الصناعة الحرفية والتعدين في شبه الجزيرة قبل الاسلام وعلاقتها بالتجارة

الصناعات الحرفية

إنخرطت أعداد كبيرة من ابناء شبه الجزيرة في الزراعة قبل
الإسلام. ومع تطور الزراعة وانفتاح الاسواق المحلية والخارجية تشرعت الابواب واسعة امام الصناعة الحرفية التي كانت آنذاك في أول مراحلها. فبتنا نقرأ عن عطارات مثل أسماء بنت مخرمة (قيل مخرية) التي كانت تستورد العطر من اليمن وتبيعه في المدينة، وعن النعمان بن المنذر ملك الحيرة يبعث كل عام الى سوق عكاظ لطيمة (عير تحمل تجارة) فتباع هناك ويشترى له بثمنها العصب والبرود والأدم وسواها،  وعن ان ورق الحلف كان يجلب من اليمن بعد معالجته وتجفيفه لاستعماله في الصباغة، وعن سوق خاصة للصاغة في يثرب، وعن نشوء صناعات مستقلة عن الانتاج الزراعي مثل صناعة الأدوات الزراعية والاسلحة والأوني الفخارية في مكة .

ويذكر
البلاذري في مؤلفه "أنساب الأشراف" ان صناعات حرفية انتشرت في مكة، بينها صناعة الصياغة والحلي والمجوهرات وصناعة الأسلحة وصقل السيوف والنجارة. ونشأت صناعات حرفية مماثلة في كل من يثرب والطائف.

إشتهر في مكة حرفيون بينهم أمية بن خلف الجمحي الذي عمل في صناعة الفخار وعتبة بن ابي وقاص الذي عمل نجاراً و
سعد بن أبي وقاص الذي كان يبري النبال وخباب بن الأرث وكان من صانعي السيوف وصقلها. كل هؤلاء عاشوا قبل الإسلام مباشرة ومنهم من أسلم ومنهم من حارب الاسلام .

قامت هذه الصناعات الحرفية على ركيزتي الزراعة والتعدين. ولو لم تجد لها أسواقاً محلية وخارجية لما ظلت حية. فلطالما قدمت الزراعة، كما المعادن، الخدمات والمواد اللازمة للقطاع الحرفي، وبدورها قدمت الصناعة الادوات والآلات التي تحتاج اليها الزراعة كي تنمو وتتطور. وهذا ما حصل في شبه الجزيرة وبخاصة في
اليمن والحجاز والساحل الشرقي. ومن بين الخامات التي وجدت طريقها الى التجارة: خامات الحديد والذهب والفضة والنحاس والرصاص والزمرد والعقيق والصلصال والاحجار القابلة للنحت كالمرمر والرخام. وكانت للثروة الحيوانية نصيبها في تعزيز الصناعات الحرفية، إذ قدمت جلودها وأصوافها ووبرها والبانها. أما ما قدمته الزراعة فشمل نباتات استخرجت منها مواد دخلت في الدباغة والنسيج والعطور والطبابة والخمور .

أدت كل هذه النشاطات الى بروز حركة تجارية نشطة فكانت العماد الاساس في تنشيط الاسواق المحلية والموسمية وما تيسر بيعه من تجار وافدين من الخارج، ومعها ارتفعت وتيرة الاستثمار المالي وتوظيف المهارات المهنية من محلية او مستوردة، واستقدام المزيد من الرقبق للعمل في الزراعة .

المعادن والصناعات الحرفية

شكلت المعادن المستخرجة المادة الاولية في صناعة الادوات والاواني المعدنية مثل الاقداح والصواني والمرايا والمسارج واللوحات البرونزية والتماثيل والاسلحة والمسكوكات والنحت وادوات البناء والزراعة. كذلك انتشرت صناعة الحلى والمجوهرات ونشطت مع ازدياد الطلب على اقتناء المصوغات من جانب وجهاء القبائل والاثرياء والتجار. وتميزت يثرب عن سواها من المدن الحجازية في هذه الصناعة. فكان في قرية واحدة، هي قرية زهرة الواقعة بين حرة واقم والسافلة، حوالى ثلاثمئة صائغ يصوغون الأساور والدمالج والخلاخيل والأقراط والخواتم والعقود من الذهب او من الجواهر الثمينة الاخرى. واحتكر بنو قينقاع اليهود هذه الصناعة الحرفية واختصوا بها وكانوا يبيعونها في سوقهم الخاصة الذي عرفتت بسوق الصاغة. أما تدمر فاشتهرت بغزارة الحلي في المنحوتات التدمرية وتجمعت لسكانها ثروات طائلة بفعل التجارة. وقال ابن منظور في "لسان العرب" ان عبد الله بن جدعان ، وهو احد أثرياء مكة، لم يشرب ولم يأكل الا بآنية من ذهب او فضة .

