الاقتصاد اللبناني بين الحرية والتوجيه

 

نشرت وقائع الندوة في حزيران / يونيو 1962 ، العدد العشرون ، الرائد العربي  

عقدت هذه الندوة بالاشتراك مع جمعية طلاب الحقوق في الجامعة اللبنانية واشترك فيها السادة :  

1 – الدكتور عصام عاشور الذي ادار الندوة

2 – الوزير بيار اده

3 – الاستاذ زكي مزبودي

4 - الدكتور محمد عطا الله

5 – الاستاذ حسن عواضه  

عاشور : سنعالج في هذه الندوة موضوع " الاقتصاد اللبناني بين الحرية والتوجيه " . ولا بد لنا في مطلع هذه الندوة من ان نبتدئ بتعريف تعبيري " الحرية الاقتصادية " و " التوجيه الاقتصادي " ، ثم ننتقل بعد ذلك الى بحث الاسئلة الاخرى الموضوعة لهذه الندوة . 

السؤال الاول : ماذا نعني بتعبيري " الحرية الاقتصادية " و " التوجيه الاقتصادي " كما نستعملهما بالنسبة للاقتصاد اللبناني ؟ . هل هناك من تناقض بين المفهومين ؟ . 

مزبودي : يتعلق الموضوع الذي نحن بصدده بالموقف الذي تتخذه الدولة ازاء النشاطات الاقتصادية . هل تقف الدولة على الحياد وتترك للافراد حرية الانتاج والتعامل واقامة العلاقات فيما بينهم ومع الخارح بدون تدخل منها ، أم انها تتدخل باسم المصلحة العامة وتتخذ التدابير التي تراها ملائمة لاعطاء النشاط الاقتصادي وجهة ما. ثم اننا نتساءل ، هل ان الحرية او التوجيه موجودان كحالتين مطلقتين . الواقع انه غالباً ما تلجأ الدول الى مزيج من اجراءات الحالتين . واتجاه عصرنا الحاضر هو الى اعتبار " الحرية " و " التوجيه " حالتين مكملتين لبعضهما البعض . فليس هناك من حرية مطلقة ، وليس هناك من توجيه شامل ايضاً .  

وفي لبنان ، أعتقد ان الخط الاساس هو خط " الحرية الاقتصادية"  الذي لا يتنافى مع التوجيه الجزئي في عدة قطاعات اقتصادية ، خاصة ما يتعلق منها بالخدمات الاساسية . ولست أرى من تعارض بين التوجيه ومبدأ الحرية الفردية . 

عواضة : يتناول السؤال المطروح على بساط البحث مفهومي الحرية والتوجيه الاقتصادي كما نفهمهما ضمن اطار الوضع الاقتصادي اللبناني ، وليس من خلال المفهوم العام للتعبيرين . فعندما نتحدث عن " التوجيه الاقتصادي " بالنسبة للبنان ، فاننا ندرك ان هذا المفهوم يخيف الكثيرين من رجال الاعمال عندنا ، لكنني لا أرى مبرراً لمثل هذا الخوف . فالدعوة للتوجيه الاقتصادي لا يتناقض بالضرورة مع الدعوة للحرية الاقتصادية. اما بالنسبة للبنان فان احداً لا يدعو في المرحلة الحاضرة الى التوجيه الاقتصادي الشامل . ومن حيث الواقع ، فان في لبنان حرية اقتصادية ، لكن فيه ايضاً نوعاً من التدخل الحكومي الذي جرى بناء على طلب رجال الاعمال أنفسهم ، كنظام سرية المصارف مثلاً . وان دور الحكومة هذا، في رأيي ، سيزداد يوماً بعد يوم . ومن المثال على ذلك انشاء وزارة للتصميم في عام 1954 ، وزيدت صلاحيات هذه الوزارة خلال عامي 1959 و 1960 ، ثم استعين مؤخراً ببعثة ارفيد التي ذكرت في تقريرها ضرورة اللجوء الى تخطيط اقتصادي في لبنان ، والا فسيتعرض الاقتصاد الوطني الى كارثة خلال فترة السنوات الخمس عشرة القادمة . 

من هنا نرى ان الحالة الحاضرة في لبنان هي من حيث الواقع حالة حرية اقتصادية غير مطلقة الحدود ، في الوقت الذي نرى فيه ان التفكير البعيد يرمي الى نوع من التدخل الحكومي . 

