كيف أسهم العرب في إكتشاف العالم الجديد

قصة الامير البرتغالي مؤسس اول معهد لفن الملاحة (1)

ترجمة وتلخيص : اميل موسى

نشر المقال في تشرين الاول / اكتوبر 1961 ، العدد الثاني عشر ، الرائد العربي  

جميعنا يعلم من هو فاسكو دا غاما ومن هو ماجلان والكثير مما قرأناه عن الرحلات البطولية التي قاما بها وأسهمت في تغير وجه التاريخ . لكن من المؤكد ان قليلين منا يعرفون ان وراء هؤلاء وغيرهم من مشاهير ملاحي البرتغال في القرن الخامس عشر الميلادي تكمن شخصية فذة كانت الملهم الأول لهذه الاكتشافات والرأس المدبر الذي مهد لها . 

كانت السفن المعروفة في اوروبا في أوائل ذلك القرن أضعف من ان تتحمل مثل هذه الاسفار الطويلة . كما ان فن الملاحة كان لا يعدو مجموعة من الاختبارات الشخصية تكتسب بالمران مع معرفة بالموانيء والمواقع المطروقة ، مقرونة بكثير من الخرافات عن البحار " المظلمة " والصخور التي " تنتهي عندها الدنيا " . وكان من الجنون ان يحاول احد استحداث طريق ملاحي جديد او الابحار في مياه لم يسبق لاحد ان مخر عبابها . لكن تلك الشخصية المتجسدة بالامير هنري الابن الرابع للملك يوحنا الاول البرتغالي راحت تذلل عقبة اثر اخرى وتنسف خرافة تلو خرافة حتى اصبح القيام بتلك الرحلات التاريخية ممكناً بعد ان كان حلماً يداعب خيال الملاحين . اتخذ الامير هنري من قرية " ساجر " الواقعة على الزاوية الجنوبية الغربية للبرتغال مسكناً له ومعهداً علمياً وضعت فيه أسس فن الملاحة الحديث وانطلقت منه السفن واحدة بعد الاخرى تقتحم المجهول وتمهد للرحلات التي بشرت بعصر الاكتشافات وميلاد التاريخ الحديث . 

ولد هذا الامير في مدينة بورتو سنة 1394 ميلادية ، وأظهر منذ حداثته ميلاً فطرياً الى العلوم الرياضية والجغرافية ، كما كان يتسم بالشجاعة والاقدام رغم ما ظهر عليه مبكراً من الوقار والميل الى الاعتكاف . وفي سن الحادية والعشرين كرسه والده فارساً ومنحه اقطاعية " الجرف"  Algarve الجميلة الواقعة في الجزء الجنوبي من البرتغال . وقد كان من الممكن ان يحيا حياة الترف التي كان يعيشها اترابه من امراء اوروبا في ذلك الحين . لكن ولعه الشديد بالعلوم جعله يبتعد عن الترف ويستقر في تلك القرية الصخرية النائية ، يحيا فيها حياة النساك مكباً على المطالعة والتحصيل والتجربة في كل ما يتصل بالملاحة والاسفار . ومن ثم راح يتصل بالعلماء والباحثين من جميع الملل ، يدعوهم اليه ويستضيفهم الاشهر الطوال ، متعاوناً معهم في التوسع في علم الجغرافيا ومستهدفاً خلق ميادين جديدة لتجارة بلاده ، غير مقصر في الانفاق عليهم وعلى ابحاثهم وتجاربهم من المال الذي حصل عليه عن طريق المناصب العليا التي وصل اليها . وهكذا ولد في تلك القرية " فن " الملاحة واصبح علماً وضعت له القواعد والجداول الدقيقة ورسمت له الخرائط ودونت كل المعلومات والمقاييس التي كان الانسان قد توصل اليها حتى ذلك الزمن . ومن اهم الخرائط التي وصلت الينا من آثار الامير هنري خريطة افريقيا . كان اشهر ملاحي العالم ومؤرخي الاسفار يترددون على الامير تاركين لديه اجزاء من معلوماتهم حتى اصبح مقره مدرسة حافلة بكل ما يتصل بالملاحة ، وحقلاً خصباً لانتاج الادمغة المفكرة في الجغرافيا والرياضيات وصناعة السفن ، لا بل " معملاً " لكبار الملاحين الذين اشتهروا باكتشافاتهم وبطولاتهم البحرية بعد ذلك . 

