الذهب الاسود ينبع بقوة من قاع الخليج العربي

جزيرة الطيور البحرية والعقارب والسلاحف والجرذان تتحول الى ورشة عمل

نشرهذا التحقيق في كانون الثاني / يناير 1962 ، العدد الخامس عشر ، الرائد العربي  

في مكان ما من خليج العرب يبعد مسافة 24 ميلاً عن أقرب نقطة من اليابسة ، يطفو على وجه الماء مسطح غريب هو أشبه ما يكون بالجزيرة الاصطناعية العائمة . أما المكان ، الواقع شرقي جزيرة داس ، فيدعى في جزئه غير المنظور ، " أم شيف " . واما المسطح الغريب ، فلا يعدو ان يكون قاعدة لحفر آبار البترول وللتنقيب عن الزيت الخام في قاع الخليج . ولهذا وذاك معاً قصة ترجع الى سنة 1953 وتشكل في بعضها الكثير تحدياً ومغامرة . يومها اقدم الشيخ شخبوط بن سلان بن زيد ، حاكم ابو ظبي ، على منح شركة مناطق ابو ظبي البحرية المحدودة " ادما " امتيازاً للتنقيب عن النفط في مساحة تبلغ 12 الف ميل مربع من مياه الخليج العربي . وتملك الشركة الفرنسية للبترول ثلث هذه الشركة ، بينما تملك الثلثين الآخرين الشركة البريطانية المعروفة ب " بريتش بتروليوم " British Petroleum .

استقدمت شركة ادما في خطوة من خطواتها العالم الفرنسي جاك كوستو ليقوم بدراسة جيولوجية لقعر الخليج ، مستعيناً على ذلك بباخرته الذائعة الشهرة " كاليبسو" وبأعوانه من الخبراء في الغطس تحت الماء بواسطة الرئات الاصطناعية . وعندما تم استخراج نماذج من الصخور البحرية قامت شركة بريتش بتروليوم بارسالها الى لندن حيث أخضعت للفحوص المخبرية ، كما اجريت تجارب اخرى استعملت فيها المواد المتفجرة . وفي وقت لاحق من سنة 1958 ، بدأ التنقيب عن الزيت في ثلاث آبار ، وجاءت النتائج جد مشجعة الى درجة ان الشركة المنقبة أعلنت بعد شهور ، أي في آيار/ مايو 1960 ، ان هناك من النفط الخام ما يصلح للاستثمار التجاري . وكانت كميات كبيرة من الزيت قد عثر عليها ، في الواقع ، في البئر الاول على عمق 5500 قدم ، وفي البئر الثالثة على عمق 9600 قدم . 

كان العمل يجري طوال هذه الفترة بمعدل 24 ساعة كل يوم ، لا فرق بين شمس تلهب وتحرق نهاراً وبين أضواء كاشفة تنير السبيل في اثناء الليل . وكان دون تحقيق النتائج مرحلة طويلة وشاقة استلزمها اعداد ما يحتاج اليه حفر آبار النفط . وتنقسم هذه المرحلة الى قسمين اثنين :  

1 – بناء مسطح عائم يخصص بالحفر .

2 – ايجاد قاعدة برية قريبة تشمل مراكز الادارة والاصلاح ، وتوفر للعمال اسباب الراحة . 