مزبودي : ارجو ان الفت هنا ان التوجيه لا يعني بالضرورة ان تمسك الدولة بجميع نشاطات الافراد وان تحل محلهم فيها . فمن الممكن ان يكون هناك توجيه حكومي عن طريق تحريك الحافز الفردي ، وعن طريق توجيه نشاطات الافراد وجهة معينة تتلائم مع الخير العام . وبهذا المعنى ، فان لبنان يتمشى على اساس توجيه جزئي، وهذا ما يفسر وجود مجلس التصميم ، والمجلس الاقتصادي الاعلى ، ومجلس استشاري للسياحة ، وكلها مؤسسات حكومية تهدف الى درس المخططات اللازمة لكي تدفع بالمواطنين الى الوجهة الملائمة اقتصادياً . 

اده : أعتقدان السؤال يهدف الى توضيح ما اذا كان هناك من تعارض ضروري بين " الحرية " و" التوجيه " ضمن اطار الاقتصاد اللبناني ، وحسب استعمالنا لهذه التعابير بالنسبة لهذا الاقتصاد بالذات ، وليس بالنسبة الى حالات اخرى . 

اولاً ، اعتقد ، من وجهة نظر علمية ، ان تعبيري الاقتصاد الموجه والاقتصاد الحر لا يمكن ان يستعملا لوصف اقتصاد واحد ولا يمكن المزج بين المفهومين . 

ثانياً ، خلافاً للرأي السائد ، فان ما تقدمه مدرسة الاقتصاد الحر لا يعني حتماً النظام السائد في لبنان .     

مزبودي : أود ان استشهد بالاستاذ بيرو ، احد اساتذتنا في فرنسا ، الذي يقول بان الميزة السائدة في العصر الحاضر هي تمشي الاقتصاد الحر والاقتصاد الموجه جنباً الى جنب وفي بلد واحد . 

عطا الله : أعتقد انه في هذا الحال لا بد من تناول النظام الاقتصادي اللبناني في التطبيق . وانني اعتقد انه من غير الدقة ان نقول بان النظام الاقتصادي في لبنان هو نظام الحرية الاقتصادية . ذلك ان هناك الكثير من التشريعات التي لا يمكن ان تصدر في بلد يؤمن بالحرية الاقتصادية . إن هذا لا يعني ، في الوقت ذاته ، ان هذه التشريعات تصدر عن بلد يؤمن بالاشتراكية . العكس هو الصحيح. فمثل هذه التشريعات لا يمكن ان تصدر الا عن بلد عاجز عن التنظيم . فهناك تشريعات الضرائب على الشركات المساهمة وهي مثل جيد في هذا المجال . ولا بأس اذا اخذنا وجهة الحرية الاقتصادية ، ولا بأس اذا اخذنا وجهة التوجيه الاقتصادي ، لكن شرط ان نتقن اياً من النظامين . انني اعتقد ان الاقتصاد اللبناني الآن ليس اقتصاداً حراً بالمعنى السائد في البلاد التي يعرف عنها انها ذات اقتصاد حر ، وليس هو ايضاً اقتصاداً موجهاً بالمعنى المفهوم في البلدان التي تمارس التوجيه .  

عاشور : دكتور عطا الله ، هل من الممكن لك ان تعرف لنا الاقتصاد الحر في البلاد التي تقول عن نفسها انها تتبعه .  

عطا الله : في البلاد التي تطبق النظام الاقتصادي الحر لا تتدخل الحكومة في القطاع الخاص الا عن طريق التشريع الضرائبي . وهي تترك للمبادرة الفردية مهمة القيام بكافة الوظائف الاقتصادية في البلد . لكنها ، مع ذلك ، تحيط احاطة كاملة بالمعطيات الكبرى للاقتصاد وتعمل على توجيه القطاعات الكبيرة منه . ففي الولايات المتحدة الاميركية ، هناك اجهزة حكومية تتابع الاقتصاد خطوة خطوة ، وهي تملك الاحصاءات اليومية عن حركته . وهذه المعطيات لا بد ان تكون مصدراً مهماً للتوجيه الاقتصادي اللازم في المعطيات الكبرى للاقتصاد، كحالات الكساد او التقلبات الاخرى . ففي هذا المعنى ، أعتقد ان الاقتصاد اللبناني عاجز حتى الآن . والاجهزة اللبنانية غير قادرة على تأدية العدة اللازمة للتدخل المؤثر الذكي والقادر في التأثير ضمن مفهوم الحرية الاقتصادية .  

