تطور التشريع في الكويت

نزار الاتاسي

نشر المقال في آذار / مارس 1962 ، العدد السابع عشر ، الرائد العربي

1

إن المتتبع لتطور العالم العربي العمراني والحضاري والاقتصادي ليأخذه العجب من السرعة المذهلة التي تستكمل فيها الكويت بنيتها كدولة متحضرة تعيش في القرن العشرين . فمنذ بضع سنوات قليلة فقط ، كانت هذه الدولة متخلفة عن أسباب التقدم الحديثة . لكن شعبها الذكي الواعي والمقدام ، ما ان أصبحت الثروة ميسورة بين يديه وتحرر من الفاقة والعوز ، حتى استجاب لنداء العصر وتفتحت جوانحه على معطيات الحضارة ، يعب منها بنهم لا يرتوي . ولم تكن حكومته أقل منه حماسة واندفاعاً ، فأتاحت له فرصة لا مثيل لها كي يخرج من عزلته . ولم تكتف الحكومة بان تزيل الحواجز بينه وبين العالم ، بل جعلت العالم بين يديه حين جاءته بالعلم والعلماء لترفع من مستواه بسخاء ومن دون مقابل ولا منة .

ولما كان التشريع هو احد جوانب الحياة الاجتماعية ، فقد تأثر هو ايضاً بما نال الكويت من تطور وتقدم . إلا ان هذا التأثير لم يكن بالقدر الذي يتناسب مع سرعة عجلة الرقي التي تدور حثيثه في هذه الدولة . وقد أشار الى ذلك الدكتور عبد الرزاق السنهوري حين لفت الانظار الى هذه الناحية ولاحظ ان " الناس بطبيعتها في الكويت تتمشى مع التقدم ، فتبدع ما يلائمها من النظم ولو عن طريق الارتجال ، تسبق الشرع الى شق الطريق الذي تسير يه . والحياة في هذا البلد المتوثب لا تقف جامدة ، وانما تتخلف عنها النظم . ومن عجب ان البلاد الاخرى تسير نظمها امام حضارتها فترتقي الحضارة بارتقاء النظم ، والكويت على نقيض من ذلك ، تسير حضارتها امام نظمها ، وقد ارتقت الحضارة بها ولم ترتق النظم . و بينما تقوم في الاخرى نظم متقدمة وتبقى الحضارة متخلفة اذا بالكويت فيها الحضارة متقدمة والنظم هي التي تتخلف .." .

إلا ان المشرع في الكويت سرعان ما تدارك هذا التخلف الذي أشار اليه الدكتور السنهوري ، فشهدت اعوام 1959 – 1960 – 1961 الثلاث ، ثورة تشريعية لا تكاد تماثلها أي ثورة في أي بلد من بلدان العالم ، فصدرت عشرات القوانين المنظمة للقسم الاكبر من شؤون البلد ومؤسساته ومرافقه ، حتى اذا جاءت مرحلة الاستقلال السياسي ( في حزيران / يونيو 1961 ) لم يكتف المشرع بان يسير مع الحضارة جنباً الى جنب ، بل تجاوزها الى حد بعيد ، حين أصدر الدستور الموقت ودعا الشعب الى انتخاب ممثليه لجمعية تأسيسية تتولى سن دستور يعكس حاجات الشعب ويرسم مستقبله . واذا كان يخيل الى البعض اننا نبالغ في تقييم أهمية التشريعات التي صدرت في خلال السنوات الاخيرة في الكويت ، فلا بد لنا ان ننظر بعين الاعتبار الى ظروف المجتمع الكويتي ، مرددين القول الذي قاله المشرع الاثيني صولون جواباً على السؤال الذي سئله " هل القوانين التي أنعم بها على أهل اثينا هي أحسن القوانين ؟ " كان جوابه " " منحتهم أحسن ما يستطيعون احتماله من القوانين " .

