إقرأ معي : الخبز مع الكرامة

المحتوى الاقتصادي – الاجتماعي للمفهوم القومي العربي 

تأليف د. يوسف صايغ

مراجعة : فكتور خوري

نشرت مراجعة هذا الكتاب في شباط / فبراير 1962 ، العدد السادس عشر ، الرائد العربي  

هل للقومية العربية محتوى اقتصادي او اجتماعي يميزها عن العقائد الاخرى ؟ . ما هي ابعاد المشكلة الاقتصادية والاجتماعية التي تتخبط بها الامة العربية ؟ . أين يقف المفكر الاقتصادي العربي من هذه المشاكل وهذا المحتوى ؟ . أسئلة طالما راودت الكثيرين من مفكرينا ، خاصة عندما واجهتهم احداث ثورية قلبت مفاهيم المجتمع العربي والغت مؤسساته في بعض البلدان العربية واستبدلتها بمؤسسات اخرى ، وأخذت تدفع بالاقتصاد المحلي لعدد من البلدان العربية في اتجاهات تختلف باختلاف انظم الحكم فيها . فما هو موقف القومي العربي من هذه الاحداث ؟.  

إن الاجابة على هذا السؤال ، تفترض بالضرورة الاجابة على المجموعة الاولى من التساؤلات .  

فأين نحن الآن في سلم التطور الاقتصادي – الاجتماعي ، وما هي غايتنا من التطور ، ثم ما هي وسائل هذا التطور ، وما هي خطوطه ؟. ثم أولاً وقبل كل شيء ، أين هي الاحزاب العربية من هذه المشكلة الفكرية وابعادها العملية ؟ . 

إنتشرت منذ سنوات موجة من الاقاويل بأن الموقف العربي من مشاكله الاجتماعية والاقتصادية موقف واضح وصريح . فالاحزاب بأكثرها وبعض الانظمة ، تنادي بالاشتراكية النابعة من حاجات هذه الامة ، وحددت بعض الاحزاب الاشتراكية اهدافها بانها سعي وراء العدالة الاجتماعية ، وبالتالي التوزيع العادل لناتج الدخل القومي . ولما كان هذا التوزيع " غير ممكن " إلا اذا تملك "الشعب " مقادير الأمور ، فان هذه الاحزاب نادت ، في مرحلة متقدمة من تطورها في الاربعينات من هذا القرن ، بتأميم كل وسائل الانتاج والنقل والتوزيع والمصارف وغيرها . وقد اندس الفكر الماركسي في منطقه ، حاملاً مجموعة من الاخطاء سببها الاول الغموض الذي استعملت فيه تعابير البحث . فكلمة الثورة ، مثلاً ، لم تحدد في يوم من الايام تحديداُ دقيقياً " نابعاً من حاجات الامة " . وما يصدق في " الثورة " يصدق او ينطبق ايضاً على التعابير الرئيسة الاخرى مثل " الشعب " و"وسائل الانتاج " الخ..التي تستعمل بمعان تختلف عن مدلولها الاقتصادي الفني . وهكذا ، اختلطت المدلولات الفنية للتعابيرمع مدلولاتها الانفعالية واللغوية ، فضاعت الفكرة الاساسية في حلقات منطقية لم تكن دائماً سليمة .

اما في ما يختص بالبحث الاقتصادي والاجتماعي التفصيلي ، إن في المجالين النظري او التطبيقي ، فان مشكلة المجتمع العربي لم تعط قسطاً كبيراً من البحث . واياً كانت أسباب هذا التخلف الفكري العربي ، فان اجراءات تموز/ يوليو 1961 الثورية في الجمهورية العربية المتحدة ، أوقعت الاحزاب العربية كلها في مأزق فكري وعقائدي . وهذا الفراغ العقائدي ، في ما يختص بقطاعات كبرى من الفكر الاشتراكي القومي العربي ، أوجب على المفكرين العرب رصد امكاناتهم الفكرية ، عاجلاً او آجلاً ، لملئه . وجاء كتاب الدكتور يوسف صايغ محاولة اولى تملأ حيزاً من هذا الفراغ . ومهما ضؤلت هذه المحاولة ، فانها تطرح تساؤلات كبيرة حول المشاكل الاقتصادية الاساسية والبدائل الاجتماعية التي هي في متناول المجتمع العربي . 