عاشور : يتبين من هذه المناقشة ان الحرية الاقتصادية مفهوم مركب . وتعريف هذا المفهوم مطاط ، قد يمتد من حرية شاملة الى حرية تنطوي على بعض التوجيه . وقد يكون هذا التوجيه ايضاً على النسبة ذاتها من المطاطية ، بحيث يكتفي بالتأثير غير المباشر ، كتشجيع الافراد على القيام بعمل ما او تثبيط عزائمهم وصرفهم عنه ، او يمتد حتى يشمل التدخل الكامل . لذلك نرى ان التوجيه الاقتصادي والحرية الاقتصادية يمثلان ، على الأقل في بعض نواحيهما ، موضوعين متصلين معاً . 

لننتقل الآن الى السؤال الثاني . 

السؤال الثاني : من الملاحظ ان معدلات النمو الاقتصادي في لبنان اخذت في مرحلة ما بعد الحرب ترتفع بسرعة :  

أ – ما هي العوامل والظروف التي أسهمت في تحقيق هذه المعدلات ؟ وايضاً :

1 – الى أي حد أسهمت حالة " الحرية الاقتصادية " في خلق إطار مساعد للنمو ؟

2 – ما هو الدور الذي لعبته الحكومة .

ب – هل نعتبر ان العوامل والظروف التي أسهمت في تحقيق معدلات النمو المرتفعة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ما زالت تحتفظ بفعاليتها ، بحيث تضمن المحافظة على مستويات النمو ذاتها ؟ ، أم نعتبر ان هناك تغيرات ظرفية ووضعية طرأت خلال السنين الاخيرة تجعلنا نشك في امكانية تحقيق مستويات مرتفعة من النمو في ظل الاوضاع القديمة؟ . 

ج – هل من تغير يجب ان يطرأ على الدور الاقتصادي بحيث نحافظ على مستويات النمو المرتفعة ؟ . 

د – من الملاحظ ان لبنان يعاني ، الى حد ما ، من تركيز النشاطات الاقتصادية في مناطق دون اخرى، كما نلاحظ ايضاً ان الريف اللبناني يعاني الى حد كبير من الاهمال الحكومي والشعبي ، مما ينعكس اثره على توزيع الدخول والحالة الاجتماعية . ما هي الخطوات التي يستطيع ان يقوم بها القطاع الخاص في هذا المجال، وكذلك القطاع الحكومي ؟ . 

اده : إن الاشارة الى ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي في لبنان في فترة ما بعد الحرب هو تسجيل واقع لا يحتمل النقاش في ما اظن . السؤال اذن هو عن العوامل والظروف التي ادت الى تحقيق هذه المعدلات . انني من القائلين ان نمو الاقتصاد اللبناني في فترة ما بعد الحرب يعود الى الحرية الاقتصادية التي تحققت تدريجياً في البلد . فقد كان لبنان قبل الاستقلال يعيش في ظل اقتصاد غير حر ، نتيجة القيود المختلفة المفروضة عليه ، أهمها المصالح الاقتصادية للدولة المنتجة . وفي خلال الحرب كانت هناك قيود كبيرة على النشاط التجاري والصناعي . لكن هذه القيود أخذت تخف تدريجياً مع الاستقلال . وربما كان السبب في ذلك متطلبات المصالح الداخلية وليس سياسة الدولة حينذاك ، كما حدث بالنسبة لالغاء مكتب القطع . وانني أذهب الى الجزم بان الحرية الاقتصادية كانت السبب في النمو الاقتصادي . واذا ما كان للدولة فضل ، فذلك انها لم تتشبث بامكان احلال التوجيه الحكومي مكان النشاط العملي للافراد . 

عاشور : هل من عوامل اخرى اسهمت في تحقيق هذا النمو في لبنان غير الحرية الاقتصادية ؟ . 

عواضة : أود ، قبل الاجابة على سؤال الدكتور عاشور ،  ان اورد بعض الملاحظات المتعلقةبالنمو الاقتصادي في لبنان . إنني أوافق الاستاذ ادة على ان النمو الاقتصادي في لبنان في فترة ما بعد الحرب هو واقع لا يقبل الجدل . لكنني أوثر تقديم تحديد لهذا النمو الاقتصادي . فاذا قلنا ان مقياس النمو الاقتصادي هو الارتفاع الكمي في الدخل الوطني يكون كلامنا السابق صحيحاً . 

