النفط .. والسكوت المريب

بقلم معلق الرائد العربي لشؤون البترول  

نشر المقال في تموز / يوليو 1962 ، العدد الواحد والعشرون ، الرائد العربي  

العرب في تجارة الزيت مغبونون . وليس الغبن في المبيع او الشراء بالامر الجديد ، انما الجديد في هذا الغبن مقداره . فما نظن ان التاريخ عرف غبناً على هذا النطاق او بهذا المقدار . بالامس كتب كاتب يقول إن التقدم الذي حققته بريطانيا في مجالي الزراعة والصناعة بني على ما سلبيته بريطانيا من الهند في القرن الثامن عشر. واستشهد الكاتب بمؤرخين قدروا قيمة هذا الاسلاب بما يعادل 18 مليون جينه استرليني في السنة ، لمدة ستين سنة . واضاف قائلاً ان المبلغ يعادل في هذه الايام 180 مليون جينه او ما يقارب 500 مليون دولار . وهو مبلغ لا جدال في انه هائل جداً . لكنه على هوله يتضاءل عند مقارنته بما يخسره العرب زيتاً في كل عام . 

اما ما هومقدار هذا الغبن بالارقام ، فسؤال ليس من السهل ان نجيب عليه بالتحديد . غير ان في وسعنا ان نكوّن فكرة تقريبية عنه . وحين نفعل ذلك ، علينا اولاً ان ندرك ان لهذا الغبن وجهين ، ربما كان الناس أعرف باحدهما ، وهو الأهون من الآخر . 

تقاسم الارباح  

الوجه الاول هو تقاسم الارباح بين حكومات الاقطار المنتجة وبين شركات النفط ، وهو ما يتم عادة في الشرق الاوسط والعالم العربي على اساس قاعدة المناصفة . وقد تبدو ، للوهلة الاولى ، قسمة التناصف في الارباح بين شريكين قسمة منصفة ، لكن هذا الانصاف ، كما تشكو منه الشركات النفطية نفسها ، انصاف في الظاهر فقط . قد لا يعلم البعض ان الشركات نفسها ترى ان في هذه القسمة اجحافاً ، لكنها ترى انها ، لا البلاد المنتجة ، ضحية الاجحاف . وتفسيرها لذلك انها تدفع نصف الارباح الى الحكومات على أساس " الاسعار المعلنة " أي الاسعار الرسمية المقررة ، بينما الاسعار في السوق الحرة دون ذلك . فاذا كان السعر المعلن للبرميل الواحد من الزيت الخام العربي 1.60 دولاراً ، مثلاً ، وكلفت انتاجه 20 سنتاً ، فانه يفترض في هذه الحالة ان الربح 1.40 دولاراً يدفع الى القطر المنتج منه النصف . لكن الواقع ان هذا البرميل لا يباع بالسعر المعلن ، بل يباع بحسم قد يكون 30 سنتاً ، او أكثر أو أقل ، فيبقى للشركة اذن 40 سنتاً ، أي ان القسمة لم تجر بنسبة 50 – 50 ، بل هي أقرب ، كما تقول الشركات ، الى 60 – 40 او حتى 70 – 30 في صالح الحكومات . وانه ليبدو ان الشركات في تظلمها من هذا الاجحاف صاحبة حق .  

غير ان لصاحب الزيت ان يسأل : أين الانصاف في اقتسام الربح ، لا الثمن ، والزيت المباع كله زيته ؟ . ربح يجنى من سلعة هو صاحبها . فكيف لا يكون له من الربح سوى نصفه ، . الجواب ، أي جواب الشركات النفطية ، هو انها تقدم من جانبها الدراية الفنية ورأس المال . وكلاهما ضروري لانتاج الزيت ، وكلاهما غير ميسور للاقطار المنتجة . والجواب على الجواب هو ان الدراية الفنية ثمنها مدفوع أصلاً من ال 20 سنتاً التي احتسبت كلفة للانتاج . فالخبراء والمهندسون تدفع اليهم تعويضاتهم قبل احتساب الارباح ، وليس للشركة ذاتها ، أي حملة الاسهم واصحاب الاموال الموظفة ، ان تنال تعويضاً عن ذلك . والذي يجري فعلاً في الشرق الاوسط هو ان الارباح تقتسم بين الحكومات والشركات " المالكة " ، بينما يقوم بالعمل ويقدم الدراية الفنية ، " عاملة " متفرعة عن الشركة او الشركات المالكة ،وانما تتألف الشركة العاملة من الخبراء والمهندسين وسواهم ممن يقومون بالعمل بالفعل . وهؤلاء يتلقون اجراً لقاء عملهم يحسب من نفقة الانتاج . اما الربح فيذهب الى الشركة المالكة اجراً عما استثمرته من اموال . 