يتميز الكتاب بميزتين لا علاقة لمحتواه بهما . اولاً ، لأنه صدر عن مفكر عربي غير حزبي يؤمن بالفكرة القومية العربية وبالاشتراكية . فان ما صدر ويصدر في هذا المضمار يعود  الى  منظمات حزبية عربية او عن خصوم للاشتراكية العربية . والمنشورات الحزبية ترتدي عادة طابع القدسية ، لا تناقش بحرية واستقلالية ، خشية ان يتهم من يناقشها او ينتقدها بالانحراف اوالخيانة . وبالتالي ان جو " التوتر الفكري " لم يؤد الى انتاج فكري مستقل ، بل الى ترديد الشعارات والاحتماء بالقواقع اللفظية . من هنا نقول ان صدور هذا الكتاب عن مفكر غير حزبي سوف يسمح بمناقشته من دون خوف من هالات القدسية الحزبية ويسهل تشريح آراء الكاتب اما لرفضها او للاخذ بها . فالصراع الفكري الناتج عن مؤلف معين أهم بكثير من الكتاب نفسه .

الميزة الثانية هي المرحلة التاريخية التي صدر فيها الكتاب . وتتميز هذه المرحلة بالقلق الفكري والانعطافات الجذرية التي تحياها الامة العربية . انها فترة تمكن المفكر الاجتماعي والاقتصادي ان يلعب فيها دوراً ما في توجيه مقدرات هذه الامة ، بدلاً من ان يكون من انتاج مؤسسات فرضت علينا في مرحلة انعطاف سابقة . ومن الضروري التشديد على ان النقاش او الخلاف الفكري ضروري في مرحلة " الثورة " اكثر من ضرورته في المراحل السابقة والممهدة لها واللاحقة بها والناتجة عنها . 

ينقسم الكتاب الى قسمين رئيسين : الاول هو " الاطار العام " الذي يبحث في فصول ثلاثة بعض المفاهيم الاساسية الاقتصادية والاجتماعية والنظرية التي يبني عليها المؤلف دراسته في القسم الثاني " نحو اقتصاد قومي عربي " . 

يبدأ الكتاب بعرض الفروق بين مفهومي النمو والتنمية . فالتنمية " عملية ارادية لدفع النمو قدماً بنسبة عالية تزيد فيه زيادة ملموسة فوق عدد السكان الصافي بشكل مستديم ، زيادة لا يمكن ان تتحقق من ضمن دورة الحياة الاقتصادية العادية ، بل يلزمها كيما تتحقق حدوث تغيير كبير في التقنية وفي جهد الجماعة الانتاجي نتيجة ارتفاع ملموس في مستوى التعليم والتدريب ، كما في نمو المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على السواء . نضيف الى ذلك – وهنا يتضح المدلول الاجتماعي لمفهوم التنمية – وجوب تحقيق مقدار أوسع من العدالة الاجتماعية الى جانب تحقيق النمو الاقتصادي المتزايد " . ثم يعرض المؤلف حركية عملية التنمية ، بأنها تحاول ان تجتاز عدة ثورات في آن واحد كي تنطلق بسرعة من المجتمع البدائي التقليدي الى مجتمع تقني منتج قادر بتنظيمه ان يحمل الاقتصاد القومي في ثورة التجديد والاستحداث والتصنيع . وهذه الثورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتقنية قد أصبحت أقرب الى متناول اليد ، بسبب توفر تجارب يمكن الاستفادة منها " اذا توافرت للوطن العربي الجدية في المسعى والارادة الحازمة النيرة " . 

