حول نشاط دائرة الآثار في الكويت

من فيلكا الى سد مأرب

نزار الاتاسي  

نشر هذا المقال في حزيران / يونيو 1962 ، العدد العشرون ، الرائد العربي  

لفتني في المقال الذي نشرته مجلة الرائد العربي عن آثار جزيرة فيلكا في آذار/ مارس 1962 النشاط الدؤوب الذي يبذله قسم الآثار في وزارة المعارف الكويتية للتنقيب عن الآثار في الكويت ولصيانتها وحمايتها وعرضها على الجمهور . وبعد ان أتيحت لي فرصة زيارة المتحف أكثر من مرة ، تسنى لي ان أشهد عن كثب جدية الجهود المبذولة في هذا السبيل . فما لمسته من الغيرة على رعاية الآثار ، يدفعني الى ان ألفت المسؤولين في حكومة الكويت الى ملاحظتين مهمتين ، ارجو ان تجدا في في صدور المسؤولين من الاهتمام ما هما جديرتان به . 

الملاحظة الاولى : إن دائرة الآثار لم تقم حتى الآن بما يطلق عليه العلماء اسم " المسح الآثاري" لاراضي الكويت ، أي انها لم تقم بالمبادرة اللازمة للتفتيش عن الآثار في جميع انحاء البلاد ، وانما اكتفت بالتنقيب عما تكشفه لها الظروف والصدف . فلولا الصدفة ما اكتشفت آثار جزيرة فيلكا. ومتحف الكويت ، نفسه ، لا يضم من الآثار سوى مكتشفات هذه الجزيرة ومكتشفات تل البهيتة ، مع ان الكتاب الاجانب قد أشاروا الى وجود آثار أخرى . وقد قرأت في كتاب " الكويت وجاراتها " ان المؤلف الكولونيل ديكسون قد عثر على آثار قبور قديمة في منطقة ام خزنة مصنوعة من الجص ومغطاة بحجارة لا كتابة عليها لاشخاص يبدو انهم غير مسلمين . كما عثر في المنطقة نفسها على عجلة نحاسية قديمة تعود الى القرن السابع عشر او الثامن عشر . كما ان احد موظفي شركة نفط الكويت السيد أ.ل. لاتيمير سبق له ان عثر بتاريخ 21 ايار / مايو عام 1937 ، في منطقة ابو حلية ، على رأس سهم من الصوان ، يبلغ طوله بوصة ونصف البوصة ، وهو في حالة سليمة . كما ان المؤلف نفسه يشير الى انه سبق له ان عثر في منطقة البرقان عام 1935 على احواض عديدة مصنوعة من الصوان وعلى رؤوس سهام متنوعة وعديدة وقام بارسالها الى المتحف البريطاني ، حيث قرر الخبراء انها تعود بتاريخها الى العصر الحجري القديم .  

يستدل من ذلك ان الكويت لا بد ان تحوي الكثير من الآثار التي لم يتم اكتشافها حتى الآن ، كما يستدل ان بعض الآثار المكتشفة قد جرى نقلها الى الخارج . 

الملاحظة الثانية : إن دائرة الآثار ما تزال تعمل ضمن النطاق الاقليمي لدولة الكويت ، من دون ان تأخذ بالاعتبار الموقع الجغرافي للكويت وامكاناتها المادية الضخمة ومسؤولياتها التاريخية ، بل من دون ان تلحظ ان علم الآثار قد أصبح علماً دولياً بكل ما في هذه الكلمة من معنى ، حيث تتعاون كل دول العالم على المشاركة فيه. ولعل اسهام البعثة الدنمركية في الكشف عن آثار جزيرة فيلكا ، ومساهمة أكثر دول العالم في انقاذ آثار معبد ابي سنبل في مصر، يعتبران دليلاً حاسماً على هذا التعاون الدولي .  

