تكرير النفط في سوريا أولى دعائم التصنيع

محمد فياض دندشي

 نشر المقال في نيسان / ابريل 1962 ، العدد الثامن عشر ، الرائد العربي

لصناعة البترول وما يشتق عنها من عمليات التكرير وصناعات بتروكيماوية وخلافه ميزة مهمة تفرض نفسها على المهتمين بهذه الصناعة منذ بداية الاعمال الأولية في هذا الحقل . فعند ابتداء الدراسات الاولية في عملية الاستطلاع عن امكانية توفر هذه المادة وبدء الابحاث الجيولوجية ، الى اعمال السبر والحفر ، فالاستكشافات ثم الاستغلال ، كل هذه المراحل تحدد بشكل او بآخر اوجه النشاط في هذا المضمار وترسم الخطة للاستفادة من كل امكانية تتوفر في هذه الصناعة القيمة .  

ولعل السلطات في الجمهورية العربية السورية تنبهت الى أهمية الصناعات البترولية والى الدور الفعال الذي تلعبه في ميدان التقدم الصناعي في البلدان المزدهرة ، فعمدت الى الاستفادة ، ما أمكن ، من انابيب البترول العراقي في اراضيها ، وقامت بتأسيس اول صناعة بترولية ، تعتبر نواة لصناعات بترولية كبرى يقترن نشاطها دوماً بتدعيم البنيان الاقتصادي . وعندما تم اعتماد التخطيط مبدأ في تحديد أوجه النشاط الاقتصادي وأعتمدت الدولة مشروع خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للسنوات الخمس 60-61 و 64 – 65 ظهرت أهمية التصنيع بصورة عامة وواضحة ، وأهمية البترول والصناعات البترولية بصفة خاصة ، حيث بلغ نصيب هذه الصناعات في الخطة الخمسية الاولى حوالى 211 مليون ليرة سورية من مجموع استثمارات قطاع الصناعة البالغة حوالى 509 مليون ليرة سورية ، أي ما يعادل 42 بالمئة تقريباً . 

مرت على البلاد في فترة ما بعد الاستقلال ظروف قاسية ، من سياسية وعسكرية واقتصادية ، ونجم عن ذلك ازمات عنيفة متعاقبة من جراء فقدان مشتقات البترول من الاسواق المحلية ، مما جعل البلاد تحت رحمة السيطرة الاجنبية القابضة على مفتاح هذه الصناعات . زد على ذلك ان الطلب على المشتقات النفطية قد ازداد زيادة كبيرة ، وشكلت الكميات البترولية المستهلكة محلياً رقماً قياسياً ، حيث بلغت حوالى 15 مرة ما كانت عليه منذ بداية الاستقلال حتى يومنا هذا . 

في عام 1957 ، وبموجب القرار الوزاري رقم 345 تاريخ 16 آذار / مارس من العام نفسه ، تم التوقيع على العقد المتضمن انشاء مصفاة لتكرير النفط الخام في الجمهورية العربية السورية . وحصلت مؤسسة تشيكية تدعى " تكنو اكسبورت " على تعاقد لانشاء هذه المصفاة وقامت على خير وجه بتنفيذ شروط انشاء معمل تكرير النفط الذي باستطاعته تكرير مليون طن من النفط الخام سنوياً . وتشمل هذه الاستطاعة انتاج كل المشتقات البترولية الرئيسة مثل البنزين والكيروسين وزيوت الغاز والفيول ومادة الاسفلت وغاز البوتان والبروبان . وبتأسيس هذا المصنع أصبح بالامكان الاستغناء عن استيراد المشتقات النفطية من الخارج ، وما يتطلبه هذا الاستيراد من قطع اجنبي كان يرهق خزينة الدولة . هذا ، بالاضافة لما لهذا النوع من الاستثمار من فوائد جمة وقيمة تعمل على تنشيط اليد العاملة واكتساب الخبرة الفنية في هذا المضمار . 

بلغت تكاليف انشاء المصفاة حوالى 54 مليون ليرة سورية ، منها 20 مليون ليرة بالعملة المحلية  انفق منها حوالى 12 مليون ليرة بشكل اجور ومرتبات للعمال والفنيين من سوريين واجانب الذين قاموا بالاعمال المختلفة. وخصص كذلك لاعمال البناء والانشاءات المختلفة وبعض النفقات الجارية الاخرى حوالى 8 ملايين ليرة سورية . اما نصيب المستوردات من تجهيزات ومعدات وادوات ومواد مختلفة ضرورية لانتاج الصناعات الاساسية ومشتقاتها البترولية ، فقد بلغ حوالى 34 مليون ليرة سورية ، أعفيت كلها من الرسوم الجمركية والبلدية ، بالاضافة الى اعفاء من الرسوم الضرائبية كضريبة المهن والحرف الصناعية والتجارية وضريبة الرواتب والاجور التي يتقاضاها العمال الفنيون والمستخدمون الاجانب وضريبة التمتع ورسوم المرفأ . 

