تشريعات العمل في البلاد العربية (1)

المحاميان جوزف مغيزل وصلاح مصطفى الدباغ

نشر المقال في تموز / يوليو 1962 ، العدد الواحد والعشرون ، الرائد العربي

إن تشريعات العمل ، بمعناها الحديث ، هي وليدة التطورات الاجتماعية والاقتصادية البعيدة المدى التي نتجت عن الثورة الصناعية . فتنظيم الانتاج على النطاق الواسع الذي تلا الثورة الصناعية شل نظام الصناعات اليدوية الصغيرة وفرق ، بالتالي ، بين العامل وبين ملكية وسائل الانتاج . فبينما كان العامل هو رب عمله بتملكه وسائل انتاجه في نظام الحرف الذي سبق الثورة الصناعية أصبح عشية هذه الثورة لا يملك من وسائل الانتاج سوى عمله ، وأصبح عليه ان يسعى لايجاد عمل لدى ارباب العمل الذين يمتلكون وسائل الانتاج .

هذه التطورات في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تلت الثورة الصناعية كان لا بد لها من ان تؤدي الى تطورات مماثلة في النظريات الاجتماعية- الاقتصادية . ففي بدء الثورة الصناعية كانت نظرية الحرية الاقتصادية المطلقة هي النظرية السائدة في المجتمعات الغربية . فحرية العامل يجب ان تكون مطلقة في اختيار العمل الذي يريد ، وحرية رب العمل يجب ان تصان كذلك في اختيار العامل الذي يريد (1) .

وقد استتبعت نظرية الحرية المطلقة مبدأ حرية التعاقد المطلق . فشروط عقد العمل وظروف العمل يجب ان تناقش بحرية تامة بين العامل ورب العمل  وليس للدولة ان تتدخل فيها او تتعرض اليها فيما يتعلق بالحفاظ  على الانتظام العام . هذه الحرية المطلقة ، اذا تركت على اطلاقها من دون اي تقييدات من الدولة تؤدي الى قيام تكافوء وتوازن بين العامل ورب العمل . ولأجل الحفاظ على مبدأ حرية التعاقد التام ، منعت التشريعات الغربية الصادرة آنذاك التجمعات العمالية الرامية الى تحسين احوال العمال او الى زيادة اجورهم ، معتبرة هذه التجمعات ماسة بمبدأ حرية التعاقد المطلقة . ففي بريطانيا اعتبر تجمع العمال الرامي الى زيادة الاجور منذ عام 1548 جرماً يقع تحت طائلة القانون الجزائي . وسنت فرنسا تشريعات عديدة منذ الثورة الفرنسية اعتبرت بموجبها تجمعات العمال جرائم جزائية كذلك . 

إلا ان الحرية المطلقة ، بعد ان توسعت حركة التصنيع واشتدت ، أخلت بميزان التكافوء بين العامل ورب العمل وأخضعت شروط العمل لمتطلبات السوق واحكام العرض والطلب ، وأضحت بالتالي حرية ذات طرف واحد : حرية لاصحاب العمل على حساب العمال . فتاريخ العمل في البلدان الغربية ، حتى الربع الاخير من القرن التاسع عشر ، مليء بالشواهد الحية على الاحوال المزرية التي كان يعيش يها العمال ، والتي اتصفت بالشقاء والبؤس والارهاق والادقاع.  وكان من نتيجة ذلك الوضع ان قامت حركات اشتراكية عديدة ، بين معتدلة ومتطرفة ، نادت كلها بتحسين اوضاع العمال وتغيير نظام العمل (2) .   

بعد ان اختل التوازن القائم بين طرفي عقد العمل اختلالاً بيناً وكبيراً ، وبعد ان قوي ساعد الحركات الاشتراكية، أصبح لا بد للدولة من التدخل لازالة شيء من هذا الاختلال . عندها صدرت تشريعات عديدة مختلفة منذ سنة 1802 في بريطانبا كان أهمها قانون التجمع في سنة 1824 Combination Act  وفي المانيا منذ سنة 1839 وفي فرنسا في السنوات 1841 و 1848 و 1893 التي نظمت طرق تشغيل الاحداث، كما حددت ساعات العمل بعشر ساعات في باريس وباحدى عشرة ساعة في المناطق الاخرى . وظهر كذلك تيار مماثل لحماية العمال في الولايات المتحدة الاميركية . ومع انه لم يصدر أي تشريع فدرالي اميركي يرمي لحماية العمال طيلة القرن التاسع عشر ، الا ان اجتهادات المحاكم الاميركية اخذت منذ حوالى منتصف ذلك القرن تميل اكثر فاكثر الى المحافظة على مصالح العمال . ومن هذه الاجتهادات ، الحكم الصادر من المحكمة العليا في ولاية ماساتشوستس سنة 1842 ، والذي يعتبر تجمعات العمال للحصول على شروط افضل للعمل ، جرماً يقع تحت طائلة قانون الجزاء . وقد تطابق هذا الحكم مع اجتهادات كانت قد صدرت من المحاكم من قبل.  