يضع القدر الكويت وجهاً لوجه أمام مسؤولية الكشف عن آثار شبه الجزيرة العربية . فشبه الجزيرة هذه تزخر بالآثار العائدة الى أقدم العصور . فسد مأرب ومملكة سبأ والممالك القديمة التي ازدهرت على طريق التوابل والقوافل الممتدة بين اليمن وحضرموت حتى مصر والشام وموانئ البحر الابيض المتوسط ، واحداث الجاهلية والاسلام ، وشبكات الري في الاحساء وواحات الهفوف ، كلها لا تزال غافية تحت رمال الصحراء حتى يومنا هذا . واذا كانت بعض البعثات الاجنبية والعربية ، كبعثة جامعة القاهرة الى اليمن ، قد حاولت مخلصة ان تكشف عن بعض هذه الكنوز ، ولم تدخر المال والوقت والراحة ، إلا ان محاولاتها كلها باءت بالفشل لاسباب متعددة لا مجال لذكرها هنا . فالمسؤولون في هذه المنطقة من العالم العربي يعانون حساسية جد مرهفة ضد كل ما هو اجنبي . ولهذا لم يتسن الا لبعض البعثات العلمية الاميركية في جنوب الجزيرة ( عدن وحضرموت ) ، ولبعض شركات التنقيب عن النفط ، ولبعض الرواد المغامرين امثال فيلبي والفرد وديكسون وبيلغريف وشيسمان وغيرهم الوصول الى معالم بعض الكنوز التاريخية المذهلة . واليهم يعود الفضل في الكشف عما تضمه هذه المنطقة ، اضافة الى الثروة النفطية ، من آثار ، وهي ثروة لا تقل ثمناً وأهمية ، في نظر العالم بصورة عامة وفي نظر العرب بصورة خاصة ، عن ثروة النفط . ومسؤولية الكويت في الاهتمام بآثار هذه المنطقة والكشف عنها تعود بالدرجة الاولى الى عامل قومي ، لأن حضارة الكويت جزء لا يتجزأ عن حضارة الجزيرة ، وشعب الكويت شعب عربي انحدر أباؤه القريبون والبعيدون من بطن قبائل عربية ما تزال تحرس هذه الآثار حتى الآن . وتعود المسؤولية في الدرجة الثانية الى عامل انساني . فانه يترتب على دولة الكويت ، وقد أصبحت تسهم في جميع النشاطات العالمية والانسانية، ان تمنح هذا النشاط جانباً من عنايتها . ويضاف الى ذلك سبب ثالث هو سياسي . فالكويت ، بحكم كونها دولة صغيرة مسالمة ، وبحكم عزوفها وزهدها عن التدخل في شؤون الدول الاخرى ، قادرة أكثر من اي دولة اخرى في العالم ، على ان توحي لدول الجزيرة العربية واماراتها ومشيخاتها بمزيد من الثقة والاطمئنان . وقد سبق لها ان افتتحت عدة مدارس في مناطق عديدة من الجزيرة ، كما أرسلت بعثات علمية ودراسية من دون ان تثير اية ريبة او شك . 

إن القيام بهذه المهمة لا يقتضي من المسؤولين الا ان يعقدوا النية على تنفيذها . المال مبذول لهم ومتوفر في ايديهم . اما الخبراء والاخصائيون في شؤون الآثار ، فانهم ، على ندرتهم في البلاد العربية ، سرعان ما سوف يستجيبون للنداء الذي يوجهه اليهم المسؤولون . ولم يسبق لدولة الكويت ان شكت من قلة ارباب الاختصاص في كل ميادين العلوم ، ولم تدخر وسعاً في الاستعانة باصحاب الكفاءات والمواهب ، في كل انحاء العالم . 

وكخطوة اولى في هذا السبيل ، فاننا نرى ان يزود قسم الآثار في وزارة المعارف الكويتية بمجموعة كبيرة من الاخصائيين ، عرباً وأجانب ، وان يؤسس فرع لدراسة الآثار والتنقيب عنها في جامعة الكويت المزمع انشاؤها قريباً . كما نرى وجوب التأخر في بناء المتحف الجديد في الكويت ريثما يعاد النظر في تصميمه ، ليصبح من أضخم وأحدث متاحف العالم ، لأن هذا المتحف لن يكون للكويت وحدها ، بل سيكون للجزيرة العربية برمتها ، وسيكون قبلة انظار المؤرخين والباحثين والسياح . وقد جرت الاعراف الدولية ان ينال المنقب حصة عينية من الآثار  بالاضافة الى حقه بنسخ مصورة عن الآثار المكتشفة وتصوير كل ما يعثر عليه والاحتفاظ به لديه . 

لقد أن لهذا التراث الانساني المدفون في رمال الجزيرة وصحاريها ووهادها ، ان تمتد اليه يد عربية تكشفه وتمسح عنه غبار القرون الماضية ، وان تعرضه امام انظار العالم . وآن لآثار مأرب الرائعة ، وفيافي الربع الخالي ، وممالك حضرموت وعدن ، واساطير الجاهلية وحكايات شعرائها ، واحداث الجزيرة بعد هبوط الوحي وانتشار الاسلام ، آن لكل ذلك ان يتوضح في ذهن المواطن العربي وان يبعث حياً امام ناظريه . وآن ايضاً للتاريخ العربي ان يكتب من جديد ، بأقلام ابنائه ، منزهاً من الاخطاء والأوهام . 

ان هذه المهمة تشرّف من يقوم بها وتخلده . وجدير بالكويت ان تكسب هذا الشريف ، شرف الكويت في ابراز اعرق حضارة في تاريخ الانسانية والكشف عنها وحفظها من الضباع .