شرائع حمورابي : اول محاولة لقوننة العلاقات الجارية

إتسمت شرائع حـمورابـي في مجموعها بما يمكن وصفه بمحاولة ناجحة لخلق مجتمع متماسك تحكمه القوانين، إن في علاقة الافراد بعضهم ببعض داخل الدولة او في سلوك هؤلاء الافراد في علاقاتهم الخارجية وفي علاقة الدولة البابلية بدول الجوار والابعدين. إنها عملية تحضير طويلة الامد تقوم على انظمة وقوانيين واضحة تنظم علاقات وتصرفات الفرد داخل المجتمع والدولة وعلاقات دولة باقرانها الخارجيين. وأهم في هذه الشرائع انها كانت السباقة في تنظيم المجتمع – الدولة وفي ارساء أسس النظم الدولية المنثقة من النظم الداخلية لمجتمع ما او لدولة ما .

كانت شريعة حـمورابـي مجموعة من الشرائع السومرية والأكادية السابقة مع بعض التعديلات والعلاوات الجوهرية والأساسية. وقد سجل حمورابي شريعته على مسلة عظيمة ارتفاعها 8 اقدام من حجر الديوريت الأسود (صخر بركاني متبلّر) في ثلاثة الآف سطر من الكتابة المسمارية البابلية. وكانت المسلة قد نقلها الى مدينة السوس ملك عيلامي فاتح واكتشفها منقب آثار فرنسي في شتاء 1901 – 1902، والذي بدوره نقلها كغنيمة تنقيب الى متحف اللوفر في فرنسا.

حمورابي

تبوأ حمورابي الملك في بابل سنة 1728 ق.م. وحكم ثلاثة واربعين سنة انتهت بوفاته سنة 1686 ق.م. وكان الملك الساددس من بين احد عشر ملكاً بابليياً. ووضع في اثناء حكمه الشريعة التي نتكلم عنها وشملت أكثر نواحي الحياة في مملكته القدبمة. وجاء في مقدمة الشرائع: "لما عهد آنو العظيم، سيد ملائكة الارض، وانليل رب السماء والارض الذي بيده مصير البلاد، الى إنليل بكر الاله " أيا "ان يحكم جميع البشر. وعندما عظمّاه بين ملائكة السماء وجعلا اسم بابل مجيداً، انتدبني آنئذ آنو وانليل أنا حـمورابـي الامير الكريم عابد الآلهة لانشر العدل في البلاد وأقضي على الشر والغش وأمنع القوي من إضطهاد الضعيف الخ.. ثم ينتقل الى الاحكام الخاصة بالزراعة وايفاء الديون وايجار الارض والبيوت وسواها.

يظهر حمورابي في مسلته واقفاً أمام الاله شمش، اله الشمس والعدل، يتسلم بخضوع شريعته من اله جالس.

نشرت في الغرب ترجمات متعددة لشريعة او قوانين حمورابي. كانت اولاها ترجمة وضعها بالفرنسية ف. شيل سنة 1902. اما الترجمة الأكمل والأفضل فقد وضعها ديميل باللاتينية سنة 1930 ونشرها بعنوان "شرائع حمورابي" : النسخة الاصلية والترجمة اللاتينية. لكنها كانت ترجمة مشوشة وضعيفة وقديمة المصطلحات ومفككة التركيب. ثم جاءت الترجمة الالمانية التي وضعها وليم إيلز سنة 1931، وهي تعتبر أفضل الترجمات إطلاقاً وأدقها.

هدف  شرائع حمورابي

تهدف شرائع حمورابي الى إعداد البابليين والشعوب التي خضعت لهم الى الانصهار في بوتقة واحدة تحكمها قوانين واضحة تنظم كل شؤونهم، حتى اذا ما انطلقوا الى خارج حدودهم فاتحين او متاجرين او مستوطنين وجدوا ان لهم قوانين تحكم كل نواحي حياتهم. وكأننا بهذا الملك يمتلك رؤية واضحة لبناء مجتمع متماسك ومستعد، بالتالي، لاقامة علاقات خارجية، مهما تنوع شكلها، على الاسس ذاتها التي تحكم بلده. فاذا ما أراد هذا المجتمع المتاجرة، وهي الأهم في حياة أي شعب ينشد السعادة والثراء، فان ما لديه من قوانيين يحتكم اليها في هذا المجال، تنطبق عليه في أرضه وخارجها . 

الشرائع ذات صلة بالتجارة

تقول المادة الرابعة من شريعة حمورابي: اذا تقدم أحدهم بشهادة كاذبة تتعلق بالمال او بالحبوب فعليه ان يتحمل القصاص الذي يصدر بحقه. وتقول المادة السادسة: اذا سرق سيد بارز ملكاً يعود الى المعبد او الدولة فعليه ان يواجه الاعدام. وكذلك يعدم من تسلم بضاعة مسروقة من المعبد او من الدولة. وفي المادة السابعة: اذا تسلم سيد مؤتمن على فضة او ذهب، او أخذ رقيقاً، ذكراً أكان أم أنثى، او ثوراً او حماراً او نعجة او أي شيء آخر من يد ابن سيد او احد ارقاء هذا السيد بدون عقد او شهود، فان هذا السيد يكون سارقاً ويواجه الاعدام. اما الشريعة الثامنة فتقول: اذا سرق سيد ما يعود للهيكل من ثور او حمار او خنزير او قارب، او اذا كان ما سرقه يعود للدولة، فعليه ان يعيد المسروق ثلاثين اضعاف ما سرق. اما اذا كان المسروق يعود الى مواطن عادي فعلى السارق ان يعيد المسروق مضاعفاً عشر مرات. اما اذا كان السارق غير قادر على تنفيذ احكام هذا الحكم فانه يعدم.