لم توفركل هذه التشريعات الحماية اللازمة للعمال ، إذ اكتفت بتنظيم امور ثانوية ،  فكان لا بد من تدخل جديد للدولة زيادة في حماية الفئات العاملة ، فصدرت في دول اوروبا الغربية دفعات عديدة من تشريعات العمل ، ربما كان أهمها تلك المتعلقة بتأسيس انظمة للتأمينات الاجتماعية . وكانت المانيا السباقة في هذا المجال ، فاصدرت دفعة من القوانين المنظمة للعمل في سنة 1883 وسنة 1884 وسنة 1889 . وصدرت تشريعات مماثلة في فرنسا في سنة 1885 وسنة 1894 وسنة 1905 ، وفي بريطانيا في سنتي 1908 و 1911 . 

في مطلع القرن العشرين لم تعد الحكومات تهدف من وراء سن التشريعات العمالية حماية العمال فحسب ، بحيث لا يعتبرون سلعة كباقي السلع ، تقرر اثمانها وشروط استخدامها حركة السوق وفقاً لمتطلبات العرض والطلب ، بل أصبحت تهدف كذلك الى تحقيق غايات اقتصادية واجتماعية وسياسية بعيدة المدى . هكذا برزت اهمية تشريعات العمل على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للدولة . فمن الناحية الاقتصادية برز توجه يعتمد المبدأ القائل بانه اذا صح ان اجر العامل يتوقف على كفاءته الانتاجية وفقاً لنظرية الحرية للانتاج ، من الصحيح كذلك ان انتاجية العامل بدورها تتوقف على مقدار الاجر الذي يتقاضاه ، وعلى حالته النفسية واوضاع العمل ومدى اطمئنانه الى مستقبله . وعدا عن ذلك فان سياسة رفع اجور العمال قد يكون لها أثر كبير على مستوى العمالة ، إذ انها تزيد قوة العمال الشرائية ، مما يؤدي الى زيادة في الاستهلاك ، ومن ثم الى زيادة الانتاج وزيادة المستخدمين والعمال وهكذا دواليك . ومن جهة اخرى ، فان سياسة رفع مستوى الاجور لها اثر على زيادة كلفة المشروعات ، مما قد يؤدي الى زيادة في الاسعار التي بدورها قد تؤدي الى زيادة في مستوى الاجور وهكذا دواليك الى ان تصل الى درجة التضخم . اما على الصعيدين الاجتماعي والسياسي ، فان التشريعات المتعلقة بتنظيم العمل تساعد في تخفيف الفوارق بين الطبقات واحلال الوئام والتعاون فيما بينها ،  بدل الصراع والتشاحن .  

تشريعات العمل في البلاد العربية  

اذا انتقلنا من تشريعات العمل في العالم الغربي الى تلك القائمة في البلدان العربية لوجدنا هذه الاخيرة حديثة العهد . وهذا امر طبيعي . فتشريعات العمل هي وليدة حركة الانماء الاقتصادي بوجه عام ، وحركة التصنيع بوجه خاص . وحركة التصنيع حركة جديدة نسبياً في البلدان العربية. ولم تنل الدول العربية قسطاً متساوياً من التصنيع ، فبعضها أصاب من التصنيع قسطاً لم يبلغه بعضها الآخر ، كما ان حركة التصنيع ابتدأت في بعضها قبل البعض الآخر . ومن الطبيعي نتيجة لذلك ان نجد تبايناً في تواريخ صدور تشريعات العمل في البلاد العربية . فقد ظهر اول تشريع للعمل سنة 1909 في مصر ، في حين لم تسن اي تشريعات عمالية في الاردن قبل سنة 1953 عند صدور قانون نقابات العمال . اما اليمن فما زالت بعيدة عن كل ضروب التشريع . ولا تختلف قوانين العمل في البلدان العربية من حيث تواريخ صدورها فحسب ، بل تختلف كذلك من حيث نصوصها الاساسية . ومرد هذا الاختلاف الى تباين اوضاع العمال في البلاد العربية وتباين سياسات الحكومات العربية تجاه العمل والعمال .  

إن البلدان العربية التي سنتناول تشريعاتها في هذا البحث هي : الاردن ، مصر، سوريا ، العراق، الكويت، لبنان والمملكة العربية السّعودية. وان أهم القوانين الصادرة المنظمة لشؤون العمل هي :  

1 – قانون العمل الموقت رقم 21 لسنة 1960 في الاردن.

2 – قانون العمل الموحد رقم 91 لسنة 1959 وقانون التأمينات في مصر وسوريا .

3 – قانون العمل رقم 1 لسنة 1958 في العراق .

4 – قانون العمل في القطاع الاهلي الصادر بتاريخ 2 آذار / مارس سنة 1959 في الكويت .

5 – قانون العمل الصادر بتاريخ 23 ايلول / سبتمبر 1946 والمرسوم الاشتراعي عدد 25 الصادر في 4 ايار / مايو سنة 1943 والمتعلق بطواريء العمل في لبنان .

6 – نظام العمل والعمال في المملكة العربية السّعودية الصادر سنة 1947 .