2

لن نتعرض في بحثنا هذا الى السلطة التي تملك حق التشريع ، وهي موزعة بين أكثر من جهة ، ولا الى الاجراءات التي يتبعها المشرع في اصدار التشريعات ، كما اننا لن نتعرض الى تحليل هذه التشريعات وابداء الرأي فيها ، فالمجال لا يتسع لذلك كله . وسنكتفي في بحثنا باستعراض التشريعات التي صدرت في الكويت منذ عام 1948 حتى الآن ، معتبرين ان ذلك العام قد يصح اعتباره بدءاً لتشكيل خلايا الدولة بالمفهوم الحديث للدولة ، وتكوين أجهزتها ، وايضاح معالمها واكتساب سماتها . وتسهيلاً للبحث ، نرى تقسيم هذه الفترة الى مرحلتين ، معترفين ان هذا التقسيم يعوزه التحديد العلمي الدقيق . ولا بد لنا بطبيعة الحال ان نتعرض لفترة ما قبل عام 1948 ، اذ ان الكويت كانت حتى قبل اكتشاف النفط فيها ، تتمتع بشبه كيان دولي مستقل ، كما انها لم تكن غارقة في غياهب الجهل الذي كانت بقية امارات الخليج العربي ومشيخاته العربية غارقة فيه . الا انها كانت ، على كل حال ، تحيا حياتها البسيطة الساذجة ، والمجتمع فيها قبلي لم تعقده مقتضيات المدنية الحديثة ، يعيش على التجارة والصيد . وانعدام وجود الاراضي القابلة للزراعة والرعي ، جعلها اكثر مرونة وقابلية للتطور ، فتفادت مرحلة الاقطاع ، كما تفادت ما تفرضه هذه المرحلة على المجتمع من جمود وتحجر . وكانت أحكام الشريعة الاسلامية ، ومن ثم أحكام التقاليد والاعراف – في حالة عدم وجود النص – كافية لتلبية حاجات هذا المجتمع . ولم تكن الدولة تحتاج الى أي دستور موضوع . فالدستور هو القرآن الكريم ، ونظام الحكم رسخته الاعراف ، والمحاكم يقوم باعمالها حاكم البلاد يعاونه قاض شرعي ، يفصل في القضايا المعروضة عليه في مجلس الحكم . ومع ذلك ، فقد عرفت الكويت في تلك الفترة اكثر من مجلس منتخب من الشعب يتولى المساهمة في الحكم ، كمجلس الشورى ومجلس المعارف في عام 1936 ، كما شهدت تأسيس اكثر من دائرة حكومية بينها المعارف والجمارك والبلدية والصحة وغيرها .

3 – المرحلة الاولى : منذ عام 1948 حتى عام 1959

إنها الفترة التي تلت استثمار النفط وتهافت الناس عليها من كافة انحاء العالم . فقد وجدت هذه الدولة الصغيرة نفسها فجأة في مواجهة مع مشاكل جديدة لم يكن لها عهد بها من قبل ، وظروف مستجدة تقتضي منها مبادرة للتدخل سريعة وفاعلة ، وحاجات ملحة ينبغي تلبيتها . فقد هز اكتشاف البترول جذور المجتمع القديم وزعزع اركانه ، فبادر المشرع ، بمرونة لا تنكر للتصدي لهذه المشاكل والظروف والحاجات ومعالجتها ، معالجة غير سريعة او متسرعة او غير منتظمة تتحلى بالمرونة والحكمة وبعد النظر. فالتطور كان أسرع من ان يتداركه المشرع وان يهيء له تشريعاته وانظمته السليمة المدروسة . ولما كان الأثر الأول لازدياد موارد الكويت المالية، يفترض توسعاً في انشاء المؤسسات والدوائر الحكومة اللازمة ، فقد ظهرت الى الوجود ادارات جديدة مرتبطة بالدوائر الحكومية ، فانشئت دوائر الاشغال العامة والميناء والاوقاف والكهرباء الخ .. وكان انشاؤها في هذه المرحلة يرتجل ارتجالاً من دون أي تنظيم دقيق لها . وكانت النتيجة ان زاد عدد الموظفين وكثرت مشاكلهم ، فصدر قانون ، مرتجل هو الآخر، في سنة 1955 ينظم شؤونهم ويحدد درجاتهم ورواتبهم ومكافآتهم ومعاشاتهم ، كما صدر قانون ينظم شؤون العمال . وكان قد صدر قبل ذلك قانون البلدية في عام 1954 لمواجهة الاعباء الجديدة التي القيت على هذه الدائرة ومعه قانون للتشجيل العقاري وقانون للمطبوعات ونظام لممارسة العمل ونظام للجريدة الرسمية وآخر للكتابة بالعدل .