إن الذي أود ان الفت اليه هنا يتعلق بسوء توزيع الدخل الوطني . فالاحصاءات تشير الى ان قطاع الخدمات قد نما بسرعة . وفائدة هذا النمو تقتصر على بيروت وجبل لبنان من دون المناطق الاخرى ، بينما نرى ان القطاعين الزراعي والصناعي لم ينموا بالسرعة المطلوبة . والى ذلك كله ، يجد الاب لوبريه في تقريره ، ان 50 بالمئة من اللبنانيين يصيبهم 18 و1/10 بالمئة من مجموع الدخل ، بينما يصيب النصف الآخر 81 و9/10  بالمئة من الدخل . لذلك ، لا يكفي ان نتحدث عن معدلات النمو المرتفعة في لبنان ، بل يجب ان ننظر ايضاً الى توزيع الدخل على الافراد .

اما بشأن الدور الذي لعبته الحكومة في هذا الشأن ، فانا أوافق الاستاذ اده على ان الدولة كانت غائبة عن الميدان الاقتصادي ، وان ما حصل من نمو كان نتيجة جهود اللبنانيين . 

عطا الله : يبدو ان كل شيء في لبنان نما بعد الحرب العالمية الثانية . فقد نما الدخل الوطني ونما معه دخل القطاعات والمناطق والطبقات المختلفة ، وكذلك نمت الفوارق بين هذه القطاعات والمناطق والطبقات المختلفة . اما العوامل والظروف التي اسهمت في تحقيق هذا النمو ، فالظاهر ان الازدهار كان جزءاً من ظاهرة عامة شملت العالم بما فيه لبنان . وبالاضافة الى هذه الظاهرة العامة كانت هناك عوامل خاصة ، منها تدفق البترول في البلدان العربية وتخلف التوجيه الاقتصادي فيها ، مما جعل الكثير من تجارة هذه البلدان تأتي عن طريق لبنان فاستفاد منها . ثم هناك توفر الكفاءات المهنية اللبنانية وموقع البلد الجغرافي ومناخه . اما الى أي حد اسهمت الحكومة في مضمار النمو ، فأعتقد انها لم تقم باي مجهود واع في هذا الاتجاه ، وانما كان غيابها عن مسرح الاحداث عاملاً من عوامل النمو . 

عاشور : استاذ مزبودي ، هل توافق على الدور السلبي الذي نسبه الدكتور عطا الله للحكومة ؟ .

مزبودي : أحب ان الفت الاستاذ اده الى ظاهرة تعكس واقع الاقتصاد اللبناني . هذه الظاهرة هي ان التجار يطالبون دوماً بتدخل حكومي لمصلحتهم ، بينما يطالب الصناعيون بابتعاد الدولة عن التدخل قدر الامكان . 

إلا انني ، اجمالاً ، أوافق الاخوان قولهم ان الحرية كانت اساس الازدهار ، لا سيما حرية تنقل الرساميل ، مما أدى الى تدفق الاموال على لبنان ، خاصة من البلدان المنتجة للبترول . لكنني أرغب ان استدرك هنا ان الدولة، عن قصد منها او عن غفلة ، قد أفادت كثيراً من نمو الاقتصاد اللبناني عتدما أقرت قانون سرية المصارف ، وحينما أنشأت المكاتب المستقلة، كمكتب الفاكهة ، وحينما قررت اعفاء الصناعات الوطنية من الضرائب ، وحينما تسعى لتأمين تمويل المشاريع عن طريق مؤسسات ائتمانية تسهم يها الدولة ، كمصرف التسليف . وكذلك حينما تقوم الحكومة بمساعدة القطاع الخاص في ازماته ، تكون قد اسهمت في عملية النمو . ولا شك ان السلطة قد تدخلت في ازمة سنة 1958 ، مثلاً ، خاصة مع المصارف لمنع وقوع اللبنانيين في ازمة مادية حادة عندما ضخت اموالاً كافية في التداول والزمت البنك السوري مد المؤسسات المصرفية بالسيولة الكافية كي لا تتوقف عجلة الاقتصاد اللبناني . 

