التكييف القانوني لامتيازات البترول

المحامي عبد المحسن ابو ميزر

نشر المقال في كانون الاول / ديسمبر 1960 ، العدد الثاني ، الرائد العربي

لا نرغب في هذه العجالة ان نتناول بالبحث والتمحيص ، التعليق على كل ما أوردته شركات النفط الاجنبية من أراء ووجهات نظر حول موضوع تخفيض اسعار النفط الخام ، والتي ظهرت خلال المناقشات التي جرت في مؤتمر البترول العربي الثاني الذي عقد مؤخراً في
بيروت . وانما سنقتصر التعليق بايجاز على تقييم الحجج والاسانيد القانونية التي تذرعت بها الشركات لتبرير شرعية ما أقدمت عليه ، تاركين الجوانب الاخرى الى أهل الاختصاص والمعرفة في هذا الموضوع .

إدعت شركات النفط وممثلوها في مؤتمر البترول العربي الثاني ان اجراء تخفيض اسعار النفط من دون الرجوع الى الحكومات والبلدان المصدرة إجراء قانوني للاسباب التالية :

1 – إن العقود المبرمة بين الشركات والحكومات المصدرة لا تتضمن نصوصاً صريحة تلزم الشركات بالاستشارة او الموافقة المسبقة ، ولا حتى بالموافقة اللاحقة . وعلى ذلك ، وما دامت الاتفاقيات لا تتضمن نصوصاً صريحة ملزمة بهذا الشأن ، فإن اجراء التخفيض لا يخالف تلك العقود ، وهو بالتالي اجراء شرعي وقانوني .

2 – تمسكت الشركات بنظرية " العقد شريعة المتعاقدين " ، أي ان العقد هو القانون الذي يحدد التزامات أطرافه ، ودافعت عن قدسية العقود وضرورة احترامها وعدم المساس بها . وقالت : " بما ان العقود المبرمة بين الشركات والحكومات لا تنص صراحة على وجوب أخذ موافقة الحكومات المصدرة قبل اجراء اي تعديل في اسعار النفط الخام ، فان حق التعديل قد انحصر في الشركات وحدها ولا معقب عليها في ذلك . وعليه ، فإن اجراء تخفيض الاسعار قانوني وشرعي " .

3 – أنكرت الشركات على الحكومات المصدرة حقها في تعديل او الغاء العقود القائمة ، او أضافة نصوص جديدة عليها ، واعتبرت ان اية محاولة من هذا القبيل هي انتهاك لحرمة "قدسية العقود " واجحاف بحقوق الشركات ... ونادت بأن أي تعديل لا يقترن بموافقة الشركات ، بعد مفاوضات معها ، لا يعتبر قانونياً .

هذه هي الحجج والاراء التي استندت اليها الشركات في دفاعها عن موقفها من اجراء تخفيض الاسعار من دون موافقة الحكومات صاحبة الشأن . وهي الحجج والاراء نفسها التي تستند اليها في تكييفها القانوني للاتفاقيات المعقودة بينها وبين حكومات البلدان المنتجة والمصدرة للنفط .

فما مدى انسجام هذه الاراء والاسانيد مع المبادىء القانونية السليمة ؟ .

قبل الخوض في الاجابة على هذا السؤال ، يجدر بنا ان نوضح ، بادىء ذي بدء ، التكييف القانوني ، أي الصفة القانونية للعقود ( اتفاقيات البترول ) القائمة بين الشركات والحكومات المصدرة . وعلى ضوء معرفة هذا التكييف تتضح لنا بجلاء القيمة الحقيقية للاراء والحجج التي استندت اليها الشركات .

إن العقود تختلف وتتنوع (1) تبعاً لاختلاف طبيعتها وأطرافها والقصد من إنشائها . ولكل نوع من العقود أحكام وقوانين خاصة تحكمها من حيث الانشاء والاثار وطرق الاثبات والتنفيذ والانقضاء . كما تتنوع وتختلف الاجراءات والجهات القضائية المختصة بفض النزاعات الناشئة عن هذه العقود تبعاً لنوعية العقد والقانون الذي يحدد أحكامه . وبعبارة اخرى ، يمكن تقسيم العقود من حيث القوانين التي تنظم أحكامها الى قسمين :

1 – عقود القانون الخاص . وهي التي يكون أطرافها أشخاصاً عاديين وتنشأ لتنظيم مصالح شخصية عادية ، كعقود البيع والايجار وغيرها من العقود التي تبرم بين الافراد . وهذه العقود تحكمها قواعد القانون الخاص (مدني ، تجاري ، دولي خاص) واجراءاته وتخضع لسلطة محاكمه .

