من اين أتت العملة ؟

سمير عبده 

نشر المقال في تشرين الاول / اكتوبر 1962 ، العدد الرابع والعشرون ، الرائد العربي  

النقود هي واسطة المعاملات التجارية . وقد كان الانسان في اوائل أطوار نشوئه يعتمد في معاملاته على المقايضة ، أي ان السلع كانت تقوم عنده مقام النقود . فكان يقايض القمح بالمواشي  ويبدل بالبقر حبوباً واشياء اخرى . وعليه ، المقايضة هي مبادلة سلعة باخرى . ويقول احد علماء الاقتصاد ان الانسان في مطلع عهد الحضارة استعمل ، تقريباً ، كل ما يمتلكه في مقايضاته ، تماماً كما يستعمل النقود الآن . فكان يستعمل الخرز والودع وقطع الحديد وما الى ذلك بدلاً من النقود .  

يتصل تارخ النقود اتصالاً وثيقاً بتاريخ الفنون والاساطير وسياسة الممالك . ولم يذكر التاريخ مملكة ظهرت  في العالم الا وظهرت معها عملتها الخاصة بها . فاذا سقطت المملكة ، لم تعش عملتها بعدها طويلاً . وفي الواقع ، ان تطور المدنية متصل بتطور نظام النقد . وقد شهد التاريخ انواعاً كثيرة من العملة ، بعضها مول المعاملات التجارية في معظم بلدان العالم بفعل توسع الدولة التي صكت هذه العملة ، ومن ثم اختفت هذه العملة مع اختفاء دولتها . هكذا سادت عملة اليونان والرومان طلما كانت الامبراطوريتان على راس العالم القديم . ولم يتسع استعمال النقود المعدنية الا في القرن السادس قبل الميلاد . اما الذهبية منها فالارجح ان اول من سكت كان على يد الملك قارون الذي يضرب به المثل في الغنى . ومنذ ذلك الحين اصبح لكل دولة نقود معدنية خاصة . 

إذا عدنا الى تاريخ علاقة العملة بقيام الدول وسقوطها ، نقول ان ضرب النقود قد اعتبر منذ أقدم الازمنة علامة على استقلال الدولة . 

كان الملوك المستقلون يحرصون دوماً على سك نقود باسمائهم وصورهم . وقد اختلفت قطع النقود دائماً باختلاف انواع معادنها واحجامها . كان بعضها كبيراً للغاية وبعضها دقيق الحجم ، وكانت بعض قطع النقود متناهية في الصغر . وقيل ان بعض قطع النقود الرومانية النحاسية كانت قليلة القيمة . ولا عجب ان قيمة النقود كانت دائما منذ القدم نسبية .  

استعمل الملك قارون الذهب في سك عملته . ومنذ ذلك الحين ، أصبح الذهب اساس النقد في العالم أجمع ، ومن بعده الفضة . وقد ظهرت قيمة الذهب قبل اربعين عاماً تقريباً في خلال الازمة المالية الخانقة التي تعرض لها العالم ، فسعت اكثر الدول الى ادخار ما تيسر لها ادخاره من سبائك الذهب ، بالاضافة الى مئات ملايين قطع النقود الذهبية التي كانت منتشرة آنذاك في العالم. والسبائك الذهبية ، باختلاف العملة الذهبية التي تمزج عادة بالنحاس لتقويتها ، هي من الذهب الصافي. فالسبائك الموجودة في بنك انكلترا المركزي تكون ذهباً صافياً يختلف عياره بين 91.66 من القيراط و99.98 من القيراط ، بينما هي في مصرف فرنسا المركزي ذهباً من عيار 99 قيراطاً ونصف القيراط . وكانت حكومة روما ، ايام الامبراطورية الرومانية ، تدخر سبائك الذهب ، وقد وجدت بعض هذه السبائك وعليها اختام الدولة الرومانية وزنتها خمسمئة غرام . وكذلك وجدت سبائك رومانية نحاسية . وكانت للنقود النحاسية في عهد الامبراطورية الرومانية قيمة لابأس بها . الا ان السبائك النحاسية كان ينقش عليها عادة رسم الثور . وكانت كل سبيكة نحاسية تعادل قيمة الثورالواحد . من هنا جاءت كلمة " بيكونيا" ومعناها نقود مشتقة من كلمة "بيكوس " ، أي رأس من الماشية . على ان الرومان كانوا يدخرون سبائك اخرى نحاسية عليها نقوش لها علاقة بشعائر القوم الدينية . ومع ان كل سبيكة كانت ذات قيمة في ذلك العهد ، فان قيمتها اليوم ، اذا ما اعتبرنا كمية المعدن الذي فيها فقط ، لا تزيد على بضعة قروش . 

لا بد م ان نذكر ان القبائل البدائية ، وبعض القبائل نصف المتمدنة ايضاً ، لا تزال الى يومنا هذا تعتمد المقايضة في معاملاتها التجارية . وأكثر ما تقايض به الحبوب والفاكهة والماشية والبهائم والنساء . وكانت النساء وسيلة للمقايضة في الازمنة الغابرة ايضاً . فكان الرجل يقايض ابنته او زوجته ببقرة او خروف او ما أشبه . 

تتوقف اليوم قيمة النقود المعدنية على مقدار ما تحتوي عليه من معدن . فاذا كان المعدن نادراً ، كانت قيمة النقد كبيرة والعكس بالعكس.