ذكر ابن مشعب وأخبار

أصله

هو رجل من أهل الطائف مولى لثقيف، وقيل: إنه من أنفسهم، وانتقل إلى مكة فكان بها. وإياه يعني العرجي بقوله:

بفناء بيتك وابن مشعب حاضـرٌ

 

في سامرٍ عطرٍ وليلٍ مقمـر

فتلازما عند الفراق صـبـابةً

 

أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر

عامة الغناء الذي ينسب إلى أهل مكة له

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: ابن مشعب مغنً من أهل الطائف، وكان من أحسن الناس غناءً، وكان في زمن ابن سريج والأعرج؛ وعامة الغناء الذي ينسب إلى أهل مكة له، وقد تفرق غناؤه، فنسب بعضه إلى ابن سريج، وبعضه إلى الهذليين، وبعضه إلى ابن محرز. قال: ومن غنائه الذي ينسب إلى ابن محرزٍ:

يا دار عاتكة التي بالأزهر

ومنه أيضاً:

أقفر ممن يحله السـنـد

 

فالمنحنى فالعقيق فالجمد

أخبرني الحسين قال قال حماد وحدثني أبي قال: مرض رجلٌ من أهل المدينة بالشام، فعاده جيرانه وقالوا له: ما تشتهي؟ قال: أشتهي إنساناً يضع فمه على أذني ويغنيني في بيتي العرجي:

بفناء بيتك وابن مشعب حاضـرٌ

 

في سامرٍ عطرٍ وليلٍ مقمـر

فتلازما عند الفراق صـبـابةً

 

أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر

نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني

يا دار عاتكة التي بـالأزهـر

 

أو فوقه بقفا الكثيب الأحمـر

بفناء بيتك وابن مشعب حاضـرٌ

 

في سامرٍ عطرٍ وليلٍ مقمـر

فتلازما عند الفراق صـبـابةً

 

أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر

الشعر للعرجي. والغناء لابن محرز خفيف ثقيلٍ أول بالنصر خفيف، وذكر إسحاق أنه لابن مشعب. وذكر حبشٌ أن فيه لابن المكي هزجاً خفيفاً بالبنصر.


وأما الصوت الآخر الذي أوله:

أقفر ممن يحله السند

فإنه الصوت الذي ذكرناه الذي فيه اللحن المختار، وهو أول قصيدة طريح التي منها:

ويحيى غداً إن غدا علي بما

 

أكره من لوعة الفراق غد

وليس يغنى فيه زماننا هذا. وهذه القصيدة طويلة يمدح فيها طريح الوليد بن يزيد، يقول فيها:

لم يبق فيها من المعارف بع

 

د الحي إلا الرماد والوتـد

وعرصةٌ نكرت معاملتهـا

 

الريح بها مسجدٌ ومنتضـد

طائفة من أخباره

أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني محمد بن خلف القارئ قال أخبرنا هارون بن محمد، وأخبرنا فيه وكيع - وأظنه هو الذي كنى عنه حيى بن علي، فقال: محمد بن خلفٍ القارئ - قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني علي بن عبد الله اللهبي قال حدثنا أبي عن أبيه قال: أنشد المنصور هذه القصيدة، فقال للربيع: أسمعت أحداً من الشعراء ذكر في باقي معالم الحي المسجد غير طريح!. وهذه القصيدة من جيد قصائد طريح، يقول فيها:

لم أنسى سلمى ولا لـيالـينـا

 

بالحزن إذ عيشنا بهـا رغـد

إذ نحن في ميعة الشبـاب وإذ

 

أيامنا تـلـك غـضةٌ جـدد

في عيشة كالفريد عازبةٍ الش

 

قوة خضراء غصنها خضـد

نحسد فيها على النعـيم ومـا

 

يولع إلا بالنعمة الـحـسـد

أيام سلـمـى غـريرةٌ أنـفٌ

 

كأنـهـا خـوط بـانةٍ رؤد

ويحيى غداً إن غدا علي بمـا

 

أكره من لوعة الفراق غـد

قد كنت أبكي من الفراق وحي

 

أنا جـمـيعٌ ودارنـا صـدد

فكيف صبري وقد تجاوب بال

 

فرقة منها الغراب والصـرد

دع عنك سلمى لغير مقـلـيةٍ

 

وعد مدحـاً بـيوتـه شـرد

للأفضل الأفضل الخليفة عب

 

د الله من دون شأوه صـعـد

في وجهه النور يستبان كمـا

 

لاح سراج النـهـار إذ يقـد

يمضي على خير ما يقول ولا

 

