تشريعات العمل في البلاد العربية (2)

يعد هذا الركن ويشرف على تحريره المحاميان جوزف مغيزل وصلاح مصطفى الدباغ  

نشرالمقال في ايلول / سبتمبر 1962 ، العدد الثالث والعشرون ، الرائد العربي  

في مقال سابق ( في العدد الواحد والعشرين ) تناولنا بالبحث المقارن بعض نصوص تشريعات العمل في البلاد العربية المتعلقة بمدة العمل الاسبوعية والسنوية ، وبالاجر الادنى وبتشغيل النساء والاحداث وما الى ذلك ، وسنتابع في هذا البحث الدراسة المقارنة ، مقتصرين على النصوص المتعلقة بالتأمينات الاجتماعية ، موضحين أوجه الاختلاف فيها والائتلاف وشارحين أهمية التأمينات الاجتماعية بالنسبة للبلدان العربية ومبينين المدى الذي يمكننا التوسع في تطبيقها.  الا انه قبل البدء في هذا او ذاك ، لا بد من كلمة موجزة حول ماهية الضمان الاجتماعي وأصول نشأته . 

مقدمة  

تتعرض حياة العامل والموظف في نظام الانتاج الحديث لطواريء عديدة قد تقعده عن العمل ، اما بصورة موقتة او بصورة دائمة ، فتضطرب حياته وحياة من يعيل ويصيبه ، كما يصيب العائلة ، العوز والحاجة . ومن هذه الطواريء الاصابات الناتجة عن العمل او اثناء القيام به ، وهي كثيرة في نظام الانتاج الآلي المعقد ، ومنها الامراض الناجمة عن العمل في بعض الصناعات ، كمرض الرئة الذي كثيراً ما يصيب عمال صناعات التعدين، ومنها كذلك البطالة التي قد تأتي بفعل فصل رب العمل لعامله او عماله فصلاً تعسفياً من دون تعويض، او بفعل النظام الاقتصادي الحديث حيث لا يلبي الانتاج الطلب المتزايد الفعلي الحالي او المتوقع والمرتقب فتتبدل اسس الانتاج وتحل الآلة محل الانسان ، او بفعل تبدل طلبات المستهلكين بسرعة فتتغير بفعل هذا الطلب التقنيات وطرق الانتاج وتستوجب استبدال قدامى العاملين بآخرين مؤهلين للعمل وفق التقنيات الحديثة وشروط العمل الأكثر تعقيداً . والبطالة هذه في النظام الاقتصادي الحديث على انواع . فمنها بطالة موسمية او دورية او تقنية ، ومنها الهيكلية الدائمة . من هنا نشأت الحاجة لتأمين العامل ضد هذه الطوارئ ، وبالتالي لضمان حد أدنى له من الدخل الثابت الذي لا يتغير مهما حل به من طوارئ ومهما أصابه من احداث واضرار جسدية او نفسية . 

نشأ أول نظام للتأمين الاجتماعي في المانيا ، وقد أصدره بسمارك لكسب تأييد العمال . فكان ان صدر تشريع في سنة 1883 قضى بالتأمين على العمال ضد الامراض المهنية . وصدر في سنة 1884 تشريع آخر قضى بتأمين العمال ضد إصابات العمل . وفي سنة 1889 صدرتشريع التأمين ضد الشيخوخة . وفي انكلترا ، بدء العمل بالتأمين الاجتماعي سنة 1911 عندما صدر قانون التأمين الصحي للعمال ، وبصدور قانون التأمين ضد البطالة بعد ذلك بسنة واحدة . وفي ابان الحرب العالمية الثانية تألفت في بريطانيا لجنة يرئاسة السير وليم بفردج وضعت تقريراً شهيراً عرف فيما بعد باسم " تقرير بفردج " احتوى على خطة شاملة للتأمينات الاجتماعية . وقد أخذت الحكومة البريطانية في اعقاب الحرب العالمية الثانية بكثير مما جاء في هذا التقرير ، كما قامت حكومة العمال سنة 1946 بتأميم الطب . وفي الولايات المتحدة أصدرت الحكومة الفدرالية  بعد اشتداد وطأة الكساد الاقتصادي ، تشريعاً سنة 1935 كفلت بموجبه معاشاً تقاعدياً للزوج والاولاد في حال وفاة المعيل ، كما أعطت الحكومة الفدرالية تعويضاً للعمال العاطلين عن العمل واعانات لبعض المحتاجين ، كالمقعدين والمكفوفين وغيرهم . 

