ترشيد الاستهلاك في المجتمع العربي

د . عبد المجيد فراج

نشر المقال في تشرين الثاني / نوفمبر 1961 ، العدد الثالث عشر ، 1961  

ليس من الصعب ان نتصور مدى ارتباط مستوى المعيشة بالانتاج . فمن اجل ان يرتفع مستوى المعيشة لا بد ان يزيد معدل الانتاج . فالزيادة هذه ليست هدفاً في حد ذاته ، بل وسيلة لتحقيق هدف أعلى وأسمى هو رفع مستوى معيشة الانسان والشعب ككل . لكن ، هل يعني هذا ان أي زيادة في الانتاج يترتب عليها بالضرورة ارتفاع في مستوى المعيشة ؟ . وهل يكفي ان يزيد الانتاج في اي اتجاه كان ، لكي يتحقق هذا الارتفاع في مستوى المعيشة ؟ . إن أي دولة في العالم تستطيع ان ترفع انتاجها من المحاجر او من الاتربة ويظل انتاجها من هذا التراب او ذاك المحجر يتراكم بغير استخدام  ، ويظل  في الوقت نفسه ، مستوى المعيشة على ما هو عليه . ومعنى قولنا هذا انه لكي يرتفع مستوى المعيشة لا بد ان يكون لكل ناتج استخدامه داخل حدود الدولة او خارجها . 

هذا الشرط الذي ذكرناه ليس بالشرط الوحيد . فقد تنتج الدولة اشياء تغلب عليها الطبيعة الاستهلاكية المباشرة فيستهلكها الشعب عن آخرها . وحين يزداد الطلب على هذه المنتجات ، اما بفعل ارتفاع عدد السكان او باطراد الرغبة في المزيد من الاستهلاك لنفس العدد او بهما معاً ، وتعجز الدولة في ايجاد السبيل لمواجهة هذا الطلب المتزايد بتوسيع طاقاتها الانتاجية التي تملكها  لأنها لم تحتط لمستقبل ايامها بتخصيص جزء من انتاجها للوفاء باغراض التوسع فيه مستقبلاً ، ذلك لأن الانتاج ليس حالة يمكن ان تصل اليها الدولة وتقف عندى المستوى الذي تصل بالانتاج اليه ، بل هو عملية مستمرة متجددة يتعين لاستمرارها وتجددها ان يتنوع الانتاج بحيث لا تستأثر السلع الاستهلاكية به كله او تختص به السلع الانتاجية كله .. ويكون هذا الانتاج قريباً من هذه السلع وتلك فيفي بذلك ببعض حاجات الاستهلاك ويضمن استمرار العملية الانتاجية لتحقيق المزيد من سلع الاستهلاك مع مرور الزمن . 

حين نتحدث عن الدولة لا نعني الحكومة بالذات . ولا احب ان ينصرف الى الذهن اننا نعني بها الحكومة . فالدولة هي مجموعة افراد يعيشون حياة مزدوجة تتمثل في حصولهم في الحياة على بعض الحقوق ، وقيامهم في الحياة ببعض الواجبات . فهم يؤدون أعمالاً مختلفة متباينة ويتمتعون في مقابل هذا بنتائج اعمالهم . ومن البداهة ان نتصور ان انصراف الناس عن اعمالهم واهمالهم اداء واجباتهم في المجتمع سوف يترتب عليه ، ان آجلاً او عاجلاً ، ان يحرموا من ثمار ما كانوا يؤدونه من اعمال . فانتاج الدولة هو انتاج افرادها ، واستهلاكها هو مجموع استهلاكهم . وحرص الدولة على التوسع في مجال او نشاط وآخر مستمد من حرص افرادها على التوسع في هذا المجال او ذاك . واحتياطات الدولة هي مجموع احتياطات افرادها ، ومدخراتها هي مجموع مدخراتهم ، واستثماراتها هي مجموع استثمارات الشعب . 

