الاباضيون وحضارتهم في صحراء الجزائرحيث المواقع النفطية

لطفي ملحس

نشر المقال في ايلول / سبتمير 1962 ، العدد الثالث والعشرون ، الرائد العربي  

الجزائر  ، هذا القطر العربي الذي دوى اسمه ، وما زال يدوي ، في كل انحاء العالم قد غدا يلازم ذكره صحراءه التي اخذت تعلن عما تكنه في اجوافها من خيرات ، خاصة هذا الذهب الاسود ! وكأني به ينتظرصاحبه الجزائري ، لا سواه ، لاكتشافه واستغلاله ، وما هو معلوم من استئثار الاجنبي المستغل الآن للنفط المتفجرفي اماكن عديدة من البلاد ، في حاسي مسود ، حاسي نشو ، حاسي مستور ، ادجيل ، وريغان . ففي الصحراء الجزائرية ينابيع نفط عديدة ، كما أكد ذلك الخبراء الفنيون . إن هذه الاماكن الصحراوية التي ذكرتها ، وغيرها من اماكن اخرى ، قد مر عني ذكرها خلال دراساتي حول الاباضيين الخوارج ، ولكن مع شيء من التحريف الذي طرأ على تلك الاسماء بسبب نطقها باللفظ الافرنجي . اما الاباضيون الخوارج الذين سكنوا تلك الصحراء قروناً ، فاني قد أحببت ان يشاطرنا القراء الاطلاع على شيء من احوالهم وعلى ما كانوا عليه من قوة وذكاء وتمدن في وطنهم الصحراوي البعيد . 

من هم الاباضيون ؟ . 

ترجع قصة هذا الشعب والمدن التي اسسوها الى النصف الاول من القرن الهجري ، عندما اعترضت جماعة من انصار الامام علي بن ابي طالب ، كرم الله وجهه ، على التحكيم ، بعد ان كانوا يلحون به عليه ، حتى اضطر الامام علي الى قبوله . ومن المعروف ان هؤلاء المعترضين الذين سموا في ما بعد بالخوارج ، إنقسموا الى فئات عديدة ، منها فئة برئاسة رجل اسمه عبد الله بن اباض التميمي المرّي . وكان قد نجا من هذه الفئة عدد قليل بعد معركة حروراء المشهورة وتفرقوا في الارض ، فذهب بعضهم الى عمان ومسقط ، وسافر آخرون الى شمال افريقيا وعلى رأس هؤلاء يعقوب بن رستم الاباضي . ويقول مؤرخون انه الوحيد الذي انتقل من احياء معركة حروراء الى تلك البلاد البعيدة . ويقول آخرون ان الذين رحلوا اليها خمسة . المهم هو ان هؤلاء اخذوا يبثون دعوتهم بين القبائل ، فوجدوا آذاناً صاغية من قبائل البربر وبعض القبائل العربية في طرابلس وتونس والجزائر والمغرب . اما من توطن من الاباضيين في مسقط وعمان فقد نشروا مذهبهم هناك بشكل واسع ، ولا يزال الكثيرون من العمانيين الآن يدينون بالمذهب الاباضي . اما الشوافع السنة فهم الكثرة في مسقط ، باستثناء مطرح التابعة لمسقط والتي يتبع جميع اهلها المذهب الشيعي . 