كان الأثر الثاني لازدياد الموارد هو ازدياد التعقيدات في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الكويتي، الأمر الذي أدى الى مضاعفة العناية بحل ما ينشأ من خلافات بين الافراد وتخصيص أكثر من جهاز للفصل فيها . الا ان السلطة التنفيذية بقيت هي التي تتولى مهمة القضاء . فأنشئت لجان لفض النزاعات في دائرة البلدية ، ولجان للدعاوى في دوائر الامن العام ، الى جانب قضاء أجنبي يختص بالفصل في القضايا التي يكون فيها احد الاطراف أجنبياً . وكان القضاء الرسمي آنذاك يتألف من المحكمة العليا التنفيذية ومن ثلاث محاكم شرعية ومن قاضيين جعفريين ، ولجان تجارية تتولى الفصل في المنازعات التي يوافق الاطراف برضائهم على عرضها عليها . كما كانت هناك محكمة لتمييز الاحكام مؤلفة من شخص واحد مشهود له بالكفاءة والعلم . وكانت هذه المحاكم جميعها ، ما عدا محاكم الجعفريين ، تطبق مجلة الاحكام العدلية في قضايا الاحوال الشخصية . اما لجان التجار فكانت تطبق العرف والعادة ، إذ لم يكن قد صدر بعد قانون للتجارة .

أما في ما يتعلق بظام الحكم ، فلم يصدر أي تشريع في هذه المرحلة يتعرض له ، فبقي الأمر كما كان عليه في السابق ، أي انه ظل يخضع لقاعدة باتت بمثابة دستور غير مكتوب ، تقوم على أساس ان يتولى الامارة في البلاد الأرشد من اسرة آل الصباح . إلا ان انشاء الدوائر الحكومية اقتضى ان يرئسها رؤساء من الأسرة نفسها . ثم ما لبث الامر ان استوجب تشكيل بعض المجالس تتولى تنسيق الاعمال في الدوائر ، ويتولى بعضها الآخر سلطة اصدار النظم والقوانين . فتألفت في عام 1954 اللجنة التنفيذية العليا من ثلاثة رؤساء وثلاثة اشخاص آخرين ، كما تألفت لجنة للتعمير ومجلس للبلدية ومجلس للانشاء وهيئة للتنظيم مؤلفة من بعض رؤساء الداوئر والتجار ، كما جرى تشكيل مجلس أعلى من كافة رؤساء الدوائر يتولى مهمة الاشراف على السياسة العامة في البلاد ، وتتولى المجالس الاخرى تقديم المشورة اللازمة له ، بالاضافة الى اختصاصاتها الاخرى .

إن ما يميز هذه المرحلة هو تحسس المشرع بالمشاكل التي جدت في الكويت واهتمامه بها ومبادرته لايجاد النظم التي تحتاج اليها . الا ان كل شيء كان يجري خلف التطور لا أمامه وتبدو عليه امارات الارتباك والتردد. وهو في ذلك له كل العذر . فالمجتمع الكويتي لم تكن ملامحه قد اكتملت وتوضحت ، ولأنه كان يمر في مرحلة انعطاف فجائية حاسمة ، قل ان تعرض لها غيره من المجتمعات . فهو لا يستطيع التفرقة بين ما هو ضروري وما هو كمالي ، كما لا يستطيع استيعاب وتمثل كل تشريع يصدر ، بدليل ان قانون الجنسية الذي صدر سنة 1948 لم يكتب له الا حظ محدود من التطبيق . ولعل أهم نظام صدر في هذه المرحلة كان نظام الجريدة الرسمية المسماة " الكويت اليوم " والتي صدرت في اواخر سنة 1954 . فقد أصبحت الجريدة صلة الوصل بين الدولة والجمهور ، وأتاحت للشعب فرصة الاطلاع على ما يصدر عنها من مراسيم وانظمة وبلاغات . وهي تعتبر بحق سجلاً للتطور التشريعي في الكويت ، وتتقدم على أرقى الجرائد الرسمية في البلاد العربية ، وان كانت في رأينا ما تزال تفتقر الى تشريع محكم واف ينظم اصول النشر فيها .