البلدان العربية حديثة العهد بالتشريعات التأمينية للعمال . ولعل اول تشريع حقيقي في هذا المحال هو القانون المصري رقم 419 العائد لسنة 1955 المتعلق بانشاء صندوق للتأمين وآخر للادخار للعمال ، والقانون رقم 202 لسنة 1958 المتعلق بالتعويض عن اصابات العمل وامراض المهنة  ثم القانون رقم 92 الصادر في 7 نيسان / ابريل 1959 المسمى بقانون التأمينات الاجتماعية الموحد الذي ألغى القانونين السابقين ، والذي طبق في الجمهورية العربية المتحدة في اقليميها الشمالي والجنوبي . ثم جاء قانون الضمان الاجتماعي العراقي الذي حمل الرقم 27 لسنة 1956  فقانون التأمين الاجتماعي الليبي رقم 53 لسنة 1957 ، وهو قانون نموذجي وضع بمساعدة خبراء منظمة العمل الدولية . وفي لبنان هناك مشروع للضمان الاجتماعي أعدته منذ مدة وزارة الشؤون الاجتماعية ، ولا يزال قيد الدرس . وفي ما عدا هذه التشريعات ، فان تشريعات العمل العربية المختلفة تحتوي على بعض النصوص التي تؤمن شيئاً من التعويض للعامل المصاب بطاريء عمل او بمرض مهني ، او للذي يفصله رب العمل دونما خطأ ارتكبه . وهذا ما سنفصله يما يلي . 

تأمينات العمال المختلفة  

1 – اصابات العمال وامراض المهنة  

إن إصابات العمل هي تلك الناشئة عن العمل او اثنائه والتي تؤدي الى تعطيل العامل المصاب بصورة دائمة او موقتة او تؤدي الى وفاته . وهي تختلف عن الامراض المهنية لكونها تنشأ عن حادث مفاجئ ، بينما تنتج الامراض المهنية اثناء ممارسة نوع من العمل لمدة معينة ، كمرض التسمم الناتج عن التعرض لبعض المواد الكيماوية لمدة طويلة . وكانت مسؤولية رب العمل في التعويض عن اصابة عماله مسؤولية تقصيرية مبنية على الخطأ . وكان اثبات خطأ رب العمل شرطاً لتوجب التعويض ، إلا ان أساليب الصناعة الحديثة جعل من الصعوبة بمكان اثبات خطأ رب العمل . وهكذا ، كثيراً ما كان يفقد العامل حقه في التعويض لعدم تمكنه من اثبات خطأ رب العمل . وكان هذا الوضع المجحف للعمال من اهم العوامل التي أدت الى تطوير فكرة مسؤولية رب العمل عن اصابات عماله بسبب العمل او اثنائه . وأضحت هذه المسؤولية في الربع الاخير من القرن التاسع عشر مسؤولية موضوعية مبنية على المخاطر وليست على الخطأ ، وبات على رب العمل ان بعوض عن الاصابات التي تصيب عماله ، حتى ولو لم يرتكب ادنى خطأ او اهمال ، ذلك ان رب العمل هو الذي يجني الربح من مشروعه فعليه ، بالتالي ، ان يتحمل التبعة الناشئة عن المخاطر التي قد تلحق بالعمال . وهكذا  نشأ المبدأ القائل : " حيثما يوجد الربح توجد المسؤولية " ، او بتعبير آخر " حيثما يوجد الغنم يكون الغرم " (1) . ولعل أهم القوانين التي أخذت بمسؤولية رب العمل الموضوعية في التعويض عن اصابات العمل القانون الفرنسي الصادر في 9 نيسان / ابريل 1898 والذي سار على نهجه قانون طواريء العمل اللبناني من خلال المرسوم الاشتراعي رقم 25 الصادر في 4 ايار / مايو 1943 . 

تبنت تشريعات الدول العربية المشمولة بهذا البحث نظرية المسؤولية الموضوعية في التعويض عن اصابات العمل وامراض المهنة ما عدا الكويت التي اشترطت ، من حيث المبدأ ، وجوب اثبات مسؤولية رب العمل التقصيرية من اجل ان يتوجب التعويض ( المادة 66 من قانون العمل في القطاع الاهلي ) . وتميز التشريعات العربية اربع حالات قد تنتج عن اصابة العمل هي : حالة العجز الموقت (2)  وهي الحالة التي لا يستطيع العامل يها من الاستمرار في عمله لمدة تزيد عن ثلاثة ايام ولكنه يشفى بعدها ، وحالة العجز الدائم الجزئي وهي الحالة التي يفقد فيها العامل جزءاً من قواه بشكل دائم ، وحالة العجز الدائم الكلي وحالة الوفاة . ويبنى التعويض على اساس الاجر الذي كان يتقاضاه المصاب قبل الاصابة ، وهو يختلف باختلاف الحالات التي تؤدي اليها الاصابة . ان تفصيل ذلك مثبتة في جدول التأمينات الاجتماعية في البلاد العربية ادناه . 