يخلـف مـيعـاده إذا يعـد

من معشر لا يشم من خذلـوا

 

عزاً ولا يستذل مـن رفـدوا

بيض عظام الحلـوم حـدهـم

 

ماضٍ حسامٌ وخيرهم عـتـد

أنت إمام الهدى الذي أصلح الله

 

به الناس بعـدمـا فـسـدوا

لما أتى الناس أن ملـكـهـم

 

إليك قد صار أمره سجـدوا

واستبشروا بالرضا تباشيرهـم

 

بالخلد لو قيل إنـكـم خـلـد

وعج بالحمـد أهـل أرضـك

 

حتى كاد يهتز فـرحةً أحـد

واستقبل الناس عـيشةً أنـفـاً

 

إن تبق فيها لهم فقد سعـدوا

رزقت من ودهم ومن طاعتهم

 

ما لـم يجـده لـوالـدٍ ولـد

أثلجهم منك أنهـم عـلـمـوا

 

أنك فيما وليت مـجـتـهـد

وأن ما قد صنعت من حسـنٍ

 

مصداق ما كنت مرةً تـعـد

ألفت أهوائهم فأصـبـحـت

 

الأضغان سلماً وماتت الحقـد

كنت أرى أن ما وجدت من ال

 

فرحة لم يلق مثـلـه أحـد

حتى رأيت العبـاد كـلـهـم

 

قد وجدوا من هواك ما أجـد

صوت

قد طلب الناس ما بلغت فما

 

نالوا ولا قاربوا وقد جهدوا

يرفعك الله بالتكرم والتقوى

 

فتعلو وأنت مـقـتـصـد

حسب امرئ من غنى تقربه

 

منك وإن لم يكن له سبـد

فأنت أمن لمن يخاف وللـم

 

خذول أودى نصيره عضد

- غنى في هذه الأبيات الأربعة إبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر -.

كل امرىءٍ ذي يدٍ تعد علي

 

ه منـك مـعـلـومة يدٌ يد

فهم ملوكٌ ما لم يروك فـإن

 

داناهم منك منزلٌ خمـدوا

تعروهم رعدةٌ لديك كـمـا

 

قفقف تحت الدجنة الصرد

لا خوف ظلمٍ ولا قلى خلقٍ

 

إلا جلالاً كساكسه الصمـد

وأنت غمر الندى إذا هبط ال

 

زور أرضاً تحلها حمـدوا

فهم رفاقٌ فرفقةٌ صـدرت

 

عنك بغنـمٍ ورفـقةٌ تـرد

إن حال دهرٌ بهم فـإنـك لا

 

تنفك عن حالك التي عهدوا

قد صدق الله مادحيك فـمـا

 

في قولهم فريةٌ ولا فـنـد

أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنه ما رأى أذكى من جعفر بن يحيى قط، ولا أفطن، ولا أعلم بكل شيء، ولا أفصح لساناً، ولا ابلغ في مكاتبةٍ. قال: ولقد كنا يوماً عند الرشيد، فغنى أبي لحناً في شعر طريح بن إسماعيل، وهو:

قد طلب الناس ما بلغت فما

 

نالوا ولا قاربوا وقد جهدوا

فاستحسن الرشيد اللحن والشعر واستعاده ووصل أبي عليه. وكان اللحن في طريقة خفيف الثقيل الأول. فقال جعفر بن يحيى: قد والله يا سيدي أحسن، ولكن اللحن مأخوذٌ من لحن الدلال الذي غناه في شعر أبي زبيد:

من يرى العير لابن أروى على ظه

 

ر المروري حداتـهـن عـجـال

وأما الشعر فنقله طريح من قول زهير:

سعى بعدهم قومٌ لكي يدركوهم

 

فلم يبلغوا ولم يلاموا ولم يألوا

قال إسحاق: فعجبت والله من علمه بالألحان والأشعار، وإذا اللحن يشبه لحن الدلال، قال: وكذلك الشعر؛ فاغتممت أني لم أكن فهمت اللحن، وكان ذلك أشد علي من ذهاب أمر الشعر علي، وأنا والله مع ذلك أغني الصوتين وأحفظ الشعرين. قال الحسين: ولحن الدلال في شعر أبي زبيد هذا من خفيف الثقيل أيضاً.