برزت مشكلة بعد ابرام العقد والمباشرة بالدراسات الاولية  تتعلق باختيار موقع ملائم تشاد عليه المصفاة . فمن الطبيعي ان يبنى اي مصنع من هذا النوع بالقرب من مصدرمادة الخام التي يقوم المصنع باستغلالها وتحويلها ، بقصد التخفيف من قيمة التكاليف المترتبة على عملية التصنيع . غير ان نتائج اعمال الحفر والتنقيب عن البترول في سوريا لم تكن لتشجع على اقامة المصفاة في المنطقة التي تجري فيها هذه العمليات او بالقرب منها. لهذا رؤي انه من الانسب الاعتماد في عمليات التكرير على النفط العراقي الخام المار في سوريا قادماً من كركوك بالعراق عبر الاراضي السورية وصولاً الى الساحل . من هنا جاء اختيار مدينة حمص السورية لاقامة مصنع التكرير في اراضيها . ولهذا الاختيار اسبابه العديدة المهمة جداً ، نورد ابرزها في ما يلي :  

1 – تمر انابيب شركة نفط العراق  بالقرب من مدينة حمص متجهة نحو الساحل السوري . وبما ان المصفاة المزمع انشاؤها تعتمد على النفط العراقي ، كمصدر للبترول الخام في عمليات التكرير ، فقد رؤي انه من الاسهل والاقل كلفة اختيار أقرب موقع تقع فيه الانابيب المذكورة ، ويكون في الوقت نفسه قريباً من مناطق الاستهلاك .  

2 – يخترق نهر العاصي ضواحي مدينة حمص ، وتقع على مسافة قريبة منها بحيرة قطينة . وبما ان عمليات التكرير والتقطير تحتاج الى كميات كبيرة من المياه ، فقد رؤي الاستفادة من هذه الميزة لمدينة حمص . 

3 – تعتبر مدينة حمص والمنطقة المجاورة لها من المناطق التي تتوفر فيها اليد العاملة اللازمة للقيام بالاعمال الفنية والانشائية . وكان لوجود المركز الرئيس لشركة نفط العراق في المدينة نفسها أثره الفعال في اكتساب ابناء المنطقة مثل هذه الخبرة الفنية . ثم هنالك وفر كبير من المرافق العامة والابنية السكنية التي تتمتع بها المدينة دون سواها في تلك المنطقة . 

4 – تخترق مدينة حمص شبكتا مواصلات : الخطوط الحديدية والطرق البرية ، وكلتاها تربط المدن السورية مع بعضها من جهة ، وتربطها بالمدن الرئيسة اللبنانية من جهة اخرى . ولهذا الاعتبار اهمية واضحة في تسهيل عملية نقل النفط المكرر من مصدر الانتاج الى مراكز التصدير والاستهلاك . 

5 – تقع مدينة حمص في المنطقة الوسطى جغرافياً . وهذا الموقع يجعل المصنوعات البترولية في متناول كل المراكز الاستهلاكية ، مما يساعد في توحيد الاسعار في مختلف المناطق . 

6 – صممت المصفاة بشكل قابل للتوسع حسب حاجات ومتطلبات المستقبل . وبما ان الوضع الطبوغرافي هناك يساعد على ذلك ، سيما وان امكانية تأسيس صناعات بتروكيماوية كبيرة ومتوفرة ، فقد تقرر أخذ هذا الامر بالاعتبار ايضاً عند اختيار الموقع . 

اعتبرت المصفاة منذ تأسيسها مصنعاً قائماً بحد ذاته . فهي تشتمل على قسمين رئيسيين ، الاول يتعلق بالاجهزة الفنية المتنوعة الاغراض الضرورية لهذه الصناعات ومشتقاتها ، والثاني كون المدينة تحتوي على كل المنشآت المختلفة والمنافع العامة . ويتفرع عن القسم الاول ثماني وحدات رئيسة تعمل جميعها بدقة وانتظام في ميادين التكرير والتقطير والتحسين النوعي والتعبئة.  وفي ما يلي وصف لهذه الوحدات :  

1 – قسم عمليات التقطير ، وهو عبارة عن جهاز فني يتألف من خمسة ابراج رئيسة تعمل جميعها تحت الضغط الجوي بكفاءة قدرها مليون طن من البترول الخام في العام . ولكل برج من هذه الابراج وظيفة خاصة به تنشط في حدودها بقصد تحسين التكرير والتحكم بنوعية الناتج . 

