أثر البترول في حياة ليبيا الاقتصادية

يحي المصري

نشر المقال في تموز / يوليو 1961 ، العدد التاسع ، الرائد العربي

يتدفق البترول في ليبيا بسرعة كبيرة وبكميات ضخمة لم تكن متوقعة . فمنذ عام 1955 بدأ التنقيب عن البترول في الاراضي الليبية ، بعد ان منحت الحكومة الليبية الاتحادية امتياز التنقيب عن البترول لشركات اجنبية عديدة بينها شركات شل واسو وموبيل أويل وشركة البترول الفرنسية وشركة البترول الاميركية الليبية. وفي مايو / ايار الماضي وقعت اتفاقية اخرى للتنقيب عن البترول بين الحكومة الليبية وشركتين ايطاليتين تابعتين لهيئة البترول الايطالية . وبذلك بلغ عدد الشركات صاحبة الامتياز في ليبيا ست عشرة شركة اجنبية .

اكتشاف البترول

بدأت هذه الشركات التنقيب عن البترول كل في منطقة امتيازها . ولم تطل فترة التنقيب حتى نجحت شركة اسو في اكتشاف النفط على الحدود بين ولايتي طرابلس وبرقة في عام 1959 . وفي ابريل / نيسان 1960 تمكنت شركة موبيل أويل من الكتشاف النفط في منطقة تبعد 80 ميلاً عن الساحل . كذلك اكتشفت شركة شل اباراً عديدة في مناطق اخرى ، كما اكتشفت شركة البترول الليبية الاميركية عدداً من الآبار في المنطقة الجنوبية الشرقية . ويلاحظ انه حتى ذلك الوقت كان قد حفر 23 بئراً وجد النفط في بعضها ووجدت غازات في بعضها الآخر .

العقبات التي واجهت الشركات المستقلة

واجهت الشركات المستقلة عقبات عديدة ادت الى تحملها نفقات ضخمة قبل ان تتمكن من اكتشاف النفط . وتمثلت هذه العقبات في طبيعة ليبيا وأرضها . فهي صحراء تتخللها صخور كثيرة ، وليست في البلاد طرقات عديدة معبدة يسهل التنقل عليها . لذلك كانت تلجأ الشركات الى استعمال الطائرات في نقل العمال والتموين اللازم لهم والمعدات والآلات ، حتى البسيطة منها . ولا يخفى كم تكلف هذه الوسيلة من نفقات باهظة . ونظراً الى ان عمليات حفر الآبار تستلزم كميات كبيرة من المياه ، خصوصاً في منطقة "سرت" القاحلة ، فقد اضطرت الشركات الى انفاق مبالغ كبيرة للحصول على المياه ، والتي كانت تنقلها بواسطة سيارات نقل عبر طرق غير معبدة .

كميات الانتاج والفائض في ليبيا

يقدر الاحتياطي ، وفق التقدير الاولي ، من البترول في ليبيا بعد ان تمت الاكتشافات المذكور اعلاه ، بحوالي خمسين الف مليون برميل . ومن المنتظر ان تصل كمية الانتاج الى ما يعادل الكمية المنتجة حالياً في العراق من البترول . وهذ ما يؤهل البترول الليبي ان يلعب دوراً مهماً بالنسبة لانتاج البترول العالمي ، وسيجعل من ليبيا ، من دون ادنى شك ، احدى مناطق الانتاج المهمة في العالم . ومن المعروف ان مناطق انتاج البترول في العالم الآن هي الولايات المتحدة الاميركية والمنطقة الكريبية والاتحاد السوفياتي ومنطقة الشرق الاوسط .

الاجراءات الحكومية للاستفادة من هذه الثروة

لم تكن الحكومة الليبية حتى بداية عام 1959 تضع في حسبانها هذه الاكتشافات البترولية الضخمة . لذلك لم تكن مستعدة لوضع اية ترتيبات عملية لاستغلال هذا الوضع الجديد . وقد وضح ذلك من التقرير الذي أعده البنك الوطني الليبي في مارس / اذار 1959 حيث ذكر في تقريره انه لم يتبين بعد ما اذا كان انتاج البترول في ليبيا سيحدث أثراً يذكر في الحياة الاقتصادية الليبية . وفي منتصف سنة 1959 ، وبعد ان بدأ البترول يتدفق من بعض الابار ، غيرت الحكومة نظرتها واتخذت اجراءات عديدة سريعة لمواجهة الوضع الجديد الناشئ عن تدفق البترول . فسمحت لشركة اسو بتحويل " مرسى بريجة " الى ميناء هام لتصدير النفط ، على ان يكون باستطاعته استقبال أضخم الناقلات ؛ كما سمحت للشركة ذاتها بمد خطوط للانابيب تصل مرسي بريجة بحقول البترول في مختلف المناطق التابعة لهذه الشركة . وبدأت شركة اسو بالفعل مد الانابيب من "زلطن" الى الساحل . وتدرس الحكومة الآن مشروعاً لتجديد ميناء بنغازي الذي أصيب بأضرار بالغة اثناء الحرب العالمية الثانية . وستبلغ تكاليف المشروع حوالى عشرة ملايين جنيه .