يحدثنا المؤرخون ان العلماء العرب كانوا في مقدمة من استعان بهم الامير . وقد ترك هؤلاء أثرهم واضحاً في فن الملاحة الذي استحدثه هذا الامير ودرج عليه ملاحو اوروبا طيلة الاربعمئة سنة التالية ، من استعمال الاسطرلاب وادخال التحسينات عليه ووضع الخرائط المبنية على دراساتهم الجغرافية والفلكية . 

كان من أهم اهداف الامير ، كغيره من رجال عصره المهتمين بالملاحة والتجارة ، ايجاد اتصال تجاري مباشر بين عرب اوروبا وشرق آسيا عن طريق الدوران حول افريقيا . فقد كانت التجارة كلها آنذاك بيد الملاحين العرب المهرة في المحيط الهندي ، تنقلها سفنهم عبر الخليج العربي ، ومن ثم براً الى موانيء البحر الابيض المتوسط الشرقية ، ومن هناك الى اوروبا على ظهر السفن التابعة للموانيء الايطالية مثل البندقية وجنوا . لم يرق هذا الامر للاوروبيين فراحوا ، منذ الحروب الصليبية ، يفتشون عن حل يمكنهم من الوصول الى المحيط الهندي بالدوران حول القارة الافريقية . لكن من اين لهم السفن القادرة على انجاز مثل هذه الرحلات البعيدة والطويلة ؟  فقد كانت كل سفنهم ، حتى ذلك الوقت ، تستعمل الاشرعة المربعة المثبتة على الصاري الامامي الكبير ، تنشرها وتنتظر هبوب ريح مواتية ، إن عاجلاً او آجلاً ، تسوقها الى اقرب ميناء معروف . لكن الملاحين العرب في الخليج العربي ، ووراءهم خبرة حوالى الفي عام من الملاحة في المحيط الهندي ، كانوا قد اكتشفوا الشراع المثلث وطفقوا يستعملونه في سفنهم مرفوعاً على عمود مربوط بالصاري الرئيس بدل ربط الشراع على الصاري الامامي مباشرة ، مما يجعل سفنهم اسرع واكثر مرونة واقدر على المناورة مع الريح في مختلف الاجواء . لقد أدرك الامير هنري ان العرب تمكنوا ، بفضل سفنهم هذه ، من السيطرة على تجارة شرق آسيا كلها . ومن هنا لاحت له فكرة استخدام الشراع المثلث بعموده المتحرك على سفن قوية وكبيرة ليكسبها خفة الحركة والقدرة على الصمود امام تقلبات الجو ، وبالتالي القيام بالرحلات التي كان يعلق عليها أهمية كبيرة . 