2 – المرض العادي ، العجز ، الشيخوخة ، وفاة المعيل  

نصت قوانين التأمين في كل من الجمهورية العربية المتحدة وسوريا وليبيا والعراق على التعويض عن هذه الحالات ، باستثناء حالة المرض العادي التي لم يشملها قانون التأمينات الاجتماعية الموحدة في كل من القطرين . وان أضيق هذه القوانين من حيث التطبيق هو القانون العراقي . فهو لا يشمل الا العمال لدى المؤسسات التي تستخدم ثلاثين عاملاً فأكثر في كل من ألوية بغداد والبصرة والحلة وكركوك والموصل . وهو ، عدا عن ذلك ، لا يؤمن للعامل المؤمن عليه معاشاً شهرياً كما هي الحال في الجمهورية العربية المتحدة وليبيا ، بل يكتفي باعطائه تعويضاً مقطوعاً . اما السن التي يستحق فيها معاش الشيخوخة فهي الستون في كل من الجمهورية العربية المتحدة وسوريا وليبيا للرجل والمرأة على السواء . اما في العراق فهي الستون للرجل والخمسون للمرأة . وتمول المساعدات المستحقة في حالات العجز والشيخوخة ووفاة المعيل في الجمهورية العربية المتحدة وسوريا وليبيا عن طريق اشتراكات يسددها ارباب العمل والعمال . ففي الجمهورية العربية المتحدة وفي سوريا يسهم ارباب العمل بمبلغ يساوي 14 بالمئة من اجور العمال ويسهم العمال بمبلغ 7 بالمئة من اجورهم . اما في العراق فارباب العمل والعمال يشتركون جميعاً في عملية التمويل . ولا بد هنا ، من الملاحظة ان قانون التأمينات الاجتماعية الموحد لم يطبق في كل من سوريا ومصر في وقت واحد . بينما يسري مفعوله من اول آب / اغسطس عام 1959 على كل المؤسسات في مصر ، الا انه لم يطبق في سوريا الا تدريجياً ، وذلك لعدم وجود تشريعات سابقة في سوريا على عكس مصر . لذلك طبق القانون ابتداء من اول آب / اغسطس 1959 على المؤسسات التي تستخدم اكثر من خمسين عاملاً والتي مركزها الرئيس في مدينة دمشق ، وابتداء من اول ايلول / سبتمبر 1959 على المؤسسات المسجلة والعاملة في مدينة حلب ، ثم من اول تشرين الاول / اكتوبر على تلك المؤسسات العاملة في حمص وحماة واللاذقية . واستمر هذا التطبيق التدريجي حتى صدور القرار رقم 29 بتاريخ 15 آب / اغسطس 1961 الذي نص على وجوب سريان قانون التأمينات الاجتماعية على كل المنشآت والمؤسسات وجميع اصحاب المهن غير التجارية اذا كانوا يستخدمون عادة اقل من خمسة عمال . 

3 – البطالة  

نصت تشريعات العمل في أكثر البلدان العربية على اعطاء العامل مكافأة مالية عندما يصرفه رب العمل . وتحسب هذه المكافأة وفقاً للاجر الذي كان يتقاضاه العامل إلا في بعض الحالات الاستثنائية التي حددتها ، بوجه محصور ، النشريعات المذكورة ، كأن يعتدي الاجير على رب العمل او يرتكب خطأ مقصوداً يلحق ضرراً بمصلحة العمل او يخالف النظام الداخلي للمؤسسة أكثر من مرة . أما التأمين ضد البطالة فلم ينص عليه الا في القانون الليبي وفي قانون الضمان العراقي . غير ان نطاق هذا التأمين في القانون العراقي ، كسائر التأمينات الاخرى ، ضيق جداً . فهو لا يتعدى عمال المؤسسات التي تستخدم أكثر من ثلاثين شخصاً في ألوية بغداد والبصرة وكركوك والموصل .  