شاعت الحدادة في مكة ويثرب وامتهنها الاشراف والعبيد على السواء. وفي يثرب ارتبطت الحدادة بالاعمال الزراعية، كصنع المحاريث والمناجل والفؤوس ومناجل الحصاد. واحترف هذه الحرفة العرب واليهود. أما صناعة الاسلحة والدروع في يثرب فاحترفها اليهود. اما صناعة النقود المعدنية التي سماها العرب بالمسكوكات فقد عرفها العرب في العصور  القديمة . وسنتحدث عنها بالتفصيل في مقال خاص لاحق يتعلق يسك العملة.

غلب الطابع الحرفي واليدوي على الكثير من هذه المصنوعات، إن لم نقل كلها. وشملت المصنوعات الحجرية والجلدية والدباغة والعطور والاصباغ والحرف الخشبية والفخارية والاواني الزجاجية والمواد الغذائية وبناء السفن. فكل هذه الصناعات الحرفية تتحدث عنها المصادر العربية القديمة كسلع للتداول المحلي، لا على سبيل التصدير. فالاتجار بها ظل الى حد كبير ضمن حدود المنطقة المنتجة او المصنعة، وهو ما يمكن ان ننعته بالتجارة المحلية .

في شبه الجزيرة العربية

في شبه الجزيرة العربية أحجار متنوعة قابلة للنحت والتشكيل . وقد أسهم توفر هذه الاحجار على نطاق مقبول في قيام صناعة أدوات وأوعية حجرية . فمن المرمر صنعت أوعية مزينة بالنقوش لحفظ العطور واللـبـان . كما صنعت منها مجامر وتماثيل. ومن الحجر الصابوني صنعت اواني الطبخ. ومن احجار الغرانيت والديورات صنعت دواليب الرحى والمساحق لطحن الصخور واستخلاص معادنها. ويقول ديدورس الصقلي ان احجار شبه الجزيرة كانت أكثر جودة من احجار جزيرة باروس التي اشتهرت آنذاك بجودة احجارها ومصنوعاتها الحرفية الحجرية .

نشطت صناعات الغزل والنسيج في
مكة بعدما نمت حاجات الناس اليها وتزايد الطلب على منتوجاتها، مثل الاثاث المنزلي والأرائك والفرش وسواها. وطور اليمنيون هذه الصناعات فأدخلوا عليها بعض التقنيات المستحدثة ولجأوا الى الأصبغة النباتية لتلوين الاقمشة. وكانت خامات الصباغ متوفرة في اليمن، ومن بينها: الورس والعصفر وقرف الأرطي والعصب وسواها.

راجت تجارة الأقمشة والثياب اليمنية في اسواق شبه الجزيرة العربية، لا سيما البرد الذي عرفت عدن بصناعتها. كذلك اشتهرت قطر بالنجائب، وهي برود من غليظ القطن. أما هجر فعرفت بصنع الملابس الفاخرة. وكل هذه المصنوعات وجدت طريقها الى الطبقات الميسورة والغنية. وكانت حصة فقراء البدو والحضر والعبيد ما تيسر من الثياب البسيطة والخشنة وذات الكلفة المتواضعة .

راجت في انحاء شبه الجزيرة العربية صناعة البسط المصنوعة من الصوف وشعر الماعز، كما ازدهرت صناعة الخيام من الوبر وشعر الماعز والصوف وجلود الانعام .

لم تكن هذه المصنوعات لتكفي حاجة الاسواق في شبه الجزيرة، فأقبل عرب الجاهلية الى استيراد المنسوجات النفيسة من بلاد فارس والهند والصين وبلاد الشام ومصر. ومن بين هذه المنسوجات المستوردة : الديباج والسندس والانسجة الحريرية والقطنية والصوفية .

شهدت شبه الجزيرة آنذاك نشوء صناعة أصباغ وعطور ناشطة. وعرفت عدن ، بنوع خاص، بصناعة الطيب. فكان يقصدها التجار من الهند والسند وفارس وبلاد الروم للحصول على طيوبها وأشهرها دهن العنبر والزباد والمسك. وكانت عطور اليمن تصدَر الى مكة وتباع في محلاتها التجارية. ويبدو ان عطاري اليمن استوردوا من الهند وغيرها بعض المواد التي كانوا يصنِعونها طيوباً فاخرة ومن ثم يصدرونها الى الخارج كبلاد فارس وبلاد الروم. ويقال ان اهل
البتراء، عاصمة الانباط، عملوا، هم ايضاً، في تجارة الطيوب المصنعة .

إنتشرت الصناعات الخشبية بفضل نمو عدد كبير من الاشجار في غربي شبه الجزيرة العربية وفي جنوبها الشرقي وفي بعض الاودية، إضافة الى ما كان يستورد من أخشاب افريقيا والهند الصلبة مثل الصندل والآبنوس .

أدت كل هذه النشاطات الصناعية الى بروز حركة تجارية نشطة كان عمادها الاسواق المحلية والموسمية وما تيسر بيعه من تجار وافدين من الخارج، ومعها ارتفعت وتيرة الاستثمار المالي وتوظيف المهارات المهنية من محلية او مستوردة، كما جرى استقدام المزيد من الرقيق للعمل في الاراضي الزراعية.

