كيماويات البترول

أشرف لطفي

نشر هذا المقال في كانون الاول / ديسمبر 1960 ، العدد الثاني ، الرائد العربي

قلما يخطر في بال أحدنا وهو يمسك بزجاجة من العطر الثمين ان البترول هو من بين المواد المهمة التي صنع منها هذا العطر . ففي الواقع ان مادة البترول تدخل في صناعة المئات ، بل الالاف من انواع المواد والاعتدة والاجهزة التي تباع في الاسواق كالاسبيرتو ( الكحول ) والاصباغ ومواد التلميع والصابون ومواد التنظيف بأنواعه ، من تنظيف الثياب ومواعين الاكل والاسطحة المدهونة والسجاد والبلاط والرخام وتنظيف المعادن والمنسوجات أثناء صناعتها ، وفي المطاط ومبيدات الحشرات والحشائش الطفيلية ، والاسمدة الصناعية الخ ... وليس ببعيد ذلك اليوم الذي نجد فيه مثلاً بيتاً بأكمله بني الجزء الاكبر منه ومن مفروشاته وأثاثه من مواد دخلت في صناعتها مادة البترول .

العجيب في أمر هذه الصناعة ، أي صناعة الكيماويات البترولية ، أنها حديثة العهد ، إذ بدأت في الظهور على أساس تجاري ، منذ ما لا يزيد عن ثلاثين سنة فقط ، قطعت في خلالها مراحل واسعة ، بحيث أصبحت الآن في الولايات المتحدة الاميركية في رأس قائمة الصناعات التي تنتج المواد الخام لصناعة الكيماويات بصورة عامة ، بحسب ما يتبين من الجدول الآتي :
 

1957 – الانتاج الكيماوي وقيمته النقدية في الولايات المتحدة الاميركية :

                                      الانتاج بملايين الارطال               القيمة النقدية بملايين الدولارات

                                          1950   1957   الزيادة             1950   1957   الزيادة

الكيماويات البترولية             &nbnbsp;    16400  38700  136 %           2110   4750   125 %

الكيماويات الاخرى                    70000  114300  63 %          2540   4000   57 %

وبحسب ما يشير اليه الاسم ، فإن صناعة الكيماويات البترولية تعني استخراج المواد الخام من البترول والغاز البترولي لاستخدام هذه المواد الخام في مختلف اغراض الصناعة عن طريق معالجتها بالوسائل الكيماوية .

كتب لهذه الصناعة ان تخرج الى حيز الوجود حين بدأ رجال شركات الزيت بالتفكير في ابتداع الطرق والاساليب التي تمكنهم من الاستفادة من كل مادة مشتقة من البترول الخام وناتجة من مصافي تلك الشركات . ففي النصف الثاني من القرن الماضي لم يكن بنزين السيارات مثلاً من المشتقات التجارية نظراً لعدم وجود السيارات والاليات التي تستطيع استخدامه وقوداً لها . ولهذا كانوا يضطرون الى تبديد البنزين عن طريق احراقه حالما يخرج من المصفاة . ومن الناحية الاخرى فإنه بعد اكتشاف الالة الحارقة للبنزين تبين ان انتاج هذه المادة عن طريق التقطير فقط لا يكفي لسد حاجة الطلب عليه . ووجدت الشركات كذلك انها لو اكتفت بطريقة التقطير فقط فإنها ، كي تسد الحاجة الى البنزين ، مضطرة لتقطير كميات كبيرة من البترول الخام ثم احراق بعض المشتقات الاخرى الناتجة من المصفاة ، نظراً لانعدام الحاجة الى جزء من تلك المشتقات . كما كانت الحاجة ، الى عهد قريب ، الى بنزين الطائرات اكثر منها الى الكيروسين الذي أصبح الآن أهم وقود للطائرات الحديثة التوربينية والنفاثة . ويتضح مما تقدم ان الطلب على احد مشتقات النفط معرض للتغير وللتعديل بحسب نوع الالآت والمكائن التي تستعمله ، وان أكثر شركات الزيت ستكون مضطرة اثناء هذه التقلبات في استعمال مشتقات البترول الى القيام على الدوام بدراسات وابحاث لاستنباط أفضل الطرق للاستفادة من كل مشتق بترولي تنتجه المصافي .