اده : الظاهراننا متفقون على اكثر النقاط . غير ان هناك ملاحظة أثارها الاستاذ مزبودي تتعلق بما سماه التدخل الحكومي في ازمة سنة 1958 . الواقع انني استطيع هنا ان ادلي بشهادة . فقد كنت عامها مسؤولاً مباشراً عن الوضع المالي ، واستطيع ان أقول انه لم يحصل اي تدخل من قبل المسؤولين . وهذه هي اول مناسبة تتاح لي لكي اوضح الدور الحكومي الممكن في لبنان . ففي ظروف عام 1958 ، لم يجر اي تدخل حكومي ، بينما كان المطلوب من الحكومة ان تقوم بالتدخل للسيطرة على الوضع . وقد اقتصر دور الحكومة المالي ، بنوع خاص ، على محاولة اقناع القطاع الخاص للسير في خطوط معينة لا لاجباره . والفارق بين الاقناع والفرض هو فارق وسيلي كبير بين الحرية والتوجيه . 

عاشور : اعتقد اننا توصلنا ، من خلال حديث الاستاذ اده ، الى تحديد الفارق الاساس بين الحرية والتوجيه الاقتصاديين ، وهو فارق بين الوسائل . واعتقد ان علينا ان ننتقل الآن الى سؤالنا الثالث.  

السؤال الثالث : ما هو مستقبل " الحرية الاقتصادية " و " التوجيه الحكومي " في لبنان ، على ضوء الظروف اللبنانية والعربية والدولية الراهنة ؟ . 

عطا الله : أعتقد ان معظم العوامل والظروف التي اسهمت في تحقيق معدلات النمو المرتفعة في لبنان بعد الحرب العالمية الثانية قد تغيرت . فالازدهارالعام الذي يميز عادت فترات ما بعد الحرب قد أصبحت من الماضي ، وكذلك المدخرات والموارد التي تأمنت للبنان في خلال الحرب قد استنفدت في عملية الانماء الاقتصادي المدني . كما نرى ايضاً ، ان الاقتصاد اللبناني الذي كان يتمتع " بالتفوق البشري " على الاقتصادات العربية المجاورة قد اصبح الآن يواجه خطر فقدان هذا " التفوق " ، ان لم يكن قد فقده فعلاً .  

إن اعتماد الدول المجاورة على نفسها ، إضافة الى الاجراءات الاقتصادية التي تتخذها هذه الدول تؤثر سلباً على نمو التجارة وقطاع الخدمات ، خاصة ما يتعلق منها بتصدير الكفاءات البشرية . غير انها ، في الوقت ذاته، تؤدي الى جوانب ايجابية قصيرة المدى ، واهمها تسرب رؤوس الاموال منها الى لبنان . وبما ان الاقتصاد اللبناني قد اصبح ، كما هو معروف، يشكو خللاً في توزيع المداخيل النسبية بين قطاعاته ، فانا أعتقد انه الآن عرضة لسوء متزايد ، إن لم تقم الحكومة بجهد مباشر وسريع لتحسين الاوضاع بدلاً من ان تتركها عرضة للمؤثرات السلبية المتزايدة . ويجب ان يحصل في لبنان توازن بين قطاعات الخدمات والزراعة والصناعة ، كي نتمكن من تحقيق نمو متوازن ، وكي لا يطغى قطاع على القطاعات الاخرى ، وكي نأمن نسبياً من الآثار السلبية للتغيرات الخارجية . فاعتماد لبنان ، بنوع رئيس ، على قطاع الخدمات يعني اعتماده على عوامل خارجية ليست في نطاق سلطته . 

إن ما كان يمكن تركه للظروف في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية مباشرة لا يمكن ان يترك للظروف الآن ، الا اذا كنا نريد لاقتصادنا ان يتردى تردياً كبيراً . إن ما نحتاج اليه الآن هو الوعي الصحيح لما يحيط باقتصادنا من ظروف قد لا تكون مؤاتية ، خاصة واننا نواجه مزاحمة كبيرة لم نكن نواجهها من قبل . 