أخبرني يحيى بن علي بن يحيى إجازةً قال حدثني أبو الحسن البلاذري أحمد بن يحيى وأبو أيوب المديني، قال البلاذري وحدثني الحرمازي، وقال أبو أيوب وحدثونا عن الحرمازي قال حدثني أبو القعقاع سهل بن عبد الحميد عن أبي ورقاء الحنفي قال: خرجت من الكوفة أريد بغداد، فلما صرت إلى أول خان نزلته، بسط غلماننا وهيئوا غداهم، ولم يجيء أحد بعد، إذ رمانا الباب برجلٍ فاره البرذون حسن الهيئة، فصحت بالغلمان، فأخذوا دابته فدفعها إليهم، ودعوت بالغداء، فبسط يده غير محتشم، وجعلت لا أكرمه بشيء إلا قبله. ثم جاء غلمانه بعد ساعة في ثقلٍ سري وهيئة حسنة. فتناسبنا فإذا الرجل طريح بن إسماعيل الثقفي. فلما ارتحلنا ارتحلنا في قافلة غناء لا يدرك طرفاها. قال: فقال لي: ما حاجتنا إلى زحام الناس وليست بنا إليهم وحشةٌ ولا علينا خوف! نتقدمهم بيوم فيخلوا لنا الطريق ونصادف الخانات فارغةً ونودع أنفسنا إلى أن يوافوا. قلت: ذلك إليك. قال: فأصبحنا الغد فنزلنا الخان فتغدينا وإلى جانبنا نهرٌ ظليل؛ فقال: هل لك أن نستنقع فيه؟ فقلت له شأنك. فلما سرا ثيابه إذا ما بين عصعصه إلى عنقه ذاهبٌ، وفي جنبيه أمثال الجرذان، فوقع في نفسي منه شيءٌ. فنظر إلي ففطن وتبسم، ثم قال: قد رأيت ذعرك مما رأيت؛ وحديث هذا إذا سرنا العشية إن شاء الله تعالى أحدثك به. قال: فلما ركبنا قلت: الحديث! قال: نعم! قدمت من عند الوليد بن يزيد بالدنيا، وكتب إلى يوسف بن عمر مع فراش فملأ يدي أصحابي، فخرجت أبادر الطائف. فلما امتد لي الطريق وليس يصحبني فيه خلقٌ، عن لي أعرابي على بعير له، فحدثني فإذا هو حسن الحديث، وروى لي الشعر فإذا هو راوية، وأنشدني لنفسه فإذا هو شاعر. فقلت له: من أين أقبلت؟ قال: لا أدري. قلت: فأين تريد؟ فذكر قصة يخبر فيها أنه عاشق لمريئةٍ قد أفسدت عليه عقله، وسترها عنه أهلها وجفاه أهله فإنما يستريح إلى الطريق ينحدر من منحدريه ويصعد مع مصعديه، قلت: فأين هي؟ قال: غداً ننزل بإزائها، فلما نزلنا أراني ظرباً على يسار الطريق، فقال لي: أترى ذلك الظرب؟ قلت: أراه قال: فإنها في مسقطه. قال: فأدركتني أريحية الشباب، فقلت: أنا والله آتيك برسالتك. قال: فخرجت وأتيت الظرب، وإذا بيت حريدٌ، وإذا فيه امرأةٌ جميلةٌ ظريفةٌ، فذكرته لها، فزفرت زفرة كادت أضلاعها تساقط. ثم قالت: أوحي هو؟ قلت: نعم، تركته في رحلي وراء هذا الظرب، ونحن بأئتون ومصبحون. فقالت: يا أبي أرى لك وجهاً يدل على خير، فهل لك في الأجر؟ فقلت: فقيرٌ والله إليه. قالت: فالبس ثيابي وكن مكاني ودعني حتى آتيه، وذلك مغيربان الشمس. قلت: أفعل، قالت: إنك إذا أظلمت أتاك زوجي في هجمةٍ من إبله، فإذا بركت أتاك وقال: يا فاجرة يا هنتاه، فيوسعك شتماً فأوسعه صمتاً، ثم يقول: اقمعي سقاءك، فضع القمع في هذا السقاء حتى يحقن فيه، وإياك وهذا الآخر فإنه واهي الأسفل. قال: فجاء ففعلت ما أمرتني به، ثم قال: اقمعي سقاءك، فحينني الله، فتركت الصحيح وقمعت الواهي، فما شعر إلا باللبن بين رجليه، فعمد إلى رشاءٍ من قد مربوع، فثناه باثنين فصار على ثمان قوى، ثم جعل لا يتقي مني رأساً ولا رجلاً ولا جنباً، فخشيت أن يبدو له وجهي، فتكون الأخرى، فألزمت وجهي الأرض، فعمل بظهري ما ترى.