يخلق السعي للتنمية ثلاث مجموعات من التحديات :  

اولاً : التحديات الداخلية الناجمة عن وعي المجتمع لتخلفه الاجتماعي والتقني والسياسي والاقتصادي ورغبته الجامحة في " تضييق الشقة بينه وبين المجتمعات الاخرى التي ينظر الى مستواها كهدف يبغي الوصول اليه ". 

ثانياً : التحديات الخارجية الناجمة عن الاحتكاك بالمجتمعات الاخرى . 

ثالثاً : التحديات الناجمة عن تفاعل المجتمع مع التحديات الداخلية والخارجية ، تفاعلاً يخلف حركية اجتماعية " لا تسمح ببقاء أي من المؤسسات والافكار الرئيسة المسيطرة في المجتمع على حالها السابقة ضمن غلاف عازل يقيها فعل التغيير " . 

ويجب ان يرافق ظاهرة النمو في عملية التنمية اربعة عناصر أساسية هي :  

1 – سيل من الافكار والمعلومات والمعارف والمواقف ، ومجموعة المؤسسات الضرورية للنشاط الاقتصادي المراد تحسينه . 

2 – يجب ان يكون التقدم المادي نتيجة جهد الجماعة كلها لا جهد قطاع متقدم " يتوسط مجتمعاً بدائي الجهد " ، أجنبياً أكان هذا القطاع أم عربياً . 

3 – العدالة في توزيع ناتج الدخل . 

4 – استمرار التغيير التقني والتنظيمي . 

ثم يستقصي الدكتور صايغ في الفصل الثاني مدى انطباق الفكر الاقتصادي الغربي ومشيداته على الواقع الاجتماعي العربي وعلى المشاكل الناجمة عن التخلف ، وبالتالي ضرورية التنمية . ويبدأ المؤلف بمشيد المنافسة الحرة الذي بني عليه الاقتصاد الكلاسيكي ، ويظهر كيف ان الرواد وجدوا أنفسهم في بيئة اقتصادية واجتماعية وسياسية ملائمة للعمل الاقتصادي في نهاية فترة النهضة الاوروبية ، بعد ان أدت الاكتشافات الكبرى الى فتح الافاق الكبيرة ذهنياً ومادياً وثقافياً امام رواد الصناعة لتطبيق الاختراعات الناجمة عن هذا الغليان الفكري العلمي . غير ان النظام المؤسسي العربي لا يتلاءم مع هذا النوع من العمل في شكله الحالي . ثم ان ميزان القوى الدولي الذي كان في صالح الدول الغربية في نهضتها ليس هو الآن في صالح الدول المتخلفة ، خاصة الدول العربية . وتخلق كل هذه العوامل ضغطاً انفجارياً كبيراً في المجتمع لا يتلاءم مع العمل الهاديء . 

أما النظام الشيوعي ، فهو بدوره لا يلائم المجتمعات العربية . غير ان الكاتب يعطي الايمان بالمادية الاقتصادية والتعلق ب " صيغة ما من الديمقراطية " في المجتمعات العربية على انها من اسباب عدم الملاءمة . وبطبيعة الحال ، ان التعميم في هذا المجال غير مبرر ، إلا ان تبعية الشيوعي الساسية هي في نظرنا السبب الرئيس الذي يمنع العرب ، وبشكل خاص الجناح الثوري للحركة العربية ، من تبني النظام الشيوعي . 

أما نظرية كينز ، فهي نظرية قصيرة المدى ، تفسر الدورة التجارية في البلدان المتخلفة ." ولذلك فان مهمة اي نظرية اقتصادية ملائمة لاوضاع التخلف ينبغي ان تكون قادرة على قلب بعض الافتراضات الكينزية الاساسية". ثم ان جدوى " محاولة الفصل بين النظريات والاختبارات والنظم الاقتصادية في الغرب الصناعي ، وبين اطاره السياسي الاجتماعي " أمر مشكوك بامكانيته . لذلك ، فان الوطن العربي بحاجة الى نظرية اقتصادية مميزة تتلاءم مع وضعه الحالي وتكون قادرة ان تفيدنا عن اتجاهات التطور الذي يؤدي بنا الى النظم والمؤسسات الملائمة . 