الانصاف يقضي بان تنال الشركة الممولة مردوداً منصفاً على اموالها الموظفة ، لا ان تحصل على نصف الارباح التي لم ينزل منها ثمن السلعة الاساسي ، أي ثمن الزيت وهو بعد في باطن الارض . وقد تكون نسبة المردود العادل موضع جدال ، لكننا لا نتجنى على الشركات اذا انتظرنا منها ان تكتفي بنسبة لا تتجاوز 10 الى 15 بالمئة من اموالها الموظفة ، تنالها ربحاً في كل عام . ويجدر بنا ان نذكرهنا ان نسبة مردودها في فنزويلا، مثلاً ، كانت 12 بالمئة فقط ، وأغلب الظن انها في الولايات المتحدة دون ذلك . فما بالها تريد لمردودها في الشرق الاوسط ان يكون بين 50 و 60 بالمئة ، او حتى أكثر من ذلك كما يقول البعض ؟ .

من الحجج التي تسوقها شركات النفط ان المخاطر التي تتعرض لها تقتضي ، في حال النجاح ، ان يكون ربحها أكبر من الربح المعتاد في المشاريع التي لا مخاطرة فيها . وهي محقة في دعواها اذا كانت تشير الى انعدام وجود الزيت في مناطق امتيازاتها الجديدة ، مما يترتب عليه ان تخسر كل ما تكون قد انفقته في عمليات التنقيب . فمن العدل ، والحالة هذه ، ان يسمح لها بجني مردود عال ، شرط ان يكون على المال الذي انفقته في التنقيب قبل ان يثبت وجود الزيت وقبل ان يزول خطر الخسارة التامة ، أي انه اذا كان احتمال وجود الزيت واحداً من عشرة ، وانفقت الشركة في التنقيب عن الزيت حتى وجدته مليون دولار اميركي ، فان من حقها ان يكون مردودها على هذا المليون 100 او 150 بالمئة . وبعبارة اخرى ان يحتسب لها هذا المليون وكأنه عشرة ملايين ، تجني منه ربحاً بنسبة 10 الى 15 بالمئة . أما ان تنال 50 او 60 بالمئة على ما انفقت بعد ان يثبت وجود الزيت ، فذاك ما لا يبرره خطر قد زال . 

تبرر الشركات ، إضافة الى الخطر التجاري الذي تتحدث عنه في تبرير مطالبتها بمردود عال ، الخطر السياسي . فالشركات التي تستثمر اموالها في بلاد اجنبية ، لا سيما في الشرق الاوسط ، تتعرض للاضطرابات السياسية ، كالتأميم مثلاً . والجواب على ذلك ان هذا الخطر انما هو بصورة غير مباشرة ، من صنعها هي وليس لها هي ان تحتج عليه . فهل كان للتأميم ان يحدث في ايران لو ان شركة الزيت الانكلو – ايرانية كانت تقوم بعملها على اساس تجاري بحت وتجني منه المردود العادل الذي يفترض فيها ان تجنيه ؟ . وهل هناك أضمن للاستقرار السياسي من الرخاء الاقتصادي الذي يتوفر بطبيعة الحال اذا إكتفت الشركات بمردود عادل على استثماراتها وتركت باقي " الارباح " للاقطار المنتجة ؟ .  

سبق ان بينا في مقالات سابقة نشرت في الرائد لعربي صعوبة معرفة المردود الذي تناله شركات النفط فعلاً من استثماراتها في الاقطار المنتجة في الشرق الاوسط . غير انه يبدو من المعلومات المتيسرة عن الارباح والاستثمارات انه لواكتفت الشركات بربح معقول عن كل برميل زيت لا يتعدى 15 سنتاً ، لكان مردود استثماراتها في حدود ال 10 او 15 بالمئة التي تقدم ذكرها . فاذا كان السعر المعلن للبرميل الواحد 1.60 دولاراً وبيع بالفعل ب 1.30 دولاراً فانه يجب ان يحسم من ثمن البيع كلفة الانتاج البالغة 20 سنتاً وربح الشركة 15 سنتاً يبقى من ثمن البيع 95 سنتاً تدفع الى القطر المنتج ، لا حصة من الارباح ولا ضريبة عليها ولا ريعاً للحكومة ، وانما بالدرجة الاولى ثمناً للزيت يدفع لصاحبه . بهذا يزول الغبن الذي تنطوي عليه قاعدة تناصف الارباح . 

سعر الزيت الخام  

يتعلق وجه الغبن الثاني ، وهو الأعظم ، في سعر الزيت الذي رأينا ان الشركات تضطر الى ان تبيعه في السوق الحرة بعد حسم كبير من السعر المعلن ، وبذلك تصبح الاقطار المستهلكة خصماً للاقطار المنتجة ، وان كانت لشركات الزيت دورها الكبير في انخفاض اسعار الزيت الخام . 