خلال الدراسات المخبرية واللجوء الى محطات الابحاث العلمية لجزئيات البترول المكونة من عنصري الهيدروجين والكربون ، تبين ان تغيير نسبة العنصرين في الجزء البترولي يولد مواد جديدة ، بعضها يتعطش الى الاتحاد مع عناصر اخرى لتركيب مواد جديدة متعددة الانواع والخواص . وباستخدام هذه المواد في شتى عمليات التفاعل الكيمياوي وغيره ولدت ما اصبح يسمى صناعة الكيماويات البترولية .

كان من أسباب نشوء هذه الصناعة ايضاً تلك القلوب التي ملأتها الحصرة والاسى وهي تنظر الى بلايين الاقدام المكعبة من الغاز الطبيعي تحترق كل يوم في حقول اميركا وغيرها من دون الاستفادة منها عن طريق اعادتها الى الحقل لتخزينها او معالجتها بالطرق الكمياوية لاستخراج مشتقات مفيدة . ثم حلت هذه المشكلة في الولايات المتحدة الاميركية واصبحت تلك البلاد وسواها تستفيد الآن من كل قدم مكعب من الغاز الذي تنتجه آبار بترولها . لكن هذه المشكلة لا تزال في حاجة الى الحل في حقول النفط العربي التي يحرق في سمائها كل يوم ما يزيد عن الف مليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي الذي يحتوي على مواد ثمينة مثل الكبريت وغازات الميتين والبيوتين والبربين والبنزين الطبيعي بما في استطاعته ان يملأ حوالى 100 الف برميل يومياً من النزين الطبيعي ومئة الف برميل اخرى يومياً من الغازات المسالة ( أي التي غيرت من حالتها الغازية الى حالة السيولة ) . وهذه الكميات الضخمة يمكن بيعها بمئات الملايين من الدولارات سنوياً فيما لو تيسرت لها الرساميل اللازمة لاستثمار فيها .

بيت القصيد في مشكلة استثمار الغاز الطبيعي العربي يدور حول نقطتين اثنتين :

1 – من ذا الذي يضع رؤوس الاموال اللازمة للاستفادة من هذه الثروة التي تبدد حرقاً في الوقت الحاضر؟ . إن امتيازات البترول في العالم العربي حالياً هي في ايدي الشركات الاجنبية التي وجدت طريقها الى الربح سهلاً حين قصرت همها وجهدها على انتاج الزيت الخام وحده بأبخس التكاليف . وهذه الشركات نفسها خير من يعرف قيمة الغاز وفائدته ، لكنها تتخذ منه موقفاً سلبياً في الوقت الحاضر لان تسيله يحتاج الى استثماراموال كبيرة تجعل انتاج البرميل السائل منه أكثر كلفة من انتاج برميل الزيت الخام . كما ان هنالك عاملاً آخر يعيق هذا الاستثمار هو ، في رأي ،عامل ولاء الشركات لبلدانها الاجنبية . فلماذا تصرف الشركات مبالغ ضخمة لاستثمار مادة الغاز في بلاد العرب مثلاً ، اذا كانت هذه الشركات تستطيع استثمار هذه المبالغ في بلدانها وانتاج ما تحتاج اليه من مواد الصناعة الكيماوية الخام عن طريق معالجة النفط الخام نفسه وليس الغاز الطبيعي ! .

