زنوج ورقيق وعبيد : عمالة وتجارة

كثرت الاشارات في المصادر القديمة الى الرقيق والزنوج والعبيد الذين أسهموا في الحياة الاقتصادية بعد الفتوحات. وكان لهؤلاء اليد الطولى في تنشيط الزراعة والحرف البسيطة والتعدين. وقد صنف الرقيق بين أسود وأحمر نسبة الى الحبشة وما جاورها، والى أصفر نسبة الى بلاد فارس وآسيا الوسطى، وانتشر هؤلاء في أماكن متعددة كالحجاز واليمن واليمامة. أما العمال الفرس الذين عملوا في اليمن في منجمي شمام بالجام فقد قدروا في وقت من الاوقات بأكثر من الفي عامل. وكان لهم معبد زرداشتي. وورد في هذه المصادر ان قوة خراسانية قوامها الف جندي استقرت في حماية امارة بني زياد وعمل افرادها في منجم الرضراض باليمن، وهم من أصول فارسية. كذلك عملت عمالة فارسية في مناجم ذمار وصنعاء وعـدن، إما لأن أهل اليمن عزفوا عن امتهان مهنة التعدين او لكون العمال الفرس كانوا أكثر مهارة. وكانت اليد العاملة الفارسية تتدفق في هجرات مستمرة الى منطقة منجم الرضراض من قبل الدعوة الاسلامية وحتى العصر العباسي.

الرق في شبه الجزيرة العربية

إنتشر الرق في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام وبعده، وأصبح ظاهرة مألوفة. وكانت المناطق الزراعية في شبه الجزيرة مراكز تواجد الرقيق للحاجة اليهم في الزراعة، لذلك كثروا في اليمن واليمامة. أما في الحجاز فعمل الرقيق في الخدمة بالمنازل والرعي وبعض الحرف اليدوية. وكانت في المدينة نخيل كثيرة يديرها رقيق من العمالة السود. ويرى مؤرخون ان زبيداً أصبحت في وقت من الاوقات قاعدة كبيرة لتجمع العبيد، خصوصاً من الأحباش الذين زاد عددهم بفعل اعتماد الدولة الزيادية عليهم في الادارة والجيش، إضافة الى جلب اصحاب المزارع لعدد كبير منهم، مما شكل تهديداً لدولة بني زياد نفسها.

كان العبد في عصر الاسلام المبكر يباع بثمانمئة درهم. أما العبيد الذين تمتعوا بخبرات تجارية فكانت أسعارهم أعلى بكثير حتى وصل سعر الواحد منهم الى عشرين الف درهم، وهو مبلغ دفعه انس بن مالك الانصاري لشراء عبده سرين. ودفع عبد الله بن عمر بن الخطاب خمسة وثلاثين الف درهم مقابل شراء عبد. وترجع هذه الاسعار المرتفعة الى الخبرة التجارية التي تمتع بها هؤلاء العبيد. يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي اسباب هذا التوسع في الاتجار بهذه الاعداد الكبيرة من اليد العاملة، ما يبرر دفع الاثمان المرتفعة جداً بمقياس ذلك الزمن لشراء هؤلاء العبيد او استئجارهم؟ . وما طبيعة العلاقة بين المواطنين والعمال الاجانب، وما هي المشاكل التي واجهت العمالة الاجنبية. وهل كان للاوضاع السياسية أثرها في ذلك. وقد تحدث مؤرخون قدامى كابن حجر والشيباني والمواردي عن ميادين العمل التي إنخرطت فيها اليد العاملة المستقدمة وكذلك اليد العاملة المحلية. وقد رأى هؤلاء ان المهن التي زاولها العمال تفوق التعداد والحصر. وهي تنقسم الى اربعة أقسام: محرمة ومباحة وشريفة وضرورية. فالتنجيم وصناعة الخمور كانت محرمة. أما المباح منها فشمل الكثير من المهن، باستثناء ما ورد النص بحرمته. وشملت الشريفة الطب والكتابة والتعليم والوراقة. أما الضرورية فكانت التجارة والبناء والخياطة والحياكة. وقد اختصت بكل صنف فئة من اليد العاملة، محلية أكانت أم مستقدمة. أما أهم المهن التي شاعت آنذاك، أي في العصر الوسيط، فشملت الصيد، الجمع والاحطاب، الرعي وتربية الماشية، الزراعة، صناعة البناء، الصناعة بشكل عام، التجارة، التعدين، الدباغة، الصباغة، الخرازة، الغزل والنسيج، الحلاقة، الكتابة والقراْة والترجمة، الطب والتمريض، العطارة ، واخيراً الصيدلة. ولا بد من الاشارة هنا الى ان أهل اليمامة استفادوا في استثمار معادن بلادهم من خبرة الآخرين. فقد ذكرت مصادر قديمة بينها ما ذكره الاصفهاني، ان ايرانيين مجوس عملوا في مناجم اليمامة. وكان للايرانيين خبرة في التعدين اكتسبوها من العمل في مناجم بلادهم التي كان التعدين فيها منتشراً في عصور تاريخية مختلفة. فقد إشتهرت ايران، على سبيل المثال، كمركز اساسي لسك العملات الفضية. وقد بلغت مراكز السك فيها ستين مركزاً في خلال الحقبة الساسانية.