عواضة : اتفق مع الدكتور عطا الله فيما ذكره ، واخرج من ذلك الى القول ان التفكير في وضعنا الاقتصادي يجب ان يقودنا الى الاستفادة من مستوى نمونا المالي العام من اجل ان لا يكون  التخطيط الحكومي تخطيطاً تحل فيه الدولة محل الافراد ، بل ان يقتصر عمل الدولة على مساعدة  النشاط الفردي وتوجيهه حيث يكون التوجيه ضرورياً ، وذلك من اجل بناء اقتصاد سليم يقوم على اسس ثابتة ، لا يتكل على الظروف السانحة والطواريء الخارجية وحدها . 

اده : يبدو اننا متفقون على تحديد العوامل . اما ما يعود الى المستقبل ، فان أكثر ما نخشاه ان نؤخذ ، في دراستنا للتدابير او السياسة المطلوبة ، في دوامة النقاش حول الحرية والتوجيه .  

انني اوفق القول ان عوامل كثيرة قد تبدلت ، ولربما كانت هناك عوامل اخرى ستتبدل في المستقبل . انما عندما أشدد على الحرية الاقتصادية ، فانني لا أكون قد اتخذت ، حتى علمياً ، موقفاً ضد زيادة الانتاج والاستقرار ، ذلك ان الامر المهم ، اذا ما أردنا الاستمرار في طريق النمو ، هو ان لا نخطئ في تقديرنا للامكانات الانتاجية التي يمكن ان يوفرها لبنان لاقتصاده . انني اوافق القول ان الازدهار الذي بحثنا عنه لم يشمل جميع المناطق والمواطنين والقطاعات المنتجة بالنسبة نفسها ، لكن هذا لا يمنع ، بالطبع ، من كون الازدهار قد حصل فعلاً ، وان التساؤل يجب ان يوجه الى ضرورة تعميم الازدهار لا الى انكار حصوله . وفي هذا الصدد ، فان جميع ما طالعته حتى الآن من دراسات قامت بها بعثات مختصة ، دعوناها لاعطاء ارشادات اقتصادية لهذا البلد ، تفتقر في نظري الى معرفة هذا البلد بالذات ومعرفة امكاناته الحقيقية . 

ونحن اذ نقول ان اقتصاد هذا البلد هو اقتصاد اللبنانيين لا لبنان ، اقتصاد المواطنين المقيمين وغير المقيمين ، نعني بذلك ان الامكانات الانتاجية المتاحة محلياً هي امكانات محدودة حتماً . وهذا هو الواقع . مع العلم اننا لم نستثمر بعد كافة امكاناتنا المتوفرة في الحقل الانتاجي . لكن الاستمرار في عملية التنمية والنمو في المستقبل تفرض علينا ان لا نخطيء في تقدير موارد دخلنا الوطني . كما انه لا يجب ان نخاف على قطاع الخدمات من المؤثرات الخارجية ، ذلك ان هذه الخدمات غير محصية وتشمل نشاطات مختلفة من تجارية ومالية وفنية . لكن اذا ما نظرنا الى المستقبل البعيد ، والابعد منه ، نرى ان لا بد من نهاية لهذه الخدمات . ومع ان هذا الوقت ما زال بعيداً ، فانه من الافضل ان نبدأ بتعديل وضعنا الاقتصادي وركائزه . 

 اما بما يتعلق بالقطاع الخاص ، فانا واثق بان هذا القطاع ، اذا ما توفرت له الشروط التشريعية التي تؤمن له اسباب المعاونة في الانتاج ، يستطيع الاستمرار بالنهوض باقتصادنا . 

عطا الله : اود التعليق على دور قطاع الخدمات في الاقتصاد اللبناني . من المسلمات ان هذا القطاع مسؤول عن النسبة الكبرى من الدخل الوطني . والاصرار على الحد من مساهمة هذا القطاع والوقوف عند الحد الذي وصل اليه ، هو اصرار لا مبرر له . والواقع اننا ندعو الى الاستمرار في دفع قطاع الخدمات ، انما من دون اهمال القطاعات الاخرى ، وان الجهد في تنمية قطاع الخدمات يجب ان يرافقه جهد اكبر في القطاعات الاخرى المتخلفة ، وهي القطاعات التي ذكر الاستاذ اده ان مواردها ليست مستغلة استغلالاً تاماً . 

عاشور : أرى ان البحث ينتقل تدريجاً باتجاه الدور الذي يجب على الحكومة ان تؤديه ، والى السياسة الاقتصادية بصورة عامة في المستقبل ، تلك السياسة التي تساعد لبنان على الاحتفاظ بمستويات نمو مرتفعة ، وتكفل ، في الوقت نفسه ، هذا النمو على مختلف الصعد والقطاعات وفي كل المناطق . 