2 – عقود القانون العام . وهي تقسم الى قسمين :

أ – عقود دولية ( كالمعاهدات والاتفاقيات والمواثيق ) . وهي التي يكون أطرافها من أشخاص الحق الدولي العام ( دول او مؤسسات دولية ) تنظم لانشاء نتائج حقوقية (2).وهذه العقود تحكمها قواعد القانون الدولي العام وأحكامه وتخضع لسلطة القضاء الدولي ( محكمة العدل الدولية ) .

ب – عقود إدارية ، وهي التي يكون احد أطرافها الدولة او مرفق عام ، والطرف الاخر شخص عادي او مرفق عام . وهي تنشأ لتحقيق منفعة عامة وتلبية حاجات عامة ، كعقد الالتزام وغيره من العقود الادارية . وهذه العقود تحكمها قواعد القانون الداخلي ( الاداري ) وتخضع لسلطة المحاكم الادارية .

والان ، لنرى أي نوع من العقود تلك القائمة بين شركات النفط الاجنبية العاملة في الاقطار العربية وحكومات تلك الاقطار . أي ما هي صفة هذه العقود ؟

إن نظرة سريعة الى تلك العقود توضح لنا ان هذه العقود ليست عقوداً مدنية عادية ، لا من حيث أطرافها ولا من حيث موضوعها ولا من حيث الغاية والقصد من إنشائها . وهي ليست عقوداً دولية لانها لم تنظم بين أشخاص الحق الدولي العام . فالشركات عبارة عن أشخاص اعتباريين عاديين وليست دولاً او مؤسسات دولية. إذن ، فالصفة السليمة لهذه العقود ( الاتفاقيات ) هي أنها عقود ادارية لا تخضع للقواعد التنفيذية المعروفة في القانون المدني ، لانها تنطوي على عنصر أهم من الجانب المالي في العقد ، هو عنصر المنفعة العامة او المصلحة العامة . هذا ، بالاضافة الى كون الدولة طرفاً في هذه العقود .

إن النفط ليس سلعة عادية ، بل انه يشكل العمود الفقري بالنسبة لحياة البلدان التي تمتلكه . وهو ذو تأثير كبير على حياة الاقطار العربية ، وعلى موارد هذه الاقطار يتوقف قيام معظم البلدان العربية بواجباتها ومسؤلياتها العامة . وفي نظرة خاطفة على ميزانيات الاقطار العربية المنتجة والمصدرة للنفط ، نرى مدى تأثير موارد البترول في بناء هذه الميزانيات ، والى حد كبير هذه الدول ..

نستطيع من خلال هذه الوقائع الواضحة معرفة السبب الذي من أجله تم عقد عقود البترول ، ومعرفة الابواب المتعلقة بالمصلحة العامة التي من المفروض ان تصرف موارد النفط المالية في سبيلها . لذلك ، وبعبارة أدق، يمكننا القول إن عقود البترول القائمة بين الشركات الاجنبية وحكومات الاقطار العربية المنتجة والمصدرة للنفط هي عقود " التزام " . وهذا هو التكييف القانوني لهذه العقود .

ما دام هذا هو حكم الواقع والقانون ، فإن قواعد القانون الاداري هي القواعد التي تحكم هذه العقود وتحدد طرق تنفيذها وانقضائها . وبالرجوع الى قواعد القانون الاداري نجد انها تخول مانح الالتزام ( الدولة في هذه الحالة ) حقوقاً تتسع وتضيق بحدود المصلحة العامة للشعب . فللدولة مانحة الالتزام الحق في تعديل شروط الالتزام او إلغائه ، اذا أقتضت المصلحة العامة ذلك . فللمصلحة العامة اولوية على اي اعتبار آخر ، وهي تتطور وتتغير بتطور وغبر المنفعة العامة والحاجات العامة ، وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالزمان والمكان . وعليه ، فللسلطة الادارية ، الدولة ، الحق في القاء اعباء جديدة على المتعاقد معها رغم عدم وجود نص عليها في العقد ، ولها أن تسقط عقد الالتزام وتنهيه قبل موعده اذا وجدت ان المصلحة العامة تقتضي ذلك من دون اجحاف بالحقوق والتعويضات المشروعة للملتزم ( إن وجدت ) كما حدث في تأميم شركة قناة السويس .