2 – جهاز الضغط المخلخل الذي يتم بواسطته تقطير زيت الفيول ، بغية الحصول على مادة الاسفلت . ويعمل هذا الجهاز بكفاءة عشرة الآف طن سنوياً . 

3 – جهاز تكرير البنزين وتنقيته من الشوائب المختلفة ، مما يساعد باستمرار في عملية التحسين النوعي ، وفي فصل المواد الكبريتية والرواسب الاخرى عن مادة البنزين . ويعمل هذا الجهاز بكفاءة عشرة الآف طن سنوياً . 

4 – جهاز وحدة تصفية البنزين والكيروسين . وتبلغ كفاءته السنوية حوالى 150 الف طن من الكيروسين ومئة الف طن من البنزين ، بالاضافة الى كميات كبيرة من وقود الطائرات النفاثة . 

5 – جهاز وحدة تحسين المحروقات . ويعمل هذا الجهاز على تحسين خواص احتراق البنزين . 

6 – وحدة البوتان – البروبان . وهي تعمل بكفاءة قدرها 3500 طن في العام الواحد . 

7 – جهاز غازات الآزوت ( النتروجين ) ويعمل في توليد غاز النتروجين المنقى من الهواء الجوي . 

8 – الجهاز الخاص بتعبئة الاوكسجين . 

اما القسم الثاني المتعلق بالمنشآت الفنية الاخرى ، فيضم الوحدات المهمة التالية :  

1 – المرافق ، وتقسم الى وحدتين :

 أ– وحدة القوى المؤلفة من ثلاثة مراجل بخارية لادارة ثلاث عنقات ، قدرة كل منها 2000 كيلوات / ساعة .

ب– وحدة المياه ، وتحتوي على  ثلاث مضخات بقدرة تعادل حوالى 54 الف متر مكعب في الساعة . ويقوم هذا الجهاز بسحب المياه اللازمة لعمليات التبريد من نهر العاصي .

2 – الجهاز الكيماوي ، وهوعبارة عن مختبر يقوم بتحليل وقياس الغازات والسوائل والمعادن ، بالطريقتين الكيماوية والطبيعية . 

3 – الوحدة الميكانيكية ، وهي الورشة التي تقوم باعمال صيانة وتصليح كل أجهزة المصفاة ومعداتها الفنية ، كما انها تقوم بصناعة بعض فطع الغيار . 

4 – مراكز الشحن ، وهي عبارة عن اربع محطات كبيرة ، باستطاعتها تأمين شحن كل المنتجات البترولية اليومية في خلال ثماني ساعات . وقد خصصت محطة واحدة لشحن البنزين بواسطة الصهاريج ، ومحطة ثانية للشحن بواسطة الخطوط الحديدية . ثم هنالك محطة مخصصة لشحن الاسفلت ، واخرى لنقل غاز البوتان . 

5 – وحدة الاطفاء ، وهي تعمل باحدث الوسائل في مكافحة الحريق والحد من انتشاره بسرعة مذهلة . 

6 – المراكز الادارية ، وهي تحتوي على المكاتب الادارية بكافة فروعها ، ومطعم وعيادة طبية ومركز اسعاف .

إن اقامة المصفاة في الجمهورية العربية السورية جاءت تحقيقاً للاهداف الاقتصادية الطويلة الاجل . ففي أغلب بلدان العالم المنتجة وغير المنتجة للبترول تقوم الحكومات بانشاء المصافي لتكرير النفط بقصد الاستفادة من صناعة البترول والصناعات التحويلية الاخرى التي تشتق عنها وتسهم في التقدم الصناعي المنشود . وقد أصبح بامكان المصفاة السورية تقديم المزيد من المنتجات البترولية ، علماُ انه لم ينقض على انشائها سوى أقل من عامين . وقامت سنوياً بانتاج حوالى 385 الف طن من مادة زيت الفيول و200 الف طن من مادة زيت الغاز و175 الف طن من مادة البنزين الممتاز والعادي و 150 الف طن من مادة الكيروسين و25 الف طن من مادة الاسفلت ، واخيراً حوالى 6 الآف طن من مادة البروبان – البوتان .