اذا ما سلمنا ان الدولة عندما تريد توسيع طاقتها الانتاجية كوسيلة لزيادة الانتاج ، يتحتم عليها ان تعير السلع الانتاجية اهتماماً خاصاً والآ تنصرف فقط الى انتاج سلع الاستهلاك النهائي ، او ان تصدر هذا الانتاج الاستهلاكي الاولي او النهائي لكي تحصل في مقابله على ما تعجز عن انتاجه من تلك السلع الانتاجية . فلا بد لهذا التصرف من ان تنعكس آثاره على افراد الشعب كله او بمجموعه . فلا تستطيع الدولة ان تنتج سلع الانتاج على حساب سلع الاستهلاك ، ولا يمكن للاخيرة ان تنقص او للاولى ان تزيد الا اذا تحول الناس عن الانفاق على سلع الاستهلاك الا في حدود ما يلزم ، وسخروا جزءاً من هذا الانفاق لتدعيم صناعات سلع الانتاج في بلدهم . فاذا كانت الدولة لا تنتج سلع الانتاج ، فان انصراف الافراد عن السلع الاستهلاكية ، ولو جزئياً ، يساعدهم في تكوين مدخرات ما كان لها ان تتكون لولا انصرافهم عن شراء سلع الاستهلاك . ويمكن للدولة ، في هذه الحالة ، ان تستعين بمدخراتها ، أي بمدخرات الافراد ، لتكون طاقات انتاجية جديدة تستعين بها في توسيع رقعة الاستهلاك لصالح الشعب المدخر . 

الفكرة ، اذن ، هي ان الاقتصاد النامي لا يقوى ابداً على تحقيق الزيادة في الاستهلاك في طفرة واحدة . لكنه ، كي يحقق هذه الزيادة بالتدريج ، لا بد له من ان يحرص دائماً على تدعيم نفسه ايضاً بالتدريج . فاذا كان في الدولة مزرعة واحدة لا بد من السعي لكي تصبح المزرعة مزرعتين . واذا كان فيها مصنع واحد وجب ان يصبح مصنعين . ولا يمكن ان يتحقق هذا الهدف الا اذا حرص الشعب على ان لا يستهلك كل ما ينتج . عندها تزداد الآته ومعداته وتتسع طاقته الانتاجية ، ويجد نفسه باستمرار في موقف يسمح له باباحة قدر زائد من السلع للوفاء بالحاجات الاستهلاكية المحلية المباشرة . ولا أحب ان يفهم من هذا ان شرط الانماء هو ان لا يزيد الاستهلاك . فالزيادة المطلقة في الاستهلاك شيء لا بد منه . لكن المقصود هنا ، انه يجب ان لا يزيد الاستهلاك بنفس نسبة الزيادة في الانتاج ، وإلا وجدت الدولة نفسها دائماً حيث بدأت في اول الطريق . فبينما يحقق انتاج السلع الاستهلاكية مغنماً عاجلاً وسريعاً لا فراد الشعب ، يرتفع به مستوى معيشتهم الى حين ، فان انتاج السلع الانتاجية جنباً الى جنب مع السلع الاستهلاكية ، يساعد الدولة على تأمين حد أدنى لمستوى المعيشة ، ويظل هذا الحد قابلاً للزيادة والارتفاع بشكل منتظم ، مما يرفع مستوى المعيشة بصورة متكررة ومترددة . 

لكن ، هل يعني هذا ان تفرض الدولة الحرمان على شعبها ؟ . 

لا أحسب أن دولة من الدول ترضى ان تعيش وسط المتناقضات ، ولا يعقل ان تسعى دولة لرفع مستوى معيشة شعبها في ان تسعى لاتاحة مزيد من السلع والخدمات لافرادها ومع هذا تفرض عليهم الحرمان . انما المشكلة هي مشكلة مؤامة وتنسيق . ويكفينا لاثبات هذا الامر ان نتصور ان عناصر الاستهلاك في اي بلد لا تخرج عن مجموعتين ، واحدة ضرورية والاخرى كمالية . فاذا نحن نركنا الاخيرة ، أي الكمالية ، إما لأنها اوضح من ان تستبان او لانها جدلية بحيث يختلف الرأي حول اعتبارها ضرورية ام لا ، وركزنا اهتمامنا على الضروريات لوجدناها اساساً تنحصر في الغذاء والملبس والمسكن .  

الغذاء في اي دولة ، وبالنسبة لأي شعب ، تتحكم في تحديده جملة عوامل ، منها العادات والتقاليد المتوارثة ، ومنها الاعتبارات الغذائية النظرية . فاذا حاولنا ان نوفق بين الجانبين ، او ان نأخذ الجانبين بعين الاعتبار ، لأمكننا ان نلاحظ ان أصنافاً كثيرة من انتاجنا الغذائي يمكن ان تكون سلعاً تصديرية ، من دون ان يكون في هذا اعتداء على التقاليد والعادات ، او ان يكون فيه اجحاف بحق الشعب في حصوله على غذائه الكافي الذي تتوافر فيه كل الشروط الصحية  السليمة . ويكفينا ان نلقي نظرة واحدة على احوالنا المعيشية لكي نتبين ان بعض ما نستهلكه من خبز ومما نلقي به في سلال القمامة قديداً لا يصلح للاستهلاك ، كان يمكن ان يظل قمحاً للتصدير او الا يزرع قمحاً على الاطلاق ويزرع محاصيل اخرى بدلاً منه . ولو اننا اشترينا من الخبز ما نحتاج اليه فقط بغير ضياع ، لوفرنا بذلك على الدولة انتاجاً يمكن ان تستفيد منه وبالجهد المبذ ول في انتاجه في وجوه اومحاصيل اخرى .  