تجدر الاشارة هنا الى تطور نظرية المصلحة العامة . فقد كانت في الماضي ذات صفة سياسية وادارية محضة . لكن بعد الحرب العالمية الاولى اتسعت تبعاً لاتساع صلاحيات الدولة وواجباتها ، فأصبحت ذات صفة اقتصادية الى جانب الصفات الاخرى .. وبالنسبة للاقطار العربية المنتجة والمصدرة للنفط ، لا نحتاج الى كبيرعناء ، على ضوء ما تقدم ، للتقرير بان النفط يشكل منفعة عامة كبرى ، ليس من الناحية الاقتصادية والادارية فحسب ، بل من سائر النواحي التي يقوم عليها كيان البلاد العربية ومستقبل الشعب فيها .

إن مبادىء القانون الاداري تخول الدولة حق رعاية مصلحة شعبها العامة ، وتخولها حق مراقبة تنفيذ عقد الالتزام ومراقبة ارباح الملتزم . وهنالك اجماع لدى علماء القانون الاداري (3) ، فيما يتعلق بارباح الملتزم ، على ان الدولة تستطيع ، اذا كانت الارباح التي يجنيها الملتزم خيالية ، أن تقتطع من الارباح ما تجاوز حد المعقول وتودعه الخزينة العامة . اما اذا أسفر عقد الالتزام عن خسارة للملتزم من دون ان تكون نتيجة اهمال او تقصير من جانبه ، فان الدولة ملزمة بتعويضه عن خسارته ، لانه يجب الاخذ بعين الاعتبار مصلحة الملتزم الذي يستهدف الربح من وراء قيامه بالالتزام ، والمصلحة العامة التي لها الاولية دون الاجحاف بحقوق الملتزم الامين غير المقصر .

هذه هي المبادىء العامة التي تحكم عقد الالتزام كما هي معروفة ومنصوص عنها في مختلف القوانين الادارية في العالم . وهي التي تحدد الصفة القانونية للعقود المبرمة بين شركات النفط الاجنبية في البلدان العربية وحكومات هذه البلدان . ومن ذلك نخلص الى ما يلي:

1 – ان تكييف الشركات الاجنبية لعقودها مع الحكومات العربية ، الذي جاء على لسان مندوبيها في مؤتمر البترول العربي الثاني ، تكييف خاطىء من أساسه .

2 – إن مبادىء وقواعد القانون العام (الاداري ) تعطي الدولة المصدرة حق اتخاذ كافة الاجراءات التشريعية والادارية اللازمة للمحافظة على مصالح الشعب العامة دون معقب عليها .

3 – بما ان الشركات الاجنبية تعمل على اراضي البلدان المصدرة وتقوم بعمل يتعلق بصميم المصلحة العامة لهذه البلدان ، فان قضاء البلدان المصدرة هو صاحب صلاحية النظر في كل نزاع ينشأ بين الشركات وحكومات هذه البلدان . ولا شك ، انه يستحسن في حالات الخلاف ان يلجأ الى حله بالتراضي . ولكن اذا تعذر ذلك ، فان الفصل في الخلاف هو حكم القاضي ، أي قضاء الدولة المصدرة . أما ما يدعو له " البعض " من ان محكمة العدل الدولية هي المنوط بها حل الخلافات الناشئة عن مثل هذه العقود لان احد أطرافها أجنبي، فهذه دعوة خاطئة لا تستند الى المبادىء القانونية السليمة .

وليس أدل على ذلك ، ما قضت به محكمة لاهاي الدولية في سنة 1951 . فقد رفضت النظر في قضية الزيت الايراني (يوم أمم مصدق شركات البترول الاجنبية العاملة في ايران ) وقضت بعدم اختصاصها لأن الشركات الملتزمة مهما كانت من القوة ، ومهما كانت مصالح الدول التي تختبيء وراءها ، فان ذلك لا يغير من طبيعة العقد الاداري شيئاً ، ويبقى قضاء الدولة المصدرة هو صاحب الصلاحية الوحيد ، ويظل قانون هذه الدولة صاحب الفصل في كل نزاع .

