في نظر القانون : حول التشريعات التجارية في البلاد العربية

نشر هذا البحث في اذار / مارس 1961 ، العدد الخامس ، الرائد العربي

لمناسبة صدور قانون التجارة الكويتي رقم 2 لسنة 1961 ، تقدم " الرائد العربي " الى قرائها البحث التالي الذي ينطوي على دراسة عامة خاطفة للتشريعات التجارية في البلاد العربية .

يعود القانون التجاري في العصر الحديث بأصوله الى النشاط الاقتصادي والتجاري والمالي الواسع الذي ظهر في ايطاليا في بداية هذا العصر . فالمعاملات التجارية الواسعة والمتشعبة التي قامت في المدن الايطالية أدت الى نشؤ عادات تجارية أصبحت شريعة للتجارة فيما بينها . ولعبت المحاكم الايطالية دوراً في بلورة هذه العادات وتطورها ، فكانت محكمة جنوى اكبر محكمة تجارية وبحرية في البحر الابيض المتوسط . كما لعب فقهاء القانون الايطاليون دوراً لا يقل عن دور المحاكم ومنهم "ستراكا" Straccha الملقب بأب القانون التجاري .

جاءت الاكتشافات الجغرافية في القرنين السادس والسابع عشر لتحول طرق التجارة والمعاملات التجارية عن المدن الايطالية . وسرعان ما ذوت هذه المدن وتضاءل نشاطها ، وبالتالي قلت أهميتها بالنسبة للقانون التجاري ، ذلك ان القانون التجاري لا يعدو كونه ، في أساسه ، تنظيماً لمظاهر الحياة الاقتصادية والتجارية من إنتاج وتداول للثروات . فاذا توسعت هذه المظاهر ، توسع معها القانون ، واذا تضاءلت إنكمش القانون وتضاءل .

أخذت فرنسا تحل محل ايطاليا بالنسبة القانون التجاري . فكان أن صدر عام 1673 ، ابان حكم لويس السادس عشر وباشراف الاداري والاقتصادي المشهور كولبير Colber قانون التجارة Ordonnance sur le Commerce الذي فصَل أحكام الشركات والاوراق التجارية والافلاس والمحاكم التجارية . كما صدر عام 1681 قانون التجارة البحرية Ordonnance sur la Marine . غير ان أهم تشريع فرنسي للتجارة هو ذلك الصادر عام 1807 والمعروف باسم "قانون التجارة" Code de Commerce ، والذي تأثرت به التشريعات التجارية في معظم دول العصر الحديث .

كانت تشريعات التحارة العثمانية من التشريعات التي تأثرت بصورة مباشرة بقانون التجارة الفرنسي . فقانون التجارة الصادر عام 1850 ، وذيله الصادر عام 1860 ، وغيرهما من القوانين التجارية الخاصة ، إقتبست احكامها مباشرة من القانون الفرنسي . حتى ان قانون التجارة العثماني اقتبس بعض الاحكام التي لا يمكن تطبيقها في الامبراطورية العثمانية ، كأحكام حقوق الزوجة عند افلاس زوجها مثلاً .

كانت القوانين التجارية العثمانية نافذة في بلاد المشرق العربي باعتبارها جزءاً من الامبراطورية العثمانية ، بإستثناء مصر . كما طبقت البلاد العربية باقي القوانين العثمانية (1) . وبقيت هذه القوانين سارية المفعول حتى بعد انفصال الدول العربية عن الامبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الاولى . وظهر شيئاً فشيئاً عجز هذه القوانين عن متابعة تطور الحياة التجارية وأساليبها الجديدة ، كما ظهر قصورها عن الانسجام مع التطورات السياسية والاجتماعية التي أعقبت الحربين الماضيين . فبقيت الشركات التجارية ، بصورة عامة ، والشركات المغفلة والمحدودة المسؤولية بلا تنظيم قانوني بالرغم من انتشارها ، وبقيت السندات والشيكات وغيرها، خاضعة لاحكام قديمة لا تنسجم والاتجاه الحديث في التشريع التجاري . وكانت هذه القوانين قد وضعت ، في الأصل ، باللغة التركية ثم ترجمت الى اللغة العربية بترجمات عديدة غير رسمية ، فجاءت تعابيرها غير دقيقة ولا محكمة ولا حتى صحيحة في كثير من مواضيعها ، وغير منسجمة مع التعابير والاصطلاحات القانونية العربية .

لكل هذه الاسباب أخذت البلاد العربية في سن قوانين حديثة تتماشى وحاجات العصر وتشمل كل ميادين القانون ، العام منها والخاص . وكان من بين هذه التشريعات الحديثة قوانين التجارة السائدة الآن (2) .

كان لبنان أول من أصدر قانوناً مكتملاً للتجارة بتاريخ 7 نيسان / ابريل 1947 ، على أن يعمل به بعد ستة أشهر من صدوره . وقام بإعداد هذا القانون بعض علماء القانون الفرنسيين ، ثم نقحته اللجنة التشريعية اللبنانية . ويشتمل هذا القانون على خمسة كتب في التجارة والمؤسسات التجارية ، الشركات التجارية ، العقود التجارية ، الاسناد التجارية ، الصلح الاحتياطي ، والافلاس . وأصدر العراق قانونه التجاري في آب / اغسطس 1943 . وكان قد بدأ باعداده منذ سنة 1936 ، إلا ان تبدل الوزراة الفجائي آنذاك حال دون صدور القانون . ولقد اقتبس قانون التجارة العراقي هذا معظم احكامه من القانون التركي الحديث المنقول عن قانون التجارة الالماني ، ومن اللائحة التي وضعتها عصبة الامم لتوحيد أحكام السندات التجارية . ويشتمل هذا القانون على ثلاثة كتب ، يبحث الاول منها في التعهدات والالتزمات التجارية ، والثاني في العقود التجارية ، والثالث في السندات التجارية . وهو لم يتعرض لاحكام الشركات لانه سبق ان صدر قانون عراقي في هذا الموضوع عام 1919 ، لا يختلف مطلقاً عن قانون الشركات الهندي الصادر سنة 1913 . أما قضايا الافلاس فبقيت خاضعة للقوانين التجارية العثمانية القديمة . وفي سوريا ، صدر قانون التجارة الجديد في حزيران سنة 1949 ، وهو مبوب حسب أبواب القانون التجاري اللبناني . وفي القانون السوري ميل الى التقريب بين احكامه وبين احكام القوانين التجارية الصادرة في البلاد العربية الاخرى . فهو يأخذ بمشروع الاسناد التجارية الذي اقرته اللجنة القانونية في جامعة الدول العربية ، ويقترب في سائر مباحثه من احكام القوانين المصرية والعراقية واللبنانية كل الاقتراب .

لا يزال قانون التجارة العثماني نافذاً في الاردن مع بعض التعديلات المهمة مثل قانون تسجيل الشركات الصادر عام 1927 والنافذ في الضفة الشرقية وحدها ، وقانون تسجيل الشركات العادية الصادر سنة 1930 والنافذ في الضفة الغربية وحدها ، وقانون الافلاس الصادر عام 1936 ، وقانون البوالص والشكات .

أما مصر ، فإنها لم تطبق أصلاً القوانين العثمانية . فكان ان إستنت عام 1883 قانون تجارة منقولاً عن القانون الفرنسي . ويتناول هذا القانون ، في كتبه الثلاثة ، القواعد التجارية العامة والعقود التجارية والافلاس. وصدرت حديثاً في مصر قوانين تجارية عديدة خاصة ، منها قانون الصلح الواقي من الافلاس (1946) وقانون السجل التجاري (1953) وقانون الشركات (1954) . وأعيد تنظيم القوانين التجارية في كل من مصر وسوريا بإعداد مشروع قانون التجارة الموحد للجمهورية العربية المتحدة الذي لم ينشر بعد .

أحدث القوانين التجارية العربية على الاطلاق هو قانون التجارة الكويتي الذي صدر في 23 كانون الثاني / يناير من هذا العام (1961) . وهذا القانون التجاري الكويتي هو أحدث حلقات النهضة التشريعية الحديثة في الخليج العربي بوجه عام ، وفي الكويت بوجه خاص . فقد أصدرت حكومة الكويت قوانين وتشريعات حديثة عديدة منها : قانون العمل في القطاع الاهلي الصادر في 2 اذار / مارس 1959 ، وقانون اعداد الميزانية العامة والرقابة على تنفيذها الصادر في 5 شباط / فبراير 1959 ، وقانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر في 21 اذار / مارس 1960 ، وقانون الوظائف العامة المدنية الصادر في 26 اذار / مارس 1960، وقانون الجزاء المأخوذ عن تشريع حديث في البحرين والصادر في 11 حزيران / يونيو 1960، وقانون الاجراءات والمحاكمات الجزائية الصادر في 13 حزيران / يونيو 1960 ، وقانون العمل في القطاع الحكومي الصادر في 20 حزيران / يونيو 1960 ، وقانون أنظمة الملاحة الجوية المدنية في اول آب / اغسطس 1960 .

يحتوي قانون التجارة الكويتي على خمسة كتب . يبحث الكتاب الاول في الاعمال التجارية والتجارة والمؤسسات التجارية ، إقتبست نصوصه من قوانين التجارة في كل من لبنان وسوريا ومصر والعراق ، ومن مشروع قانون التجارة الموحد للجمهورية العربية المتحدة . أما الكتاب الثاني فيبحث في الالتزامات بوجه عام، وهو كتاب مستحدث في القانون الكويتي ولا يحتوي أي قانون آحر ، عربياً كان او أجنبياً ، على مثل هذا الباب . فقوانين التجارة تستند عادة الى القوانين المدنية لاكمال نصوصها ، ذلك ان القانون المدني يحتوي على القواعد والنظريات العامة التي تحكم جميع فروع القانون الخاص ، بما فيها القانون التجاري . ومن هذه النظريات والقواعد نظرية الالتزام وقواعده . إلا أن الكويت لا يملك قانواً مدنياً حديثاً . فمجلة الاحكام العدلية العثمانية ما زالت هي القانون المدني في الكويت . وبما أن احكامها تقوم على نصوص الشريعة الاسلامية في المذهب الحنفي ، فإن قانون التجارة الكويتي ، وهو المأخوذ عن النظريات الغربية الحديثة لا يستطيع ان يرجع الى مجلة الاحكام العدلية ليكمل بها نصوصه ، لهذا لم يعتبر القانون التجاري نصوص المجلة عناصر مكملة له . فالمادة الرابعة من هذا القانون تنص على انه : " اذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه ، حكم القاضي بموجب العرف .. واذا لم يوجد عرف ، طبقت مبادىء القانون الطبيعي وقواعد العدالة " . ولهذا السبب ايضاً وجد المشترع الكويتي ضرورة إيجاد باب خاص في قانون التجارة يشتمل على نصوص الالتزامات تكون مستمدة من القوانين الغربية على نسق قانون التجارة نفسه . فعلى ذلك ، عندما يشير قانون التجارة المذكور الى التضامن او الى التقادم مثلاً ، او الى غير ذلك من النظم القانونية المعروفة في نظرية الالتزامات ، يمكن الرجوع الى أحكام الكتاب الثاني ونصوصه . ونصوص هذا الكتاب مأخوذة من القانون المدني العراقي المستمد من أحكام مجلة الاحكام العدلية والقوانين الغربية ، حتى يكون أكثر ملاءمة لما تتطلبه البيئة القانونية الكويتية (3).

أما الكتاب الثالث فيبحث في العقود التجارية المسماة ، كالبيع والنقل والحساب الجاري وعمليات البنوك . وقد استوحيت نصوص هذا الكتاب من قوانين التجارة العربية التي أخذ منها الكتاب الاول . والاوراق التجارية ، الكمبيالة والسند لأمر والشيك ، تكون موضوع الكتاب الرابع . وقد نقلت نصوص هذا الكتاب من قانون التجارة السوري ومشروع قانون التجارة الموحد للجمهورية العربية المتحدة . ويبحث الكتاب الخامس في الافلاس والصلح الواقي ، واستقيت أحكامه من نصوص مشروع قانون التجارة الموحد للجمهورية العربية المتحدة .

لم يتناول قانون التجارة الكويتي أحكام الشركات التجارية وأحكام السجل التجاري والغرف التجارية ، لأن هذه الامور قد تناولتها قوانين خاصة سابقة ، كانت قد صدرت في الكويت .

يعتبر صدور التشريعات التجارية العربية الحديثة عاملاً مهماً وفعالاً في تطوير الاقتصاد العربي بشكل عام . فالقوانين التجارية ، بتنشيطها المعاملات التجارية وتسهيلها وتبسيط إجراءاتها تسهم مساهمة أكيدة في تطور اقتصاد المنطقة العربية وتقدمها . ذلك ان تكيف القوانين ومجاراتها للتطورات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية الحديثة ، يزيل احدى العقبات المؤسسية التي طالما ذكرها علماء الاقتصاد كعائق لعملية التقدم الاقتصادي .