ولا تزال المفاوضات قائمة بين الحكومة التي تصر على اقامة مشروع المصفاة في ليبيا وبين ممثلي شركات البترول الذين يرون اقامتها في الخارج ، حيث ان قانون البترول الليبي لم يذكر شيئاً يتعلق بهذا الامر . ومن المؤكد ان اقامة مصفاة في ليبيا سيسهم في تشغيل عدد كبير من العمال والاداريين الليبيين الذين قد يفقدون وظائفهم عقب الانتهاء من عمليات الحفر .

مميزات البترول الليبي

أهم ما يتميز به البترول في ليبيا هو غزارة النفط الخام في الابار المنتجة وقربه من موانيء التصدير . فبينما يبلغ متوسط انتاج البئر في الشرق الاوسط خمسة الآف برميل في اليوم وفي فنزويلا 170 برميلاً وفي الولايات المتحدة 15 برميلاً فقط ، نجد انه في ليبيا يفوق هذه الارقام . فقد تدفق البترول من بئر حقل داهرا بسرعة 11500 برميل في اليوم . ويقع هذا الحقل على بعد 85 ميلاً من الشاطئ فقط . كما انه يعتبر ثالث بئر في ليبيا من حيث كمية الانتاج . اما البئران اللتان تزيدان عنه في كمية الانتاج فهما تابعتان لشركة اسو وتقعان على بعد 160 ميلاً من ولاية برقة ويبلغ انتاجهما اليومي 17500 برميل و 15000 الف برميل على التوالي . وبالاضافة الى ذلك ، فان حقول النفط في تلك المنطقة تتميز بجغرافيتها ، إذ انها قريبة من مناطق التسويق في اوروبا الغربية التي تعتبر أكبر مستورد للنفط في العالم . كذلك يتميز البترول الليبي بكثافته . فهو يزيد عن الكثافة المتوسطة ، أي ان نسبة الفضلات فيه ضئيلة .

ارتفاع الدخل القومي

أحدث اكتشاف النفط في ليبيا اهتزازات كبيرة في الاقتصاد الوطني . فقد تزايد الدخل القومي بسرعة كبيرة خلال السنوات الماضية . فبعد ان كان لا يزيد عن 15 مليوناً من الجنيهات الاسترلينية في عام 1950 أصبح يقدر بحوالي 52 مليوناً في عام 1958 ، ثم ارتفع الى 59 مليوناً في عام 1959 . ويرجع هذا الارتفاع الكبير في الدخل الى ظهور النفط والى ما رافق هذا الظهور من نشاطات اخرى ، مثل حركة البناء وتحسن تجارة الجملة والتجزئة تحسناً كبيراً جداً . ويتبين من الاحصائيات التي نشرتها شركات البترول في الايام الاخيرة ان مجموع نفقات هذه الشركات خلال عام 1960 بلغ 52 مليون جينه استرليني . كما ان جزءاً من الزيادة في الدخل يرجع الى النفقات العسكرية الاجنبية التي تصرف على الجنود الاجانب المتمركزين في القواعد الاجنبية في ليبيا ، بالاضافة الى المساعدات الخارجية التي تتلقاها البلاد من الولايات المتحدة الاميركية .

توسع قطاع التجارة والخدمات

انعكس ارتفاع الدخل من النفط ايجاباً على قطاع التجارة والخدمات بينما ظل قطاع الزراعة وصيد الاسماك وكذلك قطاع الصناعة في حالة ركود وتدهور . وكان التجار ورجال الاعمال اول من استفاد من التوسع في نشاط قطاع التجارة والخدمات . فقد ازدادت في السنوات الاخيرة الاموال المستخدمة في عمليات التجارة الداخلية والخارجية وفي الخدمات المتصلة بها ، كما زادت على وجه الخصوص الاموال المستخدمة في المضاربة على شراء العقارات وعمليات البناء . وكان ذلك استجابة لطلب الاجانب على المساكن الفاخرة والفيلايات .