وسنتناول نصوص هذه القوانين بشكل مقارن فيما يتعلق بالامور التالية : مدة العمل القصوى ، الراحة الاسبوعية ، الاجازة السنوية ، الاجازة المرضية ، عقد العمل او الاستخدام ، تعويض الصرف من الخدمة ، التعويض لمخاطر المهنة ، التأمينات الاجتماعية ، النقابات العمالية ، حق الاضراب ، الخلافات والمنازعات بين العمال وارباب العمل ووسائل حلها . وسيقتصر البحث على قسم من هذه الامور . ولعل افضل طريقة لمقابلة هذه النصوص بعضها ببعض يكون من خلال الجدول التالي :

بعض احكام تشريعات العمل في البلاد العربية

 

                                الاردن          مصر وسوريا              العراق          الكويت                 لبنان               المملكة العربية السعودية

 

مدة العمل الاسبوعية       48 ساعة      48 ساعة                 48 ساعة       48 ساعة          48 ساعة                           48 ساعة

                        مع استثناءات        مع استثناءات                مع استثناءات   مع استثناءات      مع استثناءات                   مع استثناءات                     

 الراحة الاسبوعية      24 ساعة          24 ساعة                  24 ساعة       24 ساعة          24 ساعة                   24 ساعة                  

 

الاجازة السنوية       21 يوماً         14 يوماً بعد سنة              12 يوماً    14 يوماً بعد سنة       15 يوماً                    10 ايام        باجر كامل                                                                                            

الاجازة المرضية                            شهر ونصف ب              16 يوماً     30 يوماً             تتراوح باجر           15 يوماً باجر

                                                70 % من الاجر                            السنة الاولى        من شهر الى         

                                                                                                باجر كامل تتدرج  الى شهرين ونصف  

                                                                                                الى لا اجر            حسب سني الخدمة

 الاجر الادنى                        يحدد بمرسوم    يحدد بقرار وزاري                تقرره هيئة                          تحدده لجان خاصة

السن الادنى                  13 سنة      12 سنة                      12 سنة      12 سنة             8 سنوات              10 سنوات

تشغيل المساء ليلاً          محظور       محظور                       محظور       محظور             محظور

اجازة الوضع                42 يوماً      50 يوماً                      42 يوماً      70 يوماً            40 يوماً

لا بد لنا من ابداء الملاحظات التالية حول الجدول اعلاه :

اولاً : ان قوانين العمل المذكورة تشمل جميع العمال ، أي الاشخاص الذين يقومون بتأدية عمل مقابل ، باستثناء الفئات التالية :  

1 – موظفو الحكومة والمؤسسات العامة .

2 – خدم المنازل ومن في حكمهم .

3 – العمال الزراعيون الا في الكويت والمملكة العربية السعودية .

4 – افراد العائلة الذين يعملون في مشاريع العائلة في الاردن والعراق والكويت ولبنان

5 – عمال المحلات الصغيرة التي لا تدار بآلات ميكانيكية وتستخدم اقل من خمسة عمال في كل من الكويت والعراق .

ثانياً : ان الاحكام الواردة في الجدول ، وان اختلفت في بعض تفاصيلها ، الا ان المباديء القائمة وراءها هي واحدة . كل التشريعات تنص على وجوب تحديد ساعات العمل وتحديد حد ادنى للاجور وعلى اعطاء العمال حقاً في اجازة سنوية وعلى حماية تشغيل الاحداث والنساء ، باستثناء تشريعات المملكة العربية السعودية فيما يتعلق بتشغيل النساء ، وعلى توفير شروط للمحافظة على سلامة وصحة العمال وراحتهم . وان الائتلاف في المبادىء العامة فيما يتعلق بهذه الامور يساعد في توحيد النصوص في تشريعات البلاد العربية . 

ثالثاً : ان امر حماية العمال والمحافظة على حقوقهم لا يمكن صياغة التشريعات التي تنص على ذلك فحسب ، بل يتعدى ذلك الى عالم الواقع ودنيا التطبيق . وكثيراً ما نجد في البلاد العربية ان الواقع يغاير القانون ، خاصة في ما يتعلق بقوانين العمل . فالنصوص المتعلقة بتحديد الحد الادنى للاجور وبخطر تشغيل الاحداث دون سن معين ، كثيراً ما تبقى نصوصاً على الورق ويعوزها التطبيق . إن هذا التباين بين النصوص وبين ما يجري في الواقع لا ينطبق على الامور التي أوردناها في الجدول ، بل يتعداها الى امور عمالية اخرى سنفصلها في مقال قادم ( العدد الثالث والعشرون من مجلة الرائد العربي ) .           

_____________________________________________

(1)        انعكست هذه النظرية في تشريعات غربية عديدة ، منها قانون 2 آذار / مارس الصادر سنة 1791 في فرنسا الذي نص في مادته السابعة على ان لكل شخص الحرية في ان يتخذ اية تجارة او مهنة حرة او حرفة كما يرى مناسباً .

(2) لعل افضل ما كتب في وصف هذه الاوضاع كتاب فيليرمي الصادر في باريس سنة 1840 حيث يذكر المؤلف ان ساعات العمل للاحداث كانت تتراوح بين 15 و 16 ساعة في اليوم .