ضرورة التأمينات الاجتماعية  

لا تفتقر الدول العربية ، باستثناء الجمهورية العربية المتحدة وليبيا ، الى تشريعات شاملة للتأمينات الاجتماعية . وفي ذلك نقص يجب العمل على تداركه بسرعة . فهدف كل مجتمع ومحور كل سياسة يجب ان يقوم على تقدم المواطن وتحسين اوضاعه وتحقيق رفاهه وتفتحه واطمئنانه . ولا تقدم ولا رفاه مع البطالة ، ولا إطمئنان ولا تفتح مع القلق والخوف الدائم بما يخبئه الغد ! . ولا شك ان سن تشريعات جديدة او توسيع التشريعات القائمة وتحسينها يصطدم بعقبات كثيرة لعل أهمها عقبة التمويل . فلا بد للدولة من المساهمة مساهمة فعالة في اي مشروع واسع النطاق للضمان الاجتماعي . وان ضآلة موارد الدولة في البلدان المتخلفة اقتصادياً ومنها الدول العربية ، تشكل عقية أكيدة تعترض سبيل تحقيق أنظمة شاملة للضمان الاجتماعي ، خصوصاً وان نفقات المشاريع الانتاجية واعباء التسلح والدفاع تستنزف قسطاً كبيراً من ميزانيات الدول العربية في الوقت الحاضر . ولا شك من ضرورة اعطاء الأولوية لمتطلبات التسلح وزيادة الانتاج ، ولوعلى حساب تحقيق شيء من العدالة الاجتماعية التي يكفلها نظام الضمان الاجتماعي . لكنه من الضروري ان لا يغرب عن البال ان مشاريع الضمان الاجتماعي ليست ضرورة من ضرورات العدالة الاجتماعية فحسب ، بل هي ضرورة من ضرورات رفع الانتاج وزيادته . فالثروة الاقتصادية لا تتحقق في اي دولة الا في إغناء ثروتها الانتاجية التي تتحقق ، بدورها ، عن طريق ابنائها . وما مشاريع الضمان الاجتماعي ، في نهاية المطاف ، الا احد العوامل الرئيسة التي تحقق العدالة الاجتماعية وتثبت أسس التوازن في المجتمع القائم على اكتاف الرأسمال البشري الذي يؤلف المجتمع . فان كان المجتمع هذا شديد الاطمئنان الى يومه وغده ، فانه يتفانى في عمله ولا يتردد في رفع طاقاته الانتاجية ، ويقدم بذلك خدمة لا تقاس بثمن او كلفة لابناء وطنه وشعبه .  

إن تحقيق خطط واسعة ومدروسة للضمان الاجتماعي تؤمن الترابط بين طبقات المجتمع وفئاته ، وبالتالي الى تماسكه ووحدته . ومما لا شك فيه أن أسلم المجتمعات هي أكثرها تماسكاً . وهذا مبعث الايمان بضرورة قيام المجتمع القومي لأن الروابط القومية هي أقوى الروابط التي تحقق التماسك المنشود . وفي تحقيق الضمان الاجتماعي الشامل ، كأي اجراء اشتراكي آخر ، تغذية حقيقية لتماسك المجتمع القومي وتمكيناً لوحدته ومنعته . فالاجراءات الاشتراكية دعامة وأساس وغذاء دائم لوحدة المجتمع القومي .

التأمينات الاجتماعية في البلدان العربية

 

الاردن      ج.ع.م.                   العراق      الكويت                السعودية      لبنان           ليبيا        سوريا

 اصابات    تعويض مقطوع        معاش مع     تعويض مقطوع     تعويض مقطوع  ------            تعويض   معاش مع

العمل      مع نفقات طبابة        نفقات طبابة   معالجة وتداوي     معالجة وتداوي   ------           مقطوع مع معالجة وتداوي                                                                                                       معالجة

امراض   تعويض مقطوع         معاش      تعويض مقطوع        ----------         -------          ------      ---------

المهنة    كالاصابات               كالاصابات  كالاصابات

البطالة   اجر شهر عن كل        اجر نصف اجر اسبوع عن        اجر نصف شهر  اجر نصف    شهر عن كل     --------

            سنة خدمة              شهر عن كل  كل سنة خدمة       عن كل سنة        شهر عن كل  سنة خدمة             

                                    سنة خدمة                                              سنة خدمة                      

نهاية     نصف شهر عن         اجر شهر     اجر اسبوعين      اجر شهر عن     شهر بعد 6  

الخدمة   كل سنة بعد 3           عن كل سنة  بعد 5 سنوات       كل سنة بعد        سنوات خدمة

            سنوات                       بعد 5 سنوات               5 سنوات

تأمين ضد  ------                  --------        إغاثة للبطالة       ---------           ---------       --------    -------

البطالة

الشيخوخة   ------                معاش       اغاثة الشبخوخة      ---------          -------           --------   معاش

العجز      ---------               معاش      اغاثة للعجز            --------          -------            --------   معاش

المرض     -------                -----       اغاثة مرضية             ---------                  --------           --------   معاش

وفاة العائل  ------                 معاش        اغاثة                --------           --------           --------- معاش

______________________________

(1)        من النظريات الطريفة التي استعملت لتبرير مسؤولية رب العمل الموضوعية في التعويض عن اصابات العمال وامراض المهنة تلك التي تقيس هذه الطواريء والامراض على استهلاك المكائن والآلات . فكما رب العمل يتحمل الضرر الناشيء عن استهلاك ادوات الانتاج ، كذلك عليه ان يتحمل مسؤولية الضرر الناتج عن " استهلاك " العمال وتقهقر صحتهم ومقدرتهم الانتاجية .

(2)        يستعمل القانون السعودي كلمة " اقعاد " بدلاً من " عجز " .