نقص الانتاج الزراعي

عمد رجال الاعمال ، خلال هذه الفورة المالية ، الى شراء الاراضي الزراعية والبساتين وحولوها الى مساحات سكنية لموظفي شركات النفط ، فترتب على ذلك ان المساحات الكبيرة من الاراضي الزراعية التي كانت تنتج المواد الغذائية والخضار والفاكهة قد تحولت الى عمارات سكنية وفيلايات فخمة . وترتب على هذا الامر نقص كبير في انتاج المواد الغذائية الاولية ، كما انه شجع العمال الزراعيين على ترك مزارعهم والهجرة الى المدن للعمل في شركات النفط او بالتجارة حيث الاربحية المرتفعة .

زيادة حجم الواردات

ترتب على نقص الانتاج الزراعي زيادة حجم الواردات . فقد بلغت قيمة واردات ليبيا في السنوات الاخيرة اكثر من نصف قيمة الانتاج المحلي . ويشير الاتجاه السائد حالياً الى استمرار زيادة الواردات ، وبالتالي الى استمرار تناقص الانتاج المحلي . وهذا ، بدوره يؤدي ، الى ان يصبح قطاع التجارة في ليبيا جزءاً مكملاً لاقتصاديات البلاد المصدرة الى ليبيا . ومن ثم يقل بالتدرج ارتباطه بقطاعات الزراعة والصناعة في الاقتصاد الوطني .

هكذا نجد ان اتساع قطاع التجارة والخدمات والمكاتب المالية التي صحبت هذا التوسع قد أدت الى تدهور القطاع الزراعي وانخفاض الانتاج المحلي . واذا ما ترك هذا الاتجاه يكمل سيره على ما هو عليه الآن ، فسيؤدي الى زيادة التدهور ونقص الانتاج الزراعي والصناعي بكميات اكبر ، كما انه سيحمل اكبر عدد من المزارعين على الهجرة الى المدن الكبيرة مما يؤدي الى القضاء على المدن الصغيرة وعلى الريف والى زيادة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تترتب على هكذا هجرة كبيرة . وستكون النتيجة في النهاية القضاء على قطاعي الزراعة والصناعة ، بينما يتوسع قطاع التجارة والخدمات توسعاً سريعاً معتمداً في ذلك كلية على حركة الاستيراد .

ضرورة الأخذ بمبدأ التخطيط

يحتاج هذا الوضع القلق السائد في ليبيا الى تدخل السلطات متسلحة ببرامج محدد وشيق وفاعل لتنمية كل القطاعات الاقتصادية، أي ان تكون معالجة متوازية تشرف عليها هيئة حكومية اتحادية يجري تمويلها من عائدات البترول المنتظرة في السنوات القليلة القادمة . كما يجب ان يقوم هذا النمو المتوازن على برامج طويلة الأجل وأخرى قصيرة الأجل يختص كل منها بتنمية الموارد الطبيعية والبشرية بأقصى سرعة ، مع المحافظة على حالة الاستقرار النقدي .

معالجة الاتجاهات التضخمية الحالية

واخيراً ، فانه من المطلوب ان تتخذ بسرعة اجراءات فعالة لمعالجة الاتجاهات التضخمية المنتشرة حالياً في جميع انحاء البلاد . وستكون اثارها اسوأ مما هي عليه الآن إن لم تتخذ بعض الاجراءات السريعة لضبطها . فاسعار السلع حالياً في ارتفاع مستمر . ويكفي ان نعطي أمثلة على ذلك لنرى الاضرار التي ستلحق بالاقتصاد ان لم تجر معالجته على الفور . فمثلاً ، ارتفع ثمن كيلو اللحم الى سبعين قرشاً بعد ان كان ثمنه قبل اربع سنوات 25 قرشاً فقط . اما الايجارات فقد أصبح من العسير على ابناء الطبقة الوسطى وما دونها ان تجد لها مأوى لائقاً تستأجره او تشتريه باسعار معقولة ، رغم ما تنفقه الحكومة من مبالغ ضخمة على بدلات سكن موظفيها. ومشكلة نقص المساكن تزداد يوماً بعد يوم .

الخلاصة انه يجب ان تستخدم عائدات النفط في تنمية الاقتصاد لا تدميره . من هنا ، لا بد للحكومة ان تأخذ بمبدأ التخطيط في سياستها الاقتصادية ، والا فان النعمة التي تعود على الليبيين بفضل اكتشاف البترول في بلدهم ستنقلب الى نقمة .