4 – إن تخفيض الشركات لاسعار النفط من دون موافقة الدول المصدرة إجراء غير قانوني لان الشركات لا تستطيع التصرف في الاسعار وتغييرها من دون موافقة الدول مانحة الالتزام ، لأن هذا الامر يتعلق يالمصلحة العامة لهذه الدول ووثيق الارتباط بحاضرها ومستقبلها اقتصادياً وسياسياً وادارياً .

هذا هو ، في رأينا ، التكييف القانوني السليم للعقود القائمة بين الشركات الاجنبية وحكومات اقطارنا العربية . وهو تكييفنا للعلاقات التي تربط بين الطرفين في ضوء الاراء والمبادىء والقوانين القائمة والمتعارف عليها . وهي مبادىء وآراء وقوانين تدحض حجة الشركات وتعصف بتكييفها القانوني للعقود القائمة بينها وبين حكومات البلدان المصدرة .

يجدر بنا ، قبل ان نختم هذا التعليق الموجز ، ان نشير الى أن تمسك شركات البترول بالعقد ودفاعها عن قدسيته وضرورة احترامه ، يضعها في مركز قانوني غير سليم ، حتى في ظل النظريات ( غير الواردة ) التي استندت اليها ، لأنه يفترض بها التزام حسن النية في تنفيذ هذه العقود وتفسيرها وفي توفير اركان العقد السليم لهذه العقود عند انعقادها .

إن نظرية قدسية العقود تستند الى مبدأ أخلاقي قديم يصور الاخلال بالعقد خطيئة لا يجوز ارتكابها . فاذا كان الاخلال بالعقد خطيئة في ضوء هذه النظرية فكم بالحري ان نعتبر المحافظة على العقد خطيئة اكبر اذا كان العقد نفسه ينطوي على اجحاف وظلم واضرار بمصلحة شعوب الدول المصدرة ! . يضاف الى ذلك ، أن العقد حتى يعتبر شريعة للمتعاقدين ، أي القانون الذي يحكم علاقتهما ، يشترط ان يتم انعقاده بصورة صحيحة، منزهة عن سوء النية وعن كل غلط او اكراه او تدليس ، كما يجب ان يفسر بحسن نية .

لو رجعنا الى اتفاقيات البترول مع الاقطار العربية وتارخ انعقادها والجو الذي عقدت فيه والطريقة التي نفذت وتنفذ فيها الشركات هذه العقود ، لوضعنا أيدينا على أكثر من واقعة وعثرنا على اكثر من دليل يثبت ان هذه الاتفاقيات لم تعقد في جو سليم ، وان مراكز المتعاقدين تختلف اختلافاً واضحاً ، قوة وتجربة ووعياً . كما ان حرص الشركات على تضمين الاتفاقيات جميع الشروط التي تؤمن مصلحتها من دون التفات الى مصلحة الشعوب والحكومات المصدرة ، يكشف لنا سوء نية الشركات منذ ميلاد هذه العقود . وان تجاهل الشركات لروح هذه الاتفاقيات ودفاعها عن حرفية النص يوضح لنا مدى امعانها في تفسير العقود بسوء نية .

هذه نظرية تقييمية موجزة للحجج والاسانيد القانونية التي تذرعت بها الشركات في مؤتمر البترول العربي الثاني في محاولة لتبرير ما أقدمت عليه من تخفيض لاسعار النفط الخام من دون استشارة حكومات البلدان المصدرة . ومنها يتضح مجافاة كافة الحجج والاسانيد والاراء التي استندت اليها الشركات للمبادىء القانونية السليمة . واننا نأمل ان نتمكن من ان نوفي هذا الموضوع المهم حقه من الدراسة والبحث في المستقبل القريب.

_______________________________________________________________________

(1) ص 30 ، النظرية العامة للعقود والموجبات للدكتور سيوفي .
(2) الحق الدولي العام للدكتور فؤاد عمون .
(3) نذكر منهم جيز ولغوادير ، بيكينو ، الدكتور السنهوري والعميد الدكتور عثمان خليل عثمان .