غير انه من الملاحظ ان التشريعات التجارية في بعض البلدان العربية لم تتناول كل مظاهر الحياة التجارية ، بل إكتفت بادخال بعض القوانين الخاصة حول قسم من مظاهر هذه الحياة ، بينما بقي القسم الآخر خاضعاً للتشريعات القديمة ، كما هي الحال في الاردن والعراق مثلاً . وهذا أمر يؤسف له ، لا لأن القوانين القديمة لم تعد تصلح للاحوال التجارية الجديدة فحسب ، بل لأن ذلك يسبب غموضاً وابهاماً وتعقيداً في التشريع يكلف المتقاضين مشقة متزايدة وعسراً(4). ومن المؤسف ايضاً ، أن تبقى نصوص القوانين التجارية في البلاد العربية غير موحدة . فمسائل القانون التجاري لها صفة دولية نظراً لتشابك العلاقات التجارية وقيامها بين دول متعددة ، مما يؤدي الى كثير من التنازع بين القوانين . وفي توحيد هذه القوانين خدمة كبيرة لاقتصاد المنطقة وازدهارها .

يظهر الاختلاف بين قوانين التجارة العربية واضحاً في تعدد المصطلحات القانونية . فالسفتجة هي " السفتجة " في القانون السوري ، وهي "سند السحب" في القانون اللبناني ، و" الكمبيالة" في القانون المصري والكويتي ، و"البولصة" في القانون العراقي . و"السند لأمر"هو السند لامر في القوانين اللبنانية والسورية والكويتية ، وهو " السند الذي تحت اذن" في القانون المصري ، و"السند للامر" في القانون العراقي . أما عملية "البروتستو" التي يقوم بها الدائن عند عدم الدفع فهي تارة "الاحتجاج" في القوانين اللبنانية والسورية والاردنية (5) ، وطوراً "البروتستو" في القانونين المصري والكويتي ، وتارة أخرى "الانذار" او "البروتست" في القانون العراقي .

إن توحيد المصطلحات القانونية العربية ، التجارية منها بنوع خاص ، ضرورة ملحة ، وقد تكون خطوة في سبيل توحيد نصوص القوانين التجارية . وهذا التوحيد عامل فعال في تنشيط التجارة وازدهار الاقتصاد ، وفيهما يكمن جزء كبير من رفاه المجتمعات العربية وتقدمها ورخاءها .

(1) أهم هذه القوانين قانون الجزاء الصادر سنة 1958 ، وقانون أصول المحاكمات الحقوقية الصادر عام 1880 ، وهما مقتبسان من القوانين الفرنسية المشابهة ؛ وقانون مجلة الاحكام العدلية الصادر سنة 1876 المشتمل على تدوين الاحكام القانونية للمذهب الحنفي في الامور المدنية . وقد ألغي هذا القانون الاخير في معظم البلدان العربية عند صدور القوانين المدنية الحديثة : عام 1932 في لبنان ( قانون الموجبات والعقود) ، وعام 1949 في مصر وسوريا ، وعام 1953 في العراق بصدور القوانين المدنية في كل منها . لكن أحكام المجلة لا تزال نافذة ، مع بعض التعديلات التي أجريت عليها في الاردن والكويت .

(2) أنظر بما يتعلق بالقوانين العربية المتعددة الحديثة كتاب الدكتور صبحي المحمصاني "الاوضاع التشريعية في البلاد العربي : ماضيها وحاضرها " ، بيروت ، دار العلم للملايين ، 1957.

(3) من أحكام كتاب الالتزام المنقولة حرفياً عن مجلة الاحكام العدلية . وهي الاحكام المتعلقة بتفسير العقد : " العبرة في العقود المقاصد والمعاني لا الالفاظ والمباني " المادة 154. و " لا عبرة بالدلالة في مقابلة التصريح " المادة 155 . و " المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً " المادة 157 وغيرها .

(4) يلاحظ ان القوانين التجارية ، في بعض الحالات ، لا تزال غير موحدة في داخل البلد الواحد ، مما تستدعي معالجة سريعة وحاسمة . ففي الاردن ، مثلاً ، لا تزال بعض القوانين تطبق في الضفة الغربية دون الشرقية ، والعكس بالعكس . فقانون تسجيل الشركات العادية الصادر عام 1930 نافذ في الضغة الغربية وحدها .

(5) حسب أحكام القانون الشامل لاحكام البوالص والشكات .