الفاكهة التي ننتجها متنوعة . يمكننا ونحن في مراحل الانماء ان نخصص جزءاً منها للتصدير ، خصوصاً وان ظروفنا الانتاجية لبعض الفاكهة أكثر ملاءمة من ظروف اوروبا ، مثلاً ، بما يمكن ان يجعلنا سادة اسواق الفاكهة فيها لو اننا قصرنا استهلاكنا من الفاكهة على انواع محددة منها . ولن يكون في هذا اجحاف على الاطلاق بحقنا في الغذاء من الفاكهة . 

ثمار النخيل عندنا ضائعة . ولم نحاول حتى الآن ، في جانب كبير من وطننا العربي ، ان نقيم صناعة لتجفيفها او حفظها بصورة او اخرى وتخصصها لاغراض التصدير بصورة رئيسة . وغير هذه وتلك ، مظاهر عديدة لانواع شتى من الضياع في الاستهلاك ، تمثل في النهاية عبئاً على اقتصادنا القومي وتجعلنا ، بالتالي ، دولاً عاجزة عن استيراد اللازم المفيد بسبب عجزنا في توفير فائض وافر للتصدير مقابل ما يلزمنا استيراده . 

أما ملابسنا ومبانينا فعليها سيماء التقليد والنقل بغير رشد ، بينما لو حرصنا على ان تكون هذه المباني وتلك الملابس نابعة من ضمير حياتنا ومستمدة من طباع معيشتنا لبلغت من البساطة حداً يكفل لنا الاستغناء عن بعض ما نستورده من موادها وبما يمكننا من الاستعاضة عنه باستيراد اللازم المفيد لارساء قواعد صناعات وطنية قوية . وهنالك أمثلة اخرى كثيرة يمكن ان نكتشفها  بمجرد الحرص على التدقيق والملاحظة .  

لا يفوتني هنا ان أسجل بعض الملاحظات الخاصة باستخدامنا لمرافقنا العامة والخاصة على وجه الاجمال ، إذ يجب علينا ان ندرك ان كل ما في بيوتنا وما تهيئه الدولة لنا في الشوارع والطرقات إن هو الا جزء من الثروة القومية . وبقدر ما نسيء استخدام هذه الممتلكات الخاصة بنا او الخاصة بالدولة ، بقدر ما تتكبد الدولة ونتكبد نحن كأفراد من انفاق لاستبدالها او صيانتها . لذلك نرى أنفسنا دائماً وقد أصاب القدم كل ما نملك بمعدل سريع . فبدلاً من ان نبني منزلاً جديداً ترانا دائماً نعيد اصلاح منزل قديم . وبدلاً من ان تشق الدولة طريقاً جديدة او تضيء شارعاً جديداً ، نراها تنفق معظم مالها في صيانة طريق قديم او في اصلاح أعمدة الاضاءة في الشارع القديم نفسه . وفي دور الحكومة ومبانيها ، مكاتب وحجرات يصيبها البلى والقدم لمجرد اننا نسيء استخدامها فتبلى وتضمحل او تصبح غير ذات قيمة تذكر بعد ان كانت جزءاً كبيراً من الثروة العامة ، او تنفق الدولة عليها مبالغ متتابعة وعلى فترات لو اننا حرصنا عليها من الكسر او الاتساخ .

نحن لا نعلم ان تصرفاتنا تعود فترتد الى نحورنا من جديد . فبدل ان ننتج كل عام شيئا جديداً ، ترانا نصون الشيء القديم نفسه ، وبدل ان نستورد بقصد الاضافة والتنمية ترانا نستورد بقصد الصيانة والاحلال والتجديد .

لست اعارض الصيانة والتجديد . فهما ، من غير شك ، أسس لازمة للمحافظة على الطاقة الانتاجية . لكنني اعتقد ان في امكاننا ان نجعلها تتم على فترات متباعدة ، مما يتيح لنا القدرة على استغلال المال الذي نوفر في خلق طاقات جديدة وفي بناء مجتمع جديد .