ينتقل الدكتور صايغ بعد ذلك الى استعراض سريع للمجتمع المتخلف فيعدد علله وعلاجاتها ، فاذا بالعلاج الاهم هو في حكم الاقلية النيرة التي تتخذ البعث القومي رسالة لها ، ومن عملية " شق الصخر " أداة اولى لفتح الطريق نحو الاصلاح . وعلى ما يظهر فان المؤلف يستخدم هذا التعبير بنفس المعنى الذي يبديه تعبير "الثورة" عند الاحزاب العقائدية ، ويعطيه الاهمية نفسها للمرحلة الثورية والمرحلة الانتقالية عند هذه الاحزاب . وهو يحلل مرحلة الثورة هذه ، مبتدئاً من نظرته الى الدولة ، فيقول : " الدولة تلعب دوراً مزدوجاً في نظر نواة القيادة ، أي تجسيد الامال والافكار والمطامح ، وهو الدور الذي يؤكد على سيادة الدولة ويؤكد قوتها ، وخدمة هذه الافكار والآمال والمطامح " . لذا ، على النواة القيادية ان تستلم مراكز السلطة وان تقوم ، هي مباشرة ، بتطبيق ايديولوجيتها ، وذلك بترسيخ عملية البعث القومي وبتنظيم الدولة كوسيلة لتحقيق هذه العملية . ثم تأتي عملية بناء المجتمع الجديد . وهنا لا تستطيع القيادة ان تتوقف عند حد قريب من الثورة ، والا " تكاتفت عناصر الهجوم على الاصلاح وخنقته قبل ان يتكامل " . وتقع على هذه النواة مسؤولية اختيار مجموعة البدائل المثلى لحل المشاكل الكبرى التي تعترض سبيل عملية البعث . وهذه المشاكل تشكل مجمل البحث في الفصل الثالث المتعلق " بالحوارات الكبرى في التنمية " . غير ان هذه المواضيع النظرية التي يطرحها الكاتب في القسم الاول من هذا الفصل ليست سوى تمهيد للبحث الذي يشمل القسم الثاني " نحو اقتصاد قومي عربي " . 

ينطلق الدكتور صايغ من عرض " سجل النمو الاقتصادي الحديث " في الوطن العربي ويعرض فيه ما يسميه الخطوط العريضة المشتركة بين الاقطار العربية ، ومنها : شحة الموارد ، انخفاض الفعالية الاقتصادية للجهاز الاقتصادي ، اعتماد الجزء الاكبر من الدخول الاهلية على المواد الاولية ، ارتفاع نسبة التجارة الداخلية مع ازدياد الدخول بعد الحرب العالمية الثانية ، نظام تملك الاراضي وتأجيرها بالحصص ، وأخيراً ضخامة الاهمية النسبية للزراعة كقطاع منتج . ويجب ، بالاضافة ، ان نأخذ بالاعتبار قضايا الوجود الاسرائيلي والاستعمار عند دراستنا للحلول المقترحة للمشاكل العربية الاقتصادية . ثم يتساءل : ما هي الحقول التي تنال توكيداً رئيساً في نشدان التنمية ، طالما ان التنمية جزء مهم في الاطار والمحتوى الاقتصادي والاجتماعي . ولعل التصنيع أهم أجزاء المحتوى . " التصنيع يرمز الى الانعتاق من التقليد والسير البطيء والتقنية البدائية ، ومن دور العرب كمنتجين ومصدرين للمواد الاولية وكسوق للسلع المنتجة ، خاصة الصناعية منها  . ولكن ، عدا عن كونه رمزاً للتحرر الاقتصادي ، فان التصنيع يهدف الى تحقيق التوازن بين القطاعات بتخفيف الاعتماد المبالغ به على الزراعة وتوسيع رص العمل وامتصاص نسبة ذات شأن من العقول البشرية القادرة على العمل ، خاصة في الارياف حيث لا تجد هذه العقول مجالاً كبيراً لخدماتها " . فقد كانت الرساميل الموظفة منذ الحرب العالمية منصبة على بناء البنى الاقتصادية الاساسية كالطرق والكهرباء ، وهي الان قد بدأت تتجه في بعض بلداننا كلبنان والجمهورية العربية المتحدة الى الصناعات الاساسية ذات الرساميل الكبيرة . وقد ظهر أثر ذلك في الحاجيات الجديدة لاسواق التصدير والضغط على ميزان المدفوعات نتيجة لاستيراد الالات المنتجة والمواد الخام .  