4 – المرحلة الثانية : من سنة 1959 حتى الآن

انها بحق مرحلة الثورة التشريعية الشاملة ، اذ انجز المشرع خلالها إشادة صرح ضخم من التقنيات والتشريعات والنظم شملت كافة جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية . وهو بذلك قد أوضح الخطوط الرئيسة والسليمة للمجتمع الكويتي الذي اجتاز مرحلة التكون الى مرحلة النضوج الواعي ، كما وضع الاسس النهائية لكيان الدولة الكويتية بعد ان استكملت اسباب استقلالها . وأهم ما تتميز به هذه المرحلة هو لجوء المشرع الى التخطيط التشريعي ، اذا صحت التسمية . فبعد ان كان المشرع خلال المرحلة الاولى يكتفي بتلبية الحاجات الملحة والمستعجلة للمجتمع باصدار تشريعات آنية وموقتة ، أصبح الآن يعتمد على التخطيط العلمي الطويل المدى . فعمد الى اعظم الهيئات العالمية ، كالبنك الدولي والسنهوري وغيرهما ، بدراسة اوضاع الكويت واقتراح النظم التي تلائمها . وعلى الأثر صدرت مجموعة من التشريعات الرئيسة كان لها اكبر الأثر في توطيد أسس البناء الحضاري والاقتصادي والاجتماعي في البلاد ، وهي من الكثرة والشمول بحيث يتعذر حصرها في هذا البحث ، لذلك سنكتفي بالاشارة الى المهم منها :

1 – قوانين تنظيم القضاء واستقلاله ، والغاء القضاء الاجنبي .

2 – قانون المرافعات المدنية والتجارية ، قانون العقوبات ، قانون الاجراءات الجزائية ، قانون التجارة والقانون البحري ، قانون السير ولائحته التنفيذية ، قانون الشركات التجارية ، قانون تنظيم العلاقات ذات العنصر الاجنبي ، قانون تنظيم الالتزامات الناشئة عن العمل غير المشروع ، قانون التأمينات العينية ، وقانون بنك الائتمان .

3 – قانون انشاء دائرة الفتوى والتشريع .

4 – قانون الجنسية وجوازات السفر واقامة الاجانب .

5 – قانون العمل في القطاعين الأهلي والحكومي .

6 – قانون الوظائف المدنية وقانون المعاشات ومكافآت التقاعد وقانون انشاء ديوان الموظفين .

7 – قانون مجلس الانشاء .

8 – قوانين مزاولة المهن الطبية والمؤسسات العلاجية والصيدليات والنظارات الطبية .

9 – قانون النقد الكويتي وقانون العلم الوطني .

10 – قانون انشاء الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية.

إن هذه القوانين ، وغيرها من القوانين التي فاتنا ان نشير اليها ، قد صدرت بعد دراسة جادة عميقة . وهي اذا كانت قد أخذت بالاعتبار ظروف المجتمع الكويتي ، الا انها ، في روحها ، تنسجم مع متطلبات العصر ، وتتفق مع أحدث ما وصل اليه التشريع في الدول العربية المتقدمة ودول العالم أجمع . ولعل أهم ما توج به المشرع هامته ، خلال هذه الفترة من تاريخ الكويت ، هو الدستور الموقت والجمعية التأسيسية . وبانشاء هاتين الدعامتين ، يكون المشرع قد بذل خلاصة جهده ، وعهد الى الشعب الكويتي بامانة لا نشك في جدارته على صيانتها من العبث والطيش .