التعامل المالي مع هؤلاء العبيد والزنوج والرقيق

كيف كان يتم التعامل المالي مع هؤلاء العبيد والزنوج والرقيق المستقدمون من الخارج؟. لا تتحدث المصادر كثيراً عن هذا الموضوع، الا ان هناك اشارات الى ان بعض العبيد والزنوج و الرقيق كان يتم شراءهم ويمضون جل حياتهم يخدمون الشاري، الا اذا باعهم بدوره من شارين آخرين. والبعض الآخر كان يتقاضى اجوره نقداً او عيناً وكانوا يسكنون مع اسيدهم في المزارع او قرب المناجم. وقد أكد الطبري ان الرقيق في الحجاز كانوا يعملون الى جانب اسيادهم ويتقاضون اجورهم عيناً من المحاصيل الزراعية. وهذا، على ما يبدو، كان ينطبق على اليمن. اما المهن الاخرى في الحجاز واليمن، خاصة المهن الحرفية، فكان العامل فيها لا يعمل بجانب سيده، بل كان يمارس حرفته في مكان عام يرتاده الناس حتى يتمكن من بيع السلع التي يحترفها لحساب سيده. وتقول هذه المصادر ان اهل الحجاز كانوا يأخذون ضرائب او اتاوة من هؤلاء العمال.

من الميادين الحيوية والمهمة التي عملت فيها العمالة المستجلبة فكان العديد منها يتعلق بالري وتقنيته. ويأتي الري في أولويات التقنية الزراعية لاهمية المياه للزراعة، ولكون شبه الجزيرة تفتقر كثيراً في مناطق متعددة منها للمياه. وقد اختصت مؤلفات عديدة في التحدث عن هذه القضية – المشكلة، مثل مؤلفات ابن بصال وابن العوام و
ابن الأعرابي . وتشير مصادر مختلفة الى استعانة أهل البلاد بالخبرات الاجنبية التي استقطبت من عاصمة الخلافة وسواها لحل المشاكل الفنية التي واجهت التفتيش عن مصادر للمياه والاستقادة منها . ففي شبه الجزيرة مساحات صحراوية واسعة ، لهذا اعتمدت الزراعة من قبل على الامطار القليلة وعلى الابار السطحية . وكان الري يعتمد على وسائل بسيطة بمساعدة الحيوان. من هنا نرى ان الدولة الاسلامية منذ بدء الدعوة صرفت أموالاً طائلة على تقنية الري في الحجاز ونجد، فأدخلت تقنيات جديدة على طرق استخراج المياه الجوفية التي استعملت سابقاً بعد ان أدخلت عليها تطوراً جديداً. فالات التي استