الذهب الاسود

اشرف لطفي

نشر المقال في تشرين الثاني / نوفمبر 1960 ، الرائد العربي ، العدد الاول

قبل الخوض في بحث مشكلة اعار النفط العربي، وهي المشكلة التي يتوقف عليها إيرادات حكوماته ، قد يحسن ان اعيد الى الاذهان وقائع مسرحية مثلت في شهر آب / اغسطس الماضي ، كان الخليج مسرحها ، وشركات الزيت الدولية ممثليها ، وساهمت حكومات الشرق الاوسط فيها بأن إحتلت  ، كالعادة ، المقاعد المخصصة للمتفرجين .

ففي العاشر من شهر آب / اغسطس الماضي اعلنت شركة إسو الاميركية التخفيضات التالية لسعر البرميل الواحد للنفط الخام المنتج في الخليج العربي : 9 سنتات لنفط الكويت ، أي من 1.67 دولار الى 1.58 دولار؛ 14 سنتا لنفط السعودية ، أي من 1.90 دولار الى 1.76 دولار ، ومثلها لنفط قطر أي من 1.05 دولار الى 1.91 دولار ؛ و12 سنتاً لنفط البصرة العراقي ، أي من 1.80 دولار الى 1.68 دولار ، ومثلها لنفط ايران ، أي من 1.86 دولار الى 1.74 دولار .

وفي الثاني عشر من الشهر ذاته ، أعلنت شركة النفط البريطانية تخفيضها لاسعار مصافي الخليج العربي ، وإبقائها اسعار النفط الخام من دون تغيير .

وفي الرابع عشر منه ، أعلنت شركة شل تخفيضها لاسعار المنتجات النفطية بمثل ما خفضتها اليه الشركة البريطانية ، وتخفيضها لاسعار النفط الخام بمثل مقادير شركة إسو .

وفي السادس عشر منه ، أعلنت شركة النفط البريطانية تخفيضها لاسعار النفط الخام في الخليج العربي بمقادير تقارب تخفيضات شركة إسو .

لم يقابل المتفرجون ، بطبيعة الحال ، هذه المسرحية بالتصفيق والهتاف ، إذ كلفتهم نقصاً في قيمة بترولهم يزيد على مئة مليون دولار سنوياً . وكانت قد عرضت على المتفرجين تمثيلية مماثلة في شباط / فبراير 1959 ، نتجت عنها خسارة أكبر لحكومات الشرق الاوسط . وما زال خطر عرض تمثيليات اخرى مماثلة في المستقبل يلوح في الافق .

كان هذا التخفيض متوقعاً على كل حال ، ليس لان الطلب على النفط قد قل عن السابق ، او لان هنالك اتجاهات نحو مصدر آخر للطاقة ، بل لان شركات النفط العالمية عرضت في السنوات السابقة مقادير من البترول تزيد كثيراً عن حاجة الاسواق اليها آملة من وراء ذلك منع الزيت الروسي من الوصول الى بعض الاسواق ، ومنافسة شركات النفط الصغيرة الناشئة ، من دون ان تفكر تلك الشركات الكبيرة او الصغيرة في حماية مصالح حكومات البترول التي تشاركها ارباحها ، او ان تعطي لتلك الحكومات فرصة لتقديم وجهات نظرها في موضوع هذا الصراع " المصطنع " .

كان من الممكن ان يتغير الموقف من اساسه ، لو إعترفت الشركات الكبرى بالحقيقة الواقعة ، وهي ان النفط الروسي موجود في بعض الاسواق ، ولا حيلة لها في بقائه او غيابه ، وان زيت الشركات الصغيرة يأخذ حصة ضئيلة من الاسواق ولا يستطيع ، في منافسته لزيت الشركات الكبرى ، أن يتجاوز حداً معيناً .

فمن المعروف ان لإزالة التخمة الزيتية من الاسواق اثره السريع والمتوقع على تحسين الاسعار ، كما يتبين من الجدول التالي حيث نلاحظ ان أسعار النفط بين سنتي 53 و 58 كانت في تزايد مستمر ، للسببين التاليين بصورة رئيسة :

                                معدل اسعار البرميل بالدولار لزيت الشرق الاوسط

                       1953    1954    1955    1956    1957    1958    1959    1960

السعودي              1.82 1.93     1.93     1.93     2.00     2.08     1.90     1.76

الايراني              -         1.91     1.91     1.91     1.98     2.04     2.86     1.74

العراقي             1.79    1.90     1.90     1.85     1.92     1.98     1.80     1.68

الكويتي             1.64    1.72     1.72     1.72     1.78     1.85     1.67     1.59

نلفت الى الملاحظات التالية :

1- بعد خروج الزيت الايراني من الاسواق بسبب تأميم صناعة النفط الايرانية ، إنخفض الانتاج العالمي من النفط حوالى 36 مليون طن سنوياً ، بسبب إغلاق آبار ايران . وكانت النتيجة زيادة الانتاج في البلدان الاخرى ، ورافقت هذه الزيادة في الانتاج زيادة طيبة في الاسعار .

2- بعد إغلاق قناة السويس سنة 1956 إنخفضت صادرات زيت الشرق الاوسط إنخفاضاً كبيراً ، نتج عنه ارتفاع مستمر في أسعاره .

ولو فرضنا أن أسباباً نشأت هذه السنة من شأنها أن تخفض صادرات الخليج العبير من النفط بمقدار 30 مليون طن سنوياً ، فإن رد الفعل سيكون حتماً ارتفاع اسعار زيت الخليج العربي . ولكن ما فعلته الشركات الكبرى هذه السنة كان ان زادت انتاجها من نفط الخليج العربي بمقدار 12 % عن السنة الماضية . وبدلاً من ان تبقي إنتاجها على معدله سنة 1959 ، او أن تزيده بالقدر المنتظر للزيادة في الطلب عليه ، وهي زيادة تبلغ حوالى 6 % او 7 % (1) ، فإنها أتخمت السوق بما يفيض عن حاجته ، مع انها كانت تعلم في الوقت نفسه ، بل وتتحدث في الصحف علناً ، معربة عن خوفها من مخاطر العرض الفائض على اسعار هذا الزيت.

السؤال الذي قد يتبادر الى الاذهان عند هذه المرحلة ، هو استغراب هذا التعمد من قبل الشركات في اتخاذ خطوات من شأنها أن تهدد الاسعار بالانخفاض ، في حين أن أرباحها ترتفع مع ارتفاع هذه الاسعار ، وان مصلحتها ، تبعاً لذلك ، هي في بذل الجهد لحماية الاسعار ورفعها . والواقع ان حماية الاسعار عن طريق الانتاج المتناسب مع الطلب على الزيت ، يكون في مصلحة الشركات حتماً ، لولا ان المخاوف تساور شركات النفط من الاعتبارات التالية :

1 – ان شركات الزيت صاحبة الامتيازات في الخليج العربي في خوف دائم من التأميم .

2 – عدم استقرار الاوضاع السياسية في الشرق الاوسط .

3 – ان امتيازات هذه الشركات مربوطة بفترات محددة ، وعند انقضاء مدة أي امتياز تعود ملكية الزيت والمنشأت الى الحكومة التي منحت ذلك الامتياز.

وقد يكون لهذه الاعتبارات أثر كبير في تكوين العقلية التي تتحكم في شركات الزيت العاملة في الخليج العربي، من حيث انها جعلت شركات النفط هذه تفكر في حجم الارباح التي تجنيها من البترول ، بدون اعتبار يذكر لحجم كميات الانتاج ، أي أن هذه الشركات يكفيها الآن ان تزيد في ارباحها السنوية 5 % مثلاً ، حتى ولو كانت هذه الزيادة في الارباح ناتجة عن عملية مماثلة لما يلي : زيادة في الانتاج بواقع 10 % ، ينقص منها تخفيض للاسعار بواقع 5 % . وهذا بالضبط ما تشكو منه حكومات البترول التي تنظر الى ارصدتها من البترول تحت سطح الارض ، نظرتها الى أرصدت مودوعة في المصارف ، سيحين الوقت الذي ستحتاجها فيه .

وقد كانت مشكلة هذه الاسعار وضرورة تلمس خير الطرق لمعالجتها ، سبباً رئيساً للاشارة اليها في اتفاقيتين اخيرتين عقدتهما الحكو متان السعودية والكويتية مع شركة النفط العربية ( اليابانية) . وتتضمن كل من هاتين الاتفاقيتين شرطاً قبلته الشركة المذكورة ، ينص على ان مسألة تحديد الاسعار المعلنة للبترول الذي تنتجه الشركة سيكون دائماً موضع التشاور والاتفاق بين الطرفين . وهذه ضمانة لكل من البلدين ، تسهم الى حد كبير في تثبيت الاسعار وحمايتها .

ولو أمكن ادخال مثل هذا الشرط في الاتفاقيات السابقة المعقودة بين حكومات الخليج العربي وشركات البترول الاخرى ، صاحبة الامتيازات فيه ، لكان من شأن تلك الاتفاقيات منع شركات النفط من اغراق الاسواق بكميات من البترول تفوق حاجة الاسواق اليها ، وبالتالي انخفاض الاسعار بسبب انتفاء الحاجة الى الكميات الاضافية الفائضة .

هذا بالضبط هو التفسير المنطقي لردود الفعل التي صدرت عن حكومات الخليج العربي وفنزويلا عند انعقاد اجتماع ممثليها في بغداد بدعوة من حكومة الجمهورية العراقية لبحث مشكلة الاسعار على ضوء التخفيضات التي تمت في شهر آب / اغسطس الماضي .

فقد كان من الضروري ، لتحقيق الغاية المرجوة من هذا الاجتماع ، أن يمثل فيه كل بلد يصدر البترول بكميات ذات تأثير على الاسواق العالمية . من هنا كان اشتراك كل من الكويت والمملكة العربية السعودية والعراق وايران وفنزويلا ، كما حضر ممثل عن حكومة قطر بصفة مراقب . فلو شذت ايران ، مثلاً ، عن التضامن مع الاقطار المذكورة الاخرى ، ورأت شركات الزيت في هذا الشذوذ ما يسمح لها ان تحصل على بترول ايران بسعر ارخص من اسعار الدول المتضامنة الاخرى ، فإن هذه الشركات ستركز على رفع انتاجها من البترول الايراني ، الامر الذي يعود بالضرر على البلدان المصدرة الاخرى . لكن الوضع في شكله الحالي ، لا يشير الى ان أياً من هذه البلدان سيرى اية فائدة له من التخلف عن زملائه من الدول الاخرى . لذا ، فمن المنتظر ان تواصل هذه الدول في تضامنها وعلى الوقوف جنباً الى جنب لجني ثمار هذا التضامن الذي سيسهم ، الى أكبر حد ، في حماية مصالحها ، وبالتالي حماية مصالح شركات النفط نفسها التي سيساعدها تثبيت الاسعار في زيادة ارباحها .

لعل من السهل ان نتصور ما سيحدث في الفترة التي تعقب هذا الاتفاق . فلو ان شركة " س" مثلاً وجدت نفسهل في حاجة الى تخفيض أسعارها او زيادتها ، فإن عليها ، بحسب الاتفاق المعقود مع حكومتها ، أن تعرض الامر على تلك الحكومة ، لأخذ رأيها ، وهذه الحكومة بدورها تدعو الى اجتماع عاجل يعقد بمشاركة ممثلين عن حكومات الاتفاق وتعرض عليهم طلب الشركة المذكورة وأسبابه . فاذا جاء قرار الممثلين سلباً ، فإن شركة "س" تضطر عندها الى ابقاء أسعارها من دون تعديل . واذا كان قرارهم بالايجاب فانه يصبح بامكان شركة "س" ان تخفض اسعارها او ترفعها . وبطبيعة الحال ، فإن الشركات الاخرى ستتخذ خطوات مماثلة . وبهذا ، فان الاسعار سترتفع اوتنخفض في جميع البلدان المصدرة للبترول .

إن مشكلة الاسعار تحتل مكان الصدارة بين مشاكل البترول الاخرى . ولكي يتمكن القارىء الكريم ان يتفهم أهميتها ، فمن المفيد ان يعرف ان هذه الارقام الصغيرة للتخفيضات خلال سنتي 1959 و 1960 ، كثماني سنتات او عشر سنتات او ثمانية عشر سنتاً للبرميل الواحد ، قد خفضت مداخيل حكومات الخليج العربي بما يزيد عن 220 مليون دولار سنوياً (2 )، يعود منها ما يزيد عن مئة وعشرة ملايين دولار لخزائن حكومات الشرق الاوسط التي تحتاج الى كل دولار منها لمشاريعها الاعمارية والصناعية والاقتصادية .

_______________________________________________________________ 

(1) – هذه التقديرات مأخوذة عن تنبؤات لعدد من شركات الزيت الكبرى ومؤسسات الزيت الاميركية التي درجت على إصدارها في أواخر كل سنة .

(2) – على أساس إقتسام الارباح بالتساوي بين الحكومة والشركة .