الاباضيون في الصحراء الكبرى

سبق ان ذكرنا ان قسماً من الاباضيين رحل الى بلاد المغرب في القرن الثامن للهجرة وعلى رأسهم يعقوب بن رستم الاباضي . وهناك نشروا مذهبهم ، ثم فشا أمرهم ، وتمكنوا من اشاء دولة كبيرة عرفت بدولة "الرستميين " . وكانت تاهرت مدينتهم الكبرى . وهي تقع على سيف الصحراء الجزائرية وتقوم على انقاضها الآن بلدة تيارة . وحين كثر اتباعهم بصورة مدهشة واخذوا ينفذون تعاليم المبشرين بالمذهب الجديد ، لم يرق ذلك النجاح في أعين بني أمية في دمشق ، ولا بني العباس في بغداد ، فبدأوا في توجيه الجيوش اليهم ومقاتلتهم واجلائهم عن المراكز التي استقروا فيها . وكانت المعارك التي نشبت بين الفريقين التي وقعت على فترات متباعدة ،  شديدة قاسية . وحدث على أثرها ان بدأ اباضيو المغرب بالهجرة في اوقات وعهود متلاحقة ومختلفة. فالذين في مراكش انتقلوا الى جنوب جبال أطلس ، والذين في الجزائر توزعوا في المناطق الجنوبية ، والذين كانوا في طرابلس وتونس انتقلوا الى حدود السودان . وكان كل فريق من هؤلاء يبني مدناً وقرى وينشئ مزارع في تلك الامكان النائية في قلب الصحراء . وقد اكتشفت بعثة سويسرية مؤخراً مدينة اباضية اندثرت في صحراء الجزائر ، اسمها على الارجح " سدراته " التي سبق ان بناها الاباضيون في جوف الصحراء بين تلال رملية عالية وعلى بعد يتراوح بين 500 و 600 ميل الى الجنوب من مدينة الجزائر . وكان بناؤها قد تم قبل الف سنة . 

تقول البعثة السويسرية ان الاباضيين كانوا قد فجروا في تلك البقعة أغزر ينابيع الماء ، وحصنوا مدينتهم بحيث تصمد امام عصف الرياح . وكانت ان ازدهرت المدينة بسرعة وأصبحت ، آنذاك، ممراً للقوافل التجارية عبر الصحراء الى الشمال والجنوب . وكانت من المدن القلائل في افريقيا الشمالية التي جاء طراز عماراتها وابنيتها على شكل فريد خاص ، إذ امتازت ابنيتها بالبساطة والمتانة . اما الزينة المنقوشة عليها فانها لا تشبه ما كان موجودا ً على الابنية الأثرية في المغرب الاقصى . وقد وجدت البعثة الاثرية نظاماً رائعاً للري من العيون والابار الكثيرة التي كانت في تلك النواحي ، مما يدل على ان السكان لم يكونوا يعيشون على التجارة ورعي الماشية فقط ، بل كانت لهم ايضاً زراعة راقية وصناعة لا بأس بها بمقاييس ذلك العهد . كما وجدت البعثة ان المدينة كانت مخططة تخطيطاً بديعاً ، لها شوارعها وطرقاتها وميادينها ، وان المسجد الاكبر كان قائماً في وسطها . وكان يحيط بالمدينة سهل ممتد ، كان قبل تهدمها واختفاء معالمها أخضر يانعاً ، معموراً بالبساتين واشجار النخيل . أما مدينة " سدراته " التي سبق ان ذكرناها ، فكان مصيرها أسوأ مصير ، إذ هاجمتها القبائل والقوات التي لا تدين بالمذهب الاباضي ودمرتها ، كما دمرت المدن والقرى التي سبقتها . وقد اضطر الاحياء الناجون من سكانها الى المضي جنوباً  بعد هذه الكارثة ، متوغلين في الصحراء ، تاركين منازلهم ومزارعهم عرضة ليد التدمير ، وتعاونت الرياح السافيات مع القوى العسكرية ، فلم تمض غير مدة قصيرة حتى اندثرت معالم المدينة وما يحيط بها من اعمال ري وزراعة وأصبحت صحراء قاحلة . واليوم ،  وفي كل سنة، وفي مواعيد معينة ينتقل كثيرون من اتباع المذهب الاباضي الى موقع تلك المدينة المندثرة لزيارتها ، قادمين من تونس والجزائر والمغرب ، اضافة التى بعض القبائل الاباضية التي تعيش على الحدود ليجددوا ذكريات الماضي البعيد.