عاشور : سؤالنا الرابع والاخير يتعلق بالاجراءات التي يقترحها الاخوان وصولاً الى هذه الغاية المبتغاة .  

مزبودي : أعتقد ان العوامل والاوضاع الظرفية التي تكلم عنها الاخوان ، جعلت الفكرة السائدة ان هناك ضرورة للقيام بتدابير تشريعية ، حتى لا نقول تدخلية من قبل الدولة ، في سبيل الحفاظ على مستوى النمو والعمل على زيادته . كما انه ينبغي ايضاً العمل على توزيع الزيادة التي يمكن ان تطرأ ، والدخل المالي ايضاً ، بشكل عادل على مختلف المواطنين والطبقات والمناطق . وفي ما يتعلق بالقطاع الخاص ، أعتقد انه لا مجال لاي تدخل من قبل الدولة للحلول محل الافراد بحجة المحافظة على مستويات النمو او رفعها . انما هناك ناحية مهمة ، وهي ضرورة عدم ارتكاز الاقتصاد اللبناني على قطاع الخدمات وحده ، بل لا بد ، تحسباً لأي طارئ ، من الاعتماد بشكل متزايد على قطاعي الصناعة والزراعة وحمايتهما ومساعدتهما من قبل الدولة .  

عاشور : استاذ مزبودي ، الى أي مدى يمكن التوفيق بين الاجراءات التي تقترحها والحرية الاقتصادية التي نمارسها الآن ؟ . أي هل هناك من تطوير مقترح في تطبيق الحرية الاقتصادية التي نمارسها الآن ؟ .

مزبودي : ما زلت عند رأي ان الحماية للصناعة والزراعة ، مثلاً ، يمكن ان تسير جنباً الى جنب مع الحرية الاقتصادية . وحينما تلجأ الدولة الى فرض الحماية لفترة من الزمن ، فانها تقوم باجراء موقت لا يتنافى مع الخصائص الثابتة للنطام الحر . 

عطا الله : من اجل ان نفهم دور القطاعين العام والخاص في هذه المرحلة ، يجب ان نعرف ماذا نريد للبنان . ولكي ينجح لبنان يجب ان يصبح ، في رأي ، بلد النوعية . فلقد حبت الطبيعة لبنان كل شيء . والمطلوب هو حسن استغلال هذه الموارد الطبيعية وتهيئتها بكفاءة لنتمكن من ان نزاحم الآخرين . فلدينا في لبنان مجال كبير لكي نحسن مواردنا السياحية وموارد الخدمات والزراعة ، ويجب ان يكون هناك مجال لتحسين موارده الصناعية ايضاً . ونحن عندما نسعى لايجاد طريق العمل ، يجب ان نسعى للاتقان ، ولا يمكن ان ننتظر مستوى معيشة في بلد قليل الموارد المادية ، كلبنان ، الا اذا احسنا استغلال هذه الموارد . وانا اعتقد ان هناك مجالاً لاقتسام المسؤوليات بين القطاع الخاص والقطاع العام في هذا المجال . فكل ما يتعلق بتجهيز البلاد بالكهرباء والماء والطرقات الخ .. هو من مسؤولية الدولة ، خاصة في المناطق المتخلفة من لبنان. وهناك مسؤولية اخرى تتعلق بتنشئة الفرد اللبناني ، وهي من مسؤلية الدولة . وفي ما يتعلق بتوزيع الدخل بين الطبقات، فاعتقد ان الدولة بحاجة الى تنفيذ القوانين الموجودة ، وليست بحاجة الى سن قوانين جديدة . اما في ما يتعلق بالصناعة والتجارة ، فانا اعتقد ان عند القطاع الخاص من الكفاءة ما يمكنه من استغلال التجهيزات الاساسية التي تؤمنها الدولة لحل كل المشاكل التي ذكرناها . 

اده : انا لا أشك اننا بحاجة الى تعديل بعض القوانين الحالية والى سن قوانين جديدة ، ولا يمكن ان نكتفي بما هو موجود منها حالياً . وبالنتيجة ، فانني اعتقد ان الجو العام لهذه الندوة يجعلنا نخرج بنتيجة تفاؤلية بالنسبة للاقتصاد اللبناني .