لقد أقامت الشركات من نفسها وصياً على مصالح الاقطار المنتجة والمستهلكة معاً . فهي ، كما تقول في معرض تخذيل الحكومات المختلفة عن التدخل في شؤون النفط ، خير من يوازن بين مصالح الطرفين ويرعاهما . لكن السعرالفعلي الذي انتهى اليه الزيت العربي على ايدي شركات النفط ، سعر يقوم على رعاية مصالح الاقطار المستهلكة وحدها . ولا يجوز لنا هنا ان نتغافل عن الصلة الوثيقة التي تربط بين شركات النفط، وهي كلها اميركية او اوروبية ، والاقطار المستهلكة من دون وجود صلة تقابلها مع الاقطار المصدرة . والوافع ان بعض تخفيضات الزيت  إثر الحرب العالمية الثانية ، جاءت استجابة مباشرة لطلب من الاقطار المستهلكة . فمن المعروف ان اسعار سلع التجارة العالمية هي عموماً في صالح الاقطار الصناعية الراغبة بالشراء على حساب الاقطار المتخلفة اقتصادياً ، والتي تعتمد على تصدير حاصلاتها الزراعية والمواد الخام لتستورد ما تحتاج اليه من المنتجات الصناعية . ومن المعلوم ايضاً ان تناسب هذه الاسعار ، او ما يسمى بشروط التجارة terms of trade ، يسير من وجهة نظر الاقطار المتخلفة اقتصادياً من سيء الى أسوأ . فهي مضطرة الى تصدير مقادير متزايدة من الحاصلات الزراعية والمواد الخام للحصول على قدر محدد ومعلوم من المنتجات الصناعية ، وليس كالزيت الخام الذي يصدر من بلدان الشرق الاوسط ، مثلاً ، على اساس هذا التسعير المجحف . فبينما كان سعر الفحم الحجري  وهو عموماً من انتاج البلدان الصناعية ، يتزايد كان سعر الزيت يتناقص . بل ان سعر الزيت العربي في السنين الماضية كان يتناقص في الوقت الذي كان سعر الزيت الاميركي يتجه الى الارتفاع . وهكذا أصبحت اوروبا ، حيث يسوق معظم الزيت العربي ، تحصل على هذا الزيت باسعار بخسة لا تتماشى مع اسعار المصادر الزيتية الاحرى ، كالزيت الاميركي او الزيت الفنزويلي او الفحم الحجري الاوروبي ، وكلها مصادر يمكن لاوروبا ان تلجأ اليها لاستيراد الوقود بدلاً من الدول العربية .

لعل أيسر طريق الى احتساب سعر عادل للنفط العربي هو ما ذهب اليه الطريقي في مؤتمر البترول العربي من ربط سعر النفط العربي بسعر النفط في خليج المكسيك الذي يشكل اكبر مركز للانتاج والاستهلاك في العالم . فقد اقترح الطريقي معادلة الزيت العربي بالزيت الاميركي في لندن التي تمثل السوق الكبرى لزيت الشرق الاوسط . وبمقتضى هذه المعادلة يضاف الى سعر خليج المكسيك كلفة الشحن من هناك الى لندن وتطرح من المجموع كلفة الشحن من الخليج العربي الى لندن فيكون الحاصل هو السعر الذي ينبغي ان يكون عليه الزيت في الخليج العربي . ومن شأن هذه المعادلة ، اذا اتبعت ، ان ترفع سعر الزيت في الخليج العربي بما يقارب التسعين سنتاً . وهذه الزيادة هي في الواقع مقدار الغبن في تسعير الزيت العربي .  

مقدار الغبن 

بناء عليه ، فان عائدات الاقطار المنتجة في هذه المنظمة ، ستبلغ 70 سنتاً عن كل برميل زيت يصدر ، وهي بالتقريب ما تحصل عليه هذه الاقطار حالياً ، يضاف اليها 25 سنتاً ، وهو الربح الزائد الذي تناله الشركات ، ثم 90 سنتاً اضافياً ، وهو مقدار بخس في سعر النفط العربي . وهذه بالطبع ارقام تقريبية تحتاج الى المزيد من التدقيق . انما اذا جاز لنا ان نعتبرها كافية لتكوين فكرة عن مقدار الغبن الذي يلحق بالعرب كمجموعة في تجارة النفط ، وقدرنا ما يحصلون عليه حالياً في كل بلدانهم بنجو 1500 مليون دولار ( على أساس 70 سنتاً عن البرميل الواحد لانتاج يومي يبلغ ستة ملايين برميل ) ، فان مقدار ما تضيعه عليهم الشركات والاقطار المستهلكة تقارب 2500 مليون دولار في السنة . وهذا الغبن صائر الى ازدياد .