معنى الرقم

منى الصلح

نشر هذا المقال في نيسان / ابريل 1961 ، العدد السادس ، الرائد العربي

من أبرز خصائص المدنية الحديثة ان نظرة الانسان الى الرقم قد أصبحت تختلف اختلافاً كبيراً عما كانت عليه في السابق.

ولعلنا لو شئنا ان نختار رمزاً واحدأ نرمز به الى الحديث في مقابل القديم ، والنامي في مقابل الراكد ، والمتطور في مقابل المتخلف ، لما إستطعنا ان نجد أحق من الرقم بتمثيل العوامل الجديدة التي تفعل في تسيير التاريخ .

إن جميع الخطوات التي خطاها الانسان في طريق تحرره ، وفي خلال مختلف مراحل التارخ البشري ، إنما كانت تستند ، عبر كل هم وعبر كل جهد ، الى الايمان بمطلق معين تشكل فكرته القوة الروحية الاساسية التي تدفع الانسان الى المزيد من التقدم والمزيد من محاولة السيطرة على الكون .

في المرحلة الاولى من تاريخ الحضارة البشرية ، كان هذا المطلق يتمثل في فكرة الارادة الإلاهية. و كل رأي سديد من الاراء ، وكل نظرة من النظريات ، وكل اجتهاد من الاجتهادات قادر ، بما يستطيع ، ان ان يثبت انه من ارادة الله . والنصر في النهاية معقود لمن يمثل وما يمثل هذه الارادة ، والهزيمة مقدرة لمن يمثل العصيان عليها .

ثم جاءت مرحلة اخرى كان فيها المحرك المطلق و الملهم هو فكرة الطبيعة . فالسلامة في أي نظام سياسي او اقتصادي او اجتماعي متوقفة على تلاؤم هذا النظام مع " الطبيعة" . وكل قيمة مغلوطة هي تلك التي كانت غير " طبيعية " . وكل تصرف إنساني صحيح هو الذي يستطيع ان ينسجم مع إرادة الطبيعة .

دخلت البشرية ألان مرحلتها الحالية التي أصبح فيها الرقم هو المطلق حيث يشكل الايمان القوة الروحية الاساسية لعملية التقدم البشري . فالاعتماد على الرقم والرجوع اليه كمرشد وموجه ومحاولة استنطاقه بكل ما يكمن في صمته الموحي من كلام ، ثم الاصرار على ان يكون الرقم هو الصيغة النهائية التي يعبر بها عن الحقائق باعتباره في نظر الانسان المعاصر ألصق التعابير البشرية باليقين ، كل ذلك بات من المدنية الحديثة بمثابة الطابع الغالب والعلامة المميزة .

وقد توسعت تلك الرقعة من علوم العقل البشري وفنونه التي يكون الرقم فيها هو السيد . فلم يعد الرقم عدة الرياضي وطلبته واداته وحده ، ولم يعد الرقم مقتصراً على ما يسمى بالعلوم الدقيقة كالفيزياء والفلك والكيمياء ، إنما أضحى الرقم عنصراً اساسياً في كل العلوم ، من علم التاريخ حتى علم الاجتماع ، بل في جميع الفنون ، من فن النحت حتى فن الحكم . وحيث لا رقم ، فهناك الصبوة الى الرقم . ففي صدر كل عالم وكل فنان وكل حاكم ، يكمن شوق دفين الى أن يفسر نظريته او أثره الفني او صنعته ، مهما كبرت اوصغرت ، بالرقم .

هذا في عالم الانسان الغربي الحديث . أما في عالم إنساننا العربي ، فالرقم ، بالقيم والمستويات والهموم الملازمة له ، لم يزل دون منزلته الرفيعة المطلوبة . واذا كانت عبارة سقراط الشهيرة : "اعرف نفسك " هي مفتاح الحكمة ، فإن الانسان العربي الحديث ، بسبب عدم تقديره للرقم ، هو أبعد ما يكون عن مفتاح الحكمة هذه . وكما يقال لمن لا يستطيع تمييز الالوان أنه " أعمى لون "، يمكن أن يقال عن الفرد العربي أنه ، بوجه عام ، " أعمى رقم " .

إنه " أعمى رقم " على أكثر من صعيد ، بدأ بالرقم كحاجة من حاجات حياته الشخصية اليومية حتى الرقم كمرشد وموجه ومنظم واداة قياس وتحليل وتخطيط وتجميل .

هذا " العمى الرقمي " نجده في المؤسسات الاهلية ، وفي الدوائر الحكومية ، عند احتساب الثروات الخاصة وعند دراسة الطاقات والامكانات القومية . إنه حيناً عجز ، وحيناً نقص ، وحيناً عدم مسؤولية . وهو في كل حال ضرر جسيم .

واذا كانت عبارة سقراط الشهيرة " اعرف نفسك " هي مفتاح الحكمة ، فإن الانسان العربي الحديث ، بسبب عدم تقدير الرقم ، قد أصبح أبعد ما يكون عن مفتاح الحكمة هذه . على ان ذلك كله لا يعني اننا ، في مقالنا هذا ، نتهم العقل العربي بالعجز ونشكك في طاقاته وقدرته . ويكفي ان نتذكر ان العرب هم الذين نقلوا الى اوروبا الصفر حتى نعرف فضلهم على الرقم . فالنظام الرقمي المعروف في العالم الغربي هو نظام " الارقام الغبارية " نفسها الذي عرفه العرب واعتمدوه في شمال افريقيا وفي الاندلس . وقد بقي هذا النظام غير مأخوذ به عملياً في اوروبا حتى القرن السادس عشر .

من الصعب على المرء ان يتصور ان البشرية كانت ستستطيع ان تخطو الخطوات التي خطتها بعدئذ ، في المدنية وفي الثقافة ، لولا فضائل النظام الرقمي الذي يتقاسم فخره في تاريخ البشرية الهنود والعرب . ورأس هذه الفضائل ، من غير شك ، استعمال الصفر الذي يسر الترقيم ومع الترقيم علم الحساب . وقليلة جداً هي الافكار التي خدمت التقدم البشري كما خدمته فكرة تغيير قيمة الرقم بتغيير منزلته . ولعل ما نقل الينا من مصاعب ، الطريقة القديمة التي كان الانسان ، قبل عهد الصفر ، يقوم فيها بالعمليات الحسابية ، كافٍ لادراك قيمة هذه المساهمة الهندية – العربية الجبارة .

حاول بعض المستشرقين ان ينسب الى العقل العربي خاصة، والعقل السامي عامة ، العجز عن ادراك حدة الرقم وصرامته ودقته .وأخذ هذا البعض من تاريخ العرب ومن حاضرهم ما اعتبره دليلاً على العجز "الرقمي" عند الانسان العربي . ولم يلتفت هؤلاء الى ان التاريخ العربي ، ككل تاريخ ، فيه الدليل على الشيء ونقيضه . كما لم يلتفتوا الى ان الرقم لم يخرج الغرب من نطاقه النظري البحت ومجاله التطبيقي المحصور إلا في عصور متأخرة ، بعد الثورتين العظميين التجارية و الصناعية .

فالرقم ، وان كان هو بالاصل ، من عمد هذه الثورات ، إلا أنه ، من ناحية ثانية إنتعش بها وازدهر واستطال ظله على الحياة الفكرية والعملية .

لعل في طليعة ما يؤمل بالنهضة العربية الحديثة التفاتها الى ضرورة تنظيم الاعتماد على الرقم تنظيماً علمياً مسؤولاً . فقد بدأت تعمل في الوطن العربي المؤسسات التي مهمتها استعمال الرقم كأداة تسجيل وتقييم وقياس في عوالم العلم والاجتماع والاقتصاد . وفي ظل راية الاحصاء العلمي التي يكاد يتظلل بها في اوروبا واميركا وجزء كبير من آسيا كل شيء ، نشأت في ارض العرب اجهزة حكومية احصائية وقامت معاهد اخصائية ومؤسسات أهلية ، تمد النشاط الثقافي والاجتماعي والاقتصادي بالمقاييس التي توفر لهذا النشاط القواعد الصالحة والسبل السليمة ، وتعيِن للانسان العربي في القطاعين الخاص والعام الشوط الذي قطعه وذلك الذي لم يقطعه بعد . وفد أصبح هذا الانسان يملك الآن ، نواة إحصاءات إقتصادية وإجتماعية وعلمية ، إن لم تكن كافة اليوم ، فإنها في طريق التكامل في كل مكان ، وعلى الاخص في الحكومات العربية التي باتت تعتمد اكثر من قبل واكثر من غيرها مبدأ التخطيط . إن الرقم هو عنوان الدقة . وقد تكون هذه الامة من أحوج الامم الى هذه الفضيلة في استعمال مواردها وطاقاتها على الوجه الذي يؤمن للامة نهضتها الشاملة الشاقة أكبر قدر من السداد والمنعة .

من هنا أهمية الرقم ، لا كمادة تجمعها مؤسسات وتنشرها معاهد فحسب ، بل كعقلية مستنيرة وطريقة في النظر الى شؤون الحياة ، تستمد قيمتها من كونها الوسيلة العلمية الاحق بهذا النعت . واذا كانت الهند قد شاركها العرب في السابق فضل خدمة الرقم ، هي الآن رائدة من رواد الاحصاء العلمي في العالم ، فإن في ذلك حافزاً تاريخياً للعرب ان يشاركوها اليوم ايضاً في تقديم النموذج الصالح لنهضة جديدة في آسيا ، فيها من الرقم كل ما فيه من معاني القوة والتماسك .