تقول المادة الرابعة عشر: اذا سرق سيد ابناً لغيره فعل هذا السيد السارق ان يواجه عقوبة الاعدام. وتتكلم المادة الخامسة عشر عن سيد يساعد رقيقاً، ذكراً او أنثى، للهرب فانه يواجه عقوبة الاعدام. وتدعو المادة 22 الى اعدام السيد الذي يقترف جريمة سرقة وضبط بالجرم المشهود.

تتكلم الشرائع في موادها اللاحقة عن حقوق الجنود اثناء الخدمة الفعلية دفاعاً عن الارض والملك باستعادة املاكهم الخاصة اذا ما استغلها آخرون اثناء غيابهم. وتنتقل هذه الحقوق الى ابناء هذا الجندي في حال وفاته او استشهاده. واذا كان ابنه او ابناءه صغاراً يعجزون عن القيام بواجبات والدهم تجاه الملك، فان ثلث الحقل والبستان يعطى للمرأة لتتمكن من إعالة عائلتها. وتتحدث مواد اخرى عن علاقة سيد ومدين بدءاً من الاستدانة الى التسديد مع الفائدة. وتنسحب هذه المواد على علاقة الممول بالمزارع، وكذلك على التاجر والممول .

تتحدث المواد 280 وما يلحق بها عن علاقات ابناء مملكة بابل التجارية الشخصية مع الخارج، كشراء خادم او استئجار قارب الخ.. وتدعو هذه المواد الى إقامة العلاقات على العدل بما يضمن حقوق الجميع. وفي الخاتمة يقول حمورابي: لقد انتصرت على الاعداء وانهيت الحرب وعززت ازدهار بلدي وحققت لشعبي الاقامة السالمة، ومنعت أي انسان من ان يعتدي على ابناء شعبي او ان يرهبهم. وها هم ابناء سومر وأكد ينعمون بالازدهار بحمايتي، ومنحت المظلوم ما يعود اليه من حقوق.

الشرائع إطار  لتنظيم الحياة المدنية

يستدل من هذه الشريعة انها تهدف في ظاهرها الى قوننة علاقات المواطنين بعضهم ببعض وعلاقاتهم بجيرانهم خارج المملكة. وهي تنسحب على ما دار من علاقات لمملكة بابل مع الخارج. إلا انها افتقرت الى تحديد اسس قانونية واضحة لعلاقات المملكة الخارجية واكتفت بالعموميات، خصوصاً في ما يتعلق منها بالعلاقات التجارية، مكتفية بتحديد مسؤليات الافراد في سلوكهم الداخلي والخارجي، إن في حدود مملكتهم، او في علاقاتها الخارجية. وفي كلا الحالتين دعت الشرائع الى علاقات قائمة على العدل المتبادل والمنفعة المشتركة بين المتعاملين. وهذا ينسحب على الافراد والدول. فهي كشريعة محلية لم تضع شرائع وقوانين دولية، ذلك لأن ذاك الزمن لم يكن بعد بحاجة لقوانين عابرة للقبائل والمجتمعات المحلية والدول الصغيرة، ولا حتى الامبراطوريات. انها شريعة وضعية محلية الطابع فرضتها اوضاع ذلك الزمن، فكانت السباقة في تنظيم الافراد وتأهيلهم للعمل على مستوى ابعد من دولة محلية او امبراطورية محدودة الاطراف.

اما ما يهمنا في ابحاثنا المتعلقة بالتجارة الدولية فيمكننا القول ان هذه الشرائع شكلت أول إطار داخلي يمكن تعميمه خارجياً.

ولا بد من الاشارة هنا الى ان شريعة
حـمورابـي لم تكن الوحيدة الناظمة لعلاقات الافراد والجماعات والدول، بل كانت هناك شرائع اخرى قديمة شبه مماثلة بينها شرائع عشتار التي تألفت من 38 مادة. وهي تعالج مواضيع استئجار القوارب والممتلكات، بخاصة البساتين والرقيق والخدم والتخلف عن تسديد دين تجاري والزواج والارث الخ.. وكذلك شرائع أشنونة التي تتعلق بأكثرها بالمحاصيل من شعير وزيت واستئجار عربات تجرها الثيران او استئجار قارب وسائق.

ختاماً لا بد من الاشارة الى ان كل هذه الشرائع والقوانين لا ترقى الى حدود قوانين العالم الحديث، انما كانت اولى الخطوات التي خطاها الانسان قديماً في تنظيم حياته المادية والمعيشية ضماناً لاستمراريته وتقدمه وانفتاحه.

 



حمورابي
بابل