابات العمالية . وصدر قرار آخر بتاريخ 24 حزيران / يونيو 1936 يتعلق بتشغيل النساء والاحداث . وفي حزيران / يونيو 1946 أصدرت وزارة الاقتصاد الوطني قانون جديداً شاملاً .

وكان التشريع العمالي في المغرب العربي الى وقت قريب جداً ( ولا يزال في الجزائر ) مرتبطاً بعملية التشريع الفرنسي مع بعض التعديلات التي تفرضها الاوضاع المحلية .

أما بلدان الخليج العربي ، بما فيها المملكة العربية السعودية ، فلم تشهد تشريعاً عمالياً الا في الامس القريب ، بعد ان تطورت صناعة النفط وأصبحت المورد الأكثر أهمية بالنسبة الى اقتصادياتها . وهكذا ، فقد صدر في الكويت، مثلاً قانون عمل للقطاع الاهلي في أوائل العام الفائت ( 2 اذار / مارس 1959 ) .

إن النهضة الصناعية في البلدان العربية لا تزال في أطوارها الاولى . غير ان التقدم في هذا الحقل يسير بخطى سريعة قل ان شهدت منطقة من العالم أسرع منه . لذلك يمكن القول إن هذه البلدان ستشهد في المستقبل القريب تقدماً كبيراً في تشريعاتها العمالية .