التعدين


يعد التعدين من المهن الرئيسة التي احترفها العرب قبل
الإسلام. فشبه الجزيرة العربية اختزنت العديد من المعادن، بخاصة معدني الذهب والفضة. وقد ذكر الجغرافيون العرب أسماء معادن كان أهل الجزيرة يستخرجونها آنذاك وأماكن وجودها والادوات والوسائل التي استخدموها في التعدين وتنقية المعادن .

طور عرب الجاهلية عمليات التعدين، بدءاً من جمع ما تيسر من معادن منتشرة فوق سطح الارض، وانتقالاً الى عمليات قشط الطبقة الخارجية الحاملة للمعدن، واخيراً الى حفر الانفاق تحت سطح الارض. وكان طحن المعدن الخام المستخرج يجري بالقرب من المنجم، ومن ثم كانت المادة المطحونة تحرق في أفران لفصل المعدن عن المواد المختلطة به. ويلي ذلك صهر المعدن الحاصل في الافران وجمعه في أحواض، تمهيداً لنقله الى مراكز التصنيع في المدن حيث يجري تحويله هناك الى أدوات إستعمال .

الذهب والفضة والحديد

وجدت المعادن في أماكن عديدة من شبه الجزيرة. فالذهب وجد في ارجاء عديدة من اليمن بينها مأرب وذمار وضنكان التي اشتهرت بوفرة التبر، مثلها مثل ارض بني سابقة بين صعدة ونجران وصعاد والقفاعة حيث التبر كان موجوداً بكميات كبيرة. واعتبر ذهب صعدة من أفضل المعادن، وماثله جودة معدن المخلفة من ارض حجور في همدان بشمالي اليمن . كذلك اشتهرت ديار بني سُليم بوجود الذهب ومثلها اليمامة حيث وجد هذا المعدن الثمين في نواحي عماية والضبيب والثنية والوسجة وتياس. وهذا ما ذكره الهمداني في كتابه "صفة جزيرة العرب" .

يذكر كتاب العصرين الهلينستي والروماني ان بلاد العرب كانت مصدراً للعديد من المعادن، بخاصة الذهب والفضة. فقد تحدث ديدوروس وسترابو عن انواع المعادن المتوفرة في شبه الجزيرة العربية وعن تعدينها ومجالات استخراجها وتجارتها.

كانت الفضة من المعادن المعروفة في
اليمن، وموضعها بالرضراض. وفي مكان قريب من صنعاء وجد العقيق والذهب والفضة. وكذلك في ألهان التي كان معدنها من أفضل وأجود ما كانت تنتجه اليمن من الفضة. كما استخرج العقيق الأحمر والأصفر والجزع (مقطع بالوان مختلفة) من منطقة صنعاء. واشتهرت ظفار بجزعها الذي فيه سواد وبياض.

عرف العرب كذلك معدن الحديد. فقد وجد في أرض
بني سُليم في نقم وغمدان حول صنعاء، كما في جبل الحديد بعدن وصنعوا منه الادوات الانتاجية الزراعية ووسائل الري. كذلك استخدم أهل اليمن الرصاص في كثير من أعمالهم، بخاصة رصاص الآنك، وهو الرصاص الخالص الذي استعمل في طلي الاواني. كما عرف اليمنيون الكبريت الذي استخرجوه في زمار، وايضاً الزاج ويقال له ايضاً الشب اليماني، وهو من الادوية. وهو شب أبيض له بصيص شديد إستعمل في دباغة الجلود. وفي مأرب كان جبل الملح الذي امتاز بصفائه. وكذلك استخرج الملح من ممالح نجد وتهامة، كما كثر الملح في وادي السرحان التي عرفت قراها بقرى سبخات الملح .

المراجع
1 – ابن منظور ، جمال الدين : لسان العرب ، بيروت ، لا تاريخ .
2 – الهمداني ، ابو محمد الحسن : صفة جزيرة العرب ، بريل ، ليدن
3 - زيدان ، جرجي : العرب قبل الاسلام ، دار مكتبة الحياة ، بيروت لا تاريخ .
4 – شاكر ، محمود : شبه جزيرة العرب ، المكتب الاسلامي ، دمشق ، 1976 .
5 – فروخ ، عمر : تاريخ الجاهلية ، دار العلم للملايين . لا تاريخ .
6 – علي ، جواد : المفصَل في تاريخ العرب قبل الاسلام ، دار العلم للملايين ، لا تاريخ .
7 – عبد النعيم ، محمد : آثار ما قبل التاريخ وفجره في المملكة العربية السعودية ، مؤسسة الجريسي ، الرياض ، 1995 .
8 – ياقوت الحموي : معجم البلدان ، دار صادر ، بيروت ، 1966 .
9 - Strabo : The Geography of Strabo , London 1983
10 – Philby , J.H. The Background of Islam , Whitehead , Morris Press , Alexandria و 1949
11- Bowen , R . Ancient Trade Routes , Johns Hopkins Press , Baltimore , 1958

 



اليمن
البلاذري
مأرب