اما بالنسبة للانظمة التي يوكل اليها تجسيد الرغبة في التنمية ، فهي في الغالب الدولة .  ولم ينتج ذلك من اعتبارات عقائدية بقدر ما نتج عن الضرورات العملية للاسراع في التنمية ، او بسبب احجام القطاع الخاص . واما الكويت ففيها نظام " دولة الرفاه " بسبب وجود قطاع النفط . وقد عرض المؤلف برامج التنمية المعروضة في بعض البلدان العربية ، مثل العراق ومصر وسوريا  بشيء من الاسهاب . 

غير ان التنمية عملية هادفة . فما هو هدف القومية العربية في المجال الاقتصادي ؟ . وما هو المجتمع المنشود للامة العربية ؟ . يقول الدكتور صايغ في هذا المجال : " ان المجتمع العربي المنشود هو مجتمع حركي يحطم العقبات في سبيل التنمية ، ما كان اجتماعياً منها وما كان اقتصادياً او تقنياً ، وينتظم في وحدة سياسية تضع الخاتم الرسمي على وحدته القومية . إنه مجتمع بستهدف التحرر الداخلي بالاضافة الى ... الاستقلال والوحدة ، معبراً عن هذا التحرر ، اولاً برفع الفعالية الاقتصادية فيه ورفع الناتج القومي ؛ وثانياً بالعدل في توزيع الناتج بين المواطنين بموجب جهدهم وكفاءتهم ، مع تأمين هذه الحاجات الاساسية لاسباب تخرج عن ارادتهم ؛ وثالثاً بالعدل في توزيع فرص التعليم والتدريب والعمل ومختلف مجالات النشاط . وأخيراً ، انه مجتمع غير هياب ، يقبل التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، يقبل الثورة ولا يتردد في الاقلاع عن سبيله التقليدي حين تقتضي ذلك مصلحته ، ويقبل التجربة الاجتماعية مهما لزم لها من اشكال حكم او نظم عيش جديدة " . 

فما هي اذن معالم الاشتراكية العربية ؟ . 

اولاً ، العدالة . وهي المبدأ الاهم . ويتطلب تحقيقها كسر مقاومة اصحاب المصالحة الضالعة المستفيدة من سوء توزيع الموارد والثروات . وهي تعني ايضاً تقويم الاعوجاج في توزيع الفرص ومنابع الثروة والدخل . وسبيلنا الى تطبيق العدالة هو اعادة توزيع الملكية الخاصة المسموح بها وتملك المجتمع " وسائل الانتاج ذات الأثر البعيد في سلامة الوطن ونشاط مراكز عصب الاقتصاد وتأمين حاجات المواطن الاساسية . هذا ، عدا عن تملكه للاطار الاجتماعي العام كالمواصلات ومرافق الماء والكهرباء والخدمات الصحية والاجتماعية ". غير ان المجتمع هو الذي يجب ان يتملك هذه الموارد عن طريق مؤسسات خاصة كالتعاونيات والشركات العامة والنقابات  ، لا عن طريق الدولة بشكل مباشر . وبشكل عام ، " بتوسيع قاعدة التملك لوسائل الانتاج وبجعل هذه القاعدة مجتمعية شعبية بالمعنى الصحيح " . 

المبدأ الثاني للاشتراكية العربية هو الطواعية في قبول النظام والعدل ، لا الصراع الطبقي . 