أخضعت كل انواع المسطحات المستعملة في الولايات المتحدة لدراسة دقيقة ، والاميركيون هم اول من اجرى حفريات تحت سطح الماء ، واختارت شركة " ادما " على أثرها مسطحاً قادراً على الارتفاع ذاتياً ، واوصت عليه لدى مصنع للبناء في المانيا الغربية . وفي شهر آب / اغسطس من سنة 1957 ، بدأ المسطح ، الذي أطلق عليه اسم " ادما انتربرايز " ، رحلته من قناة كييل في المانيا الى الخليج العربي ، قاطعاً مسافة 6871 ميلاً وهو مربوط بالحبال الغليظة الى سفينة قاطرة . وفي خليج بيسكاى ، الواقع بين فرنسا واسبانيا ، تعرض المسطح لعواصف شديدة تسببت بقطع الحبال وفي جنوحه لمدة ست ساعات . وكان ، من بعد ، عبور قناة السويس عملية شاقة اجتازها المسطح بنجاح . وبعد 92 يوماً بالضبط ، كان المسطح يقف بمواجهة جزيرة داس في عرض الخليج العربي ، وقد تم تركيب اجزائه في مرفأ اصطناعي أنشأته الشركة في الجزيرة ، ثم قطر في أوائل كانون الثاني / يناير 1958 الى حيث اتخذ المكان المعين له في نفطة تبعد عن اليابسة مسافة 24 ميلاً . 

ادما انتربرايز

يعتبر " ادما انتربرايز " اول مسطح عائم من نوعه يبنى في اوروبا . يبلغ طوله 200 قدم وعرضه 100 قدم . وهو مجهز برافعات مائية يستطيع معها ان ينتصب على 4 قوائم ، ويبلغ قطر كل منها 10 أقدام ، ويمكنها ان تنزل في قاع البحر الى عمق 165 قدماً . اما مجال الحفر تحت الماء فيبلغ 80 قدماً .  

يتسع المسطح لاقامة 50 شخصاً ينعمون في اقسامه المقفلة بالهواء المكيف . وهو مجهز بمولد كهربائي وآلات لتقطير مياه البحر قادرة على ان تؤمن 330 غالوناً من المياه العذبة في الساعة . وعلى جانب من المسطح ، أقيم برج للحفر يبلغ ارتفاعه 140 قدماً ، كما أنشيء على جانبه الآخر مدرج لطائرات الهليكوبتر . وهذه الطوافات تنقل المؤن والخضار المجلدة ، واحياناً يتم نقل هذه المواد والمؤن بواسطة المراكب البخارية . 

جزيرة داس

كانت الحاجة ماسة الى وجود قاعدة على اليابسة تتولى تقديم الخدمات اللازمة للمسطح العائم وتزويده بمعدات الحفر وبالمواد العذائية وسواها . ووجدت الشركة ضالتها في جزيرة داس البالغ طولها ميلاً واحداً وعرضها نصف ميل تقريباً ، باعتبارها أقرب مكان الى منطقة الحفر . 

يتألف ثلثا الجزيرة من صحراء قاحلة لا يزيد ارتفاعها عن بضع اقدام ، بينما تغطي ثلثها الباقي تلال صخرية صغيرة ، منها ما يبلغ ارتفاعه 70 قدماً . ويوم عزمت الشركة على بناء قاعدتها ، لم يكن يعيش فوق ارض الجزيرة ، التي تفتقر الى المياه ، سوى الطيور البحرية والعقارب والسلاحف والجرذان . وكان بعض صيادي اللؤلؤ يلجأون اليها احياناً هرباً من العواصف . 

في شهر ايار / مايو 1956 ، نزل الى الجزيرة اول فريق من عمال البناء الذين جابهوا المخاطر في انتقالهم على مراكب عربية من ابي ظبي الى داس . وهذه المراكب هي بالذات التي عهد اليها نقل المؤن والمواد الضرورية في الاسابيع الاولى ، وغالباً ما كانت تضل طريقها عبر المسافة التي تفصل بين البحرين وداس والبالغة 170 ميلاً . ولم يمض طويل وقت حتى تأمنت للجزيرة مستلزمات المعيشة ، وأنشيء مطار موقت يبلغ طوله اربعة الآف قدم عن طريق دحل الرمال التي رشت بالماء بحيث استطاعت طائرات دوف المحملة بالعتاد ان تهبط عليها بسلام . 

رست في اواخر سنة 1956 على شاطيء الجزيرة اول ناقلة للدبابات جرى تحويلها الى سفينة شاحنة واطلق عليها اسم " ادمون " ، وهي تحمل عدداً من المحركات الكبيرة بالاضافة الى وسائط نقل برية ، انزلت بواسطة الجر اليدوي . واستمرت الباخرة تنقل الوقود والمؤن والمواد الغذائية ، وقامت بخمسين رحلة بين البحرين وداس ، قبل ان ينشأ المرفأ الاصطناعي في الجزيرة . ولما كانت العواصف الهوجاء تهب في الخليج العربي ، فان كميات المياه الصالحة للشرب كانت تنقص في بعض الاحيان حتى تبلغ درجة الخطر . وأمكن الآن تلافي هذا النقص بفضل الآت للتقطير قادرة على توفير 2000 غالون من المياه العذبة في الساعة . 

اول ما وجهت اليه عناية المسؤولين في الجزيرة هو بناء منازل لسكانها الجدد . فاقيمت ثلاث وحدات للموظفين العرب والاوروبين وللعمال . ثم شيدت منطقة صناعية تضم المستودعات العامة ومستودعات الاسمنت والمواد الكيمائية وورش الاصلاح ، ومعملاً للثلج ومولداً للكهرباء، بالاضافة الى مكاتب الادارة ومشفى وحظيرة للطائرات ومسجد ومطبخ عام للعمال . وفي وحدة السكن الخاصة بالعمال ، أقيمت بيوت جاهزة يتسع كل منها لعشرة أشخاص .  

شرعت الشركة ، عند هذا الحد ، في بناء مرفأ داس البالغ طوله 1200 قدم وعرضه 400 قدم ، والمؤلف من رصيفين يبلغ طول احدهما 1893 قدماً والثاني 835 قدماً . ولاغراض البناء لجأت الشركة الى المقالع الصخرية في الجزيرة ، فاستخرجت منها نصف مليون طن من الحجارة في ثمانية اشهر ، اتلف نصفها بسبب تفتته ، وفاض النصف الثاني عن الحاجة ، مما دعا الى خزن الباقي منه في المستودعات لحين الطلب . 

استقبل مرفأ داس المسطح العائم " ادما انتربرايز " في 23 تشرين الثاني / نوفمبر 1957 . واستلزم تركيبه وجعله صالحاً للخدمة ستة اسابيع فقط من العمل المتواصل ليلاً ونهاراً . وفي 4 كانون الثاني / يناير 1958 ، قطر المسطح الى عرض الخليج .. ولم يلبث حفر ابار البترول ان بدأ بعد أيام .

تبدأ عمليات الحفر بنزول الغطاسين الى قعر المياه لمعاينته ، ثم باحداث فجوة صغيرة تمهد السبيل امام الحافرات الضخمة ، وتنتهي ببناء برج فولاذي فوق كل بئر يبلغ وزنه 220 طنا ، ويرتفع 120 قدماً فوق سطح الماء . ويشمل البرج مرسى للمراكب ومكاناً للصبابات وآخر لهبوط طائرات الهليكوبتر . والجدير ذكره ان منطقة " ام شيف " في قعر الخليج العربي تتكون من الصخور الكلسية التي تغطيها طبقة رقيقة جداً من الرمال . اما بناء الابراج ، فعملية محفوفة بالصعوبات والخطر ، إذ تنقل اجزاء كل برج من جزيرة داس ، جزءاً بعد آخر ، ويتعرض الغطاسون في اثناء تركيب الابراج الى خطر الحيوانات البحرية على انواعها . 

يجري في الوقت الحاضر ربط الآبار السبع التي حفرت فعلاً ، بواسطة شبكة من الانابيب تصب في الجزيرة حيث تتولى اجهزة خاصة فصل الزيت السائل عن الغاز . ويجري الآن بناء خزانات على الجزيرة ومرفأ كبير كي ترسو فيه الناقلات في المستقبل . ومن المؤمل ان تغادر اول شحنة من البترول داس في الصيف القادم .

تلك هي قصة آبار اخرى للذهب الاسود ، ومصدر جديد للثروة في خليج العرب .