2 – إيجاد الاسواق التي ستستوعب المنتجات المشتقة من الغاز الطبيعي . فمن الضروري جداً ، قبل البدء ببناء المصانع اللازمة ، معرفة ماهية المواد الخام او المواد المتوسطة التي يراد إنتاجها ومعرفة الفرقاء الذين سيحتاجون الى هذه المواد والاتفاق معهم على تصريفها . فمثلاً ، قبل انتاج مادة البوتدين ، وهي مادة تستعمل في صنع المطاط الصناعي وفي صنع المنتوجات العديدة التي تعتمد على المطاط ، فانه يجب الدخول في اتفاقيات مع شركة او شركات احنبية مختصة في هذه الصناعة . ومثل ذلك ينطبق على مادة الكحول والامونيا الخ...

الواقع ان ايجاد الاسواق عن طريق خلق اهتمام الشركات الكيماوية بمنتوجاتنا ليس بالامر الصعب جداً ، خاصة اذا أمكن تشجيع هذه الشركات على المساهمة المالية في هذه المصانع واععطائها من التسهيلات الحكومية والخاصة ما يجعلها راغبة في خوض غمار هذا الحقل الجديد في العالم العربي .

إطلعت بنفسي على عملية جبارة لاحدى الشركات في اوروبا ، وقد يفيد تاريخ تأسيسها وعملياتها في انارة السبيل نحو خطوات مماثلة في بلادنا . فهذه الشركة انشأت مصفاة لتزويد المنطقة المجاورة واستنسبت اقامة مصنع كيماوي لانتاج الاثيلين من احد المشتقات البترولية المنتجة في المصفاة . ومن اجل تنفيذ مشروعها هذا اتفقت مع شركة كيماوية كبيرة تحتاج الى مادة الاثيلين في عملياتها ، والفت الشركتان الاثنتان شركة جديدة تحمل اسم " شركة كيماويات البترول " . وبعد ان بدأ المصنع الجديد في انتاج الاثيلين تبين انه من الممكن انتاج مواد اخرى تحتاج اليها شركات ومصانع اخرى ، فدخلت شركة كيماويات البترول في اتفاقيات مع اربع شركات متنوعة المصالح وألفت جميعها شركة كيماوية جديدة تقوم حالياً بانتاج انواع كثيرة من المشتقات النفطية التي تستعمل في اكثر فروع صناعة الكيماويات البترولية . والمهم في الموضوع ان العملية بدأت برأس مال لا يزيد عن 7 ملايين جينه . وفي خلال فترة قصيرة لا تربو على تسع سنوات نمت هذه العملية وترعرعت بحيث اصبحت قيمة المصنع حوالى 40 مليون جينه . ولا تزال عملية التوسع جارية . وقد علمت ان احد فروع المصنع كان قد در من الارباح ما مكن من استرجاع راس المال الموظف فيه كاملاً في ظرف ثلاث سنوات فقط .

ولما كانت معظم شركات البترول الاجنبية ، صاحبة الامتيازات في البلدان العربية ، لها خبرة واسعة في انتاج كيماويات البترول ، فقد يسهل عليها الاقدام على خطوات جديدة لتأسيس مصانع في الوسط العربي ، وفي كل بلد منتج ، تضم شركة أهلية من البلد المنتج و شركة الزيت صاحبة الامتياز ، وادخال طرف ثالث يكون شركة كيماوية تسهيلاً لتأمين منافذ بيع وتصريف في الاسواق التي تعمل فيها الشركة الكيماوية .

ولعل من الخطوات العملية ايضاً البدء باستغلال الغاز الطبيعي عن طريق بناء مصانع تكون منتجاتها الاولى ما يلي :

1 – البنزين الطبيعي . وشركات الزيت قادرة على استيعابه عن طريق خلطه بما تبيع من بنزين السيارات وادوات النقل الاخرى .

2 – الكبريت وما يمكن انتاجه تجارياً من أصل غازات المتين والايتين والبروبين والبيوتين ، وتصريف هذه المنتجات عن طريق الشركة الكيماوية المساهمة في هذا المشروع .

فاذا أسسنا صناعتنا الكيماوية من خلال هذه النواة الصناعية التي أتحدث عنها هنا ، فلا بد ان يكون مستقبل الصناعات الكيماوية جيداً ومثمراً وقادرنا على المساهمة في بناء صرح صناعي مربح .