والاساس الثالث هو العقلانية في توزيع الادوار الاقتصادية بين القطاعات العامة والخاصة . وهنا يأمل الدكتور صايغ بان يسمح هذا النظام " بالحرية الاقتصادية ضمن تحديدات عامة تضعها الدولة إطاراً للعمل " . وهذه التحديدات تعنى بتوزيع ملكية وسائل الانتاج وضمان الحد الادنى من الادخار والتثمير وحصص عناصر الانتاج والتسعير والتدريب الخ .. 

اما الاساس الرابع لهذه الاشتراكية فهو صياغتها من ضمن المجتمع القومي وثوابته . 

يبقى الاساس الخامس والاخير المتمثل بمبدأ الديمقراطية ، على ان تصاغ الاشكال الديمقراطية من صلب المجتمع العربي وأوضاعه . ويظهر المؤلف اهتماماً كبيرا جداً لهذا الموضوع الديمقراطي ، مظهراً اخطار الابتعاد عن الروح الديمقراطية بشكل يحول الاشتراكية العربية التي تلعب فيها الدولة دوراً قيادياً ، الى حكم دكتاتوري بعيد كل البعد عن روح هذه الاشتراكية . 

اما اداة تنفيذ هذه العقيدة الاشتراكية العربية ، فتتواجد في النواة القيادية الطليعية . وهنا لا يختلف الدكتور يوسف صايغ عن الحزبيين الاشتراكيين العرب في تحليلهم . اما وسيلة احداث التطور من الحالة الراهنة الى المجتمع المنشود ، فهي ايضاً تقليدية ، بالنسبة للاحزاب العربية ، بحيث تستلم الطليعة الحكم وتقوم بعملية " شق الصخرة " ، أي الثورة الاجتماعية من دون صراع طبقي ، بل من خلال مؤسسات جزبية ( ضماناً للشكل الديمقراطي ) . ويكون هدف هذه المرحلة خلق الجو الملائم للتنمية . ثم تقوم الدولة باعادة تصميم العلاقات المجتمعية ، بحيث تنسجم مع مبدأ العدالة. 

يتألف القسم الثاني من الكتاب من خمسة فصول هي : سجل النمو الاقتصادي الحديث الذي استعرضناه ، المداميك الأساسية حيث يشرح المؤلف بتوسع مراحل النمو ، شق الصخرة ، السياسة الاقثصادية العامة للدولة العربية حيث يعرض للتخطيط والحرية وللاولويات في التنمية ووسائل تحديدها بالاضافة الى وسائل المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات المهمة وتوسيع آفاق التوكيد على المنافع العاجلة والآجلة والتوازن القطاعي الخ.. ثم يستعرض في الفصل الرابع الوضع العربي " بين التفتت والوحدة " ، ويلخص آراءه في الفصل الخامس حول اقتصاد المجتمع المنشود . 

إن أهم ما يقدمه الدكتور يوسف صايغ للبحث في الاشتراكية العربية يمكن تلخيصه بانه نظرة من زاوية جديدة للمشكلة كما طرحها الحزبيون الاشتراكيون العرب . غير ان الفرق هو في التشديد على الناحية الاقتصادية وابعادها الاجتماعية ، بينما يشدد العقائديون على النواحي النضالية التنفيذية . على ان هذا لا يعني المفاضلة بين الاسلوبين . فلكل ضرورة خاصة تتعلق به وبطروحاته . وبشكل ادق ، ان البحث الحزبي لم يقدم الى الآن مخططاً فكرياً واضحاً بما يكفي للتخطيط التنفيذي ، في ما لو استلمت هذه الاحزاب السلطة الحكومية . من هنا تبرز القيمة الكبرى لهذا الكتاب . فمؤلفه ليس حزبياً ، وبالتالي لن تثير مناقشته اية ازمات في العلاقات الحزبية. وهو ، مع ذلك ، يبحث الموضوع من وجهة نظر قومية عربية ، وبالتالي لن يتهم في أهدافه ومنطلقاته .