السفينة كارافيل

لا يعرف احد بالضبط اين بنيت اول سفينة اوروبية من النوع الذي ضم مزايا السفن العربية واطلق عليها اسم "كارافيل" ، لكن من المؤكد ان الامير المذكور كان من اوائل من تبنوا هذه السفينة واستفادوا منها وانفقوا المال الطائل على بناء الكثير منها وارسالها في سفرات متتالية الى سواحل افريقيا الغربية بعد ان أصبحت الملاحة فناً علمياً ، وبعد ان وجدت السفينة القوية التي يمكن تطبيق قواعد ذلك الفن واستجلاء آفاقه الواسعة . كان على الامير هنري ان يتغلب على عقبة اخرى هي الخرافات التي احاطت بكل ما يتصل بالاسفار البحرية الى اماكن مجهولة ، والاشاعات عن الابحار المظلمة والمياه التي تغلي عند البسيطة ، حيث تنزلق السفن على حافة الافق الى " اللانهاية " . فقد كان من الصعب جداً إقناع اي ملاح بالمخاطرة بمثل هذه الاسفار . لذلك ابتدأ هنري بكل حذر وبالتدرج . فشرع اولاً في توجيه رحلات الى الاطلسي ، تم في احداها اكتشاف جزر الأزورس في سنة 1432 ، ثم راح يحول ملاحيه جنوباً الى أفريقيا ، منفقاً المزيد من المال في بناء السفن القوية واللازمة لمثل هذه الرحلات ، وعلى تشجيع الملاحين واغرائهم على اقتحام المجهول . كانت جهوده مضنية ، إذ لم تكد تمضي سنة الا وارسل خلالها سفينة او سفيتين ، لم تبتعد اكثرها اكثر من بضع مئات من الاميال حتى رجعت وفي مخيلة ملاحيها القصص المروعة عن المخاطر والاهوال التي اعترضتهم . إلا ان هذا لم يثن الامير عن عزمه ، بل كان يزيده تصميماً وعناداً على متابعة جهوده حتى استطاعت احدى سفنه بعد تسعة عشر سنة من محاولة الوصول الى جنوب جزر الكناري التي تبعد حوالى الالف ميل . إلا انها حين وصلت مقابل راس "بوجادور " رفض بحارتها متابعة الرحلة لأنه خيل اليهم ان المياه في الناحية الاخرى من ذلك الرأس " تغلي"، وقد شاهدها ربانهم بعينيه . ولما عادوا ادراجهم الى نقطة انطلاقهم سخر منهم الامير هنري وأفهم الربان ، ما كان قد أدركه بفراسته وسعة اطلاعه ، ان اضطراب المياه لم يكن " غلياناً " ، بل هو حركة المد والجزر على الشاطيء الضحل . وقد وجد الربان الشجاعة للعودة في رحلة ثانية سنة 1434 ميلادية مع بحارة جدد ، فراعه ما رأى وتحقق من بعد نظر الامير هنري عن ضحالة الشاطيء من ناحية الرأس الاخرى وتراقص المياه عليه مع حركة المد والجزر ، حتى كأنها " تغلي " . ومن ثم عاد فخوراً أنه نسف ، هو وأميره ، عملياً احدى الخرافات التي كانت تعترض القيام برحلات طويلة الى الجنوب . 

راحت الموارد المادية تشح تدريجياً . لكن عزم الامير هنري وقوة ارادته جعلته لا يتحول عن اهدافه ، فكان أن حول كل موارد مقاطعة " الجرف " الى بناء سفن الكارافيل وتزويدها بالمؤن والرجال ومتابعة ارسالها الواحدة بعد الاحرى ، سنة بعد سنة ، الى الجنوب . وساعده في عزمه هذا شجاعة الملاحين البرتغاليين الذين اعتادوا حياة البحار القاسية بطبيعة كونهم صيادي سمك بالفطرة والاصل ، كما ساعدته حياته البسيطة والمتواضعة على الاقتصاد في النفقات الشخصية ، حتى انه كان ينام على فراش خشن ويصوم ستة اشهر من كل عام ليتمكن من توفير المال وانفاقه على مشاريعه الملاحية .  

استمر الحال على هذا المنوال حتى سنة 1441 حين اكتشفت احدى سفنه الرأس الابيض " كاب بلان " . وكانت الرحلات التي نظمها في السنوات الثلاث الاخيرة بين 1444 و 1446 قد بلغت ثلاثين رحلة ، اكتشف في احداها الرحالة " دنيس دياز " الرأس الأخضر " كاب فردي " ، الذي استعمره البرتغاليون منذ ذلك التاريخ حتى سنة 1960 . 

حلت الصعوبات المادية ، في السنين التي تلت ، نوعاً ما ، عن طريق استثمار المناطق المكتشفة حديثاً مثل جزر ماديرا والازورس ، وبظهور الذهب على ساحل غينيا ، وكذلك عن طريق تجارة الرقيق . لكن المال الذي انتجته هذه المرافق خلق للامير مشكلة اخرى . فقد انصرف اغلب الملاحين الى التجارة عوضاً عن متابعة الرحلات لاستكشاف المناطق المجهولة . هنا ظهر تأثير شخصية الامير وشدة مثابرته على اتمام مشاريعه ، إذ تغلب تدريجياً على مشكلته الآنية هذه واستطاع الملاحون مرة اخرى الابتعاد اكثر فاكثر في تجوالهم البحري حول شواطيء افريقيا حتى تم اكتشاف رأس بالماس وساحل العاج وساحل الذهب ، كما قاموا بالدوران حول الجزء الغربي كله من القارة الافريقية . ولما توفي الامير في سنة 1460 كانت الرحلات لا تزال قائمة على أشدها ، ولو ان ثمارها الحقيقية لم تظهر الا بعد ذلك بحوالى ثلاثين سنة . فمن المؤكد ان رحلة الملاح ديو جوكاو في سنة 1480 ، التي وصل اثناءها الى مسافة الف ميل من رأس الرجاء الصالح ، أي ما يبعد حوالى 6000 ميل من البرتغال ، كانت نتيجة مباشرة لطموحات الامير وترتيباته . وكذلك رحلة دياز في سنة 1488 التي استطاع اثناءها ان يدور حول رأس الرجاء الصالح لأول مرة في التاريخ . واخيراً كانت تلك الرحلة الخالدة التي فتح خلالها فاسكو دا غاما الطريق الملاحي الى الهند عن طريق الدوران حول افريقيا ، والتي انتشر بعدها البرتغاليون في شرق آسيا حيث تركوا آثارهم هناك الى اليوم .    

بقي ان نذكر ان سراً غريباً أحاط برحلتي دياز ودا غاما المذكورتين ، هو دقة استخدامهما لاتجاهات الريح حول الزاوية الجنوبية من افريقيا . فالسير الذي إتبعاه بقي معمولاً به حتى نهاية عصر الملاحة الشراعية لأنه متفق مع افضل خط توصل اليه الملاحون بعد دراسة حركة الرياح والتيارات البحرية في تلك المنطقة ، مما لا يعقل ان يكون الملاحان المذكوران قد توصلا اليه في سفرة واحدة . ألا يوحي هذا بأن هذه المنطقة كانت قد اصبح يعرفها الملاحون البرتغاليون معرفة جيدة ؟. أليس من الجائز ان بعض سفن الكارافيل التابعة للامير هنري كانت قد جابت تلك المنطقة من قبل وتجمعت لديها المعلومات المذكورة التي استخدمها الرحالان ؟ . ليس هذا بمستبعد اطلاقاً ، خاصة ان الامير هنري ، كما نعلم ، كان يحيط مشاريعه ومعلوماته البحرية بكثير من السرية ، خوفاً عليها من جواسيس الدول البحرية الاخرى كاسبانيا والبندقية وجنوا ، الذين كانوا منتشرين في لشبونة وحول مقر الامير ، وكان يهمهم ، بالطبع ، الاستفادة مما قد يكون البرتغاليون قد حصلوا عليه من معلومات ونتائج . 

انه من المدهش حقاً ان يكون البرتغاليون الذين لم يكن يزيد عددهم آنذاك على المليون ونصف المليون نسمة قد استطاعوا ، بزعامة أمير معتزل مثل هنري ، ان يقوموا بأول رحلة الى الهند بالدوران حول افريقيا ، وان يكونوا أول من وصل الى البرازيل ، وأول من دار حول اميركا الجنوبية ، وأول من قطع المحيط الباسفيكي ، وأول الاوروبيين الذين وصلوا الى سواحل الهند والصين واليابان لينشئوا تجارة واسعة وليشقوا الطرق الملاحية التي استمرت في الازدهار حتى اوائل هذا القرن . 

عرف البرتغاليون فضل أميرهم هنري ، فأقاموا له تمثالاً ضخماً على ضفة نهر التاجة ، يمثله عملاقاً واقفاً على مقدمة سفينة ، يحمل نموذجاً مصغراً لسفينة " الكارافيل " ، وقد جثا من ورائه حشد من الملاحين البرتغاليين ، كما أقاموا خلال سنة 1960 احتفالات دولية عظيمة احتفاء بمرور خمسمئة سنة على وفاته .

__________________________________________________ 

(1) عن مقال بقلم الكابتن ألآن فيليه Alan Villier منشور في عدد تشرين الاول / اكتوبر 1960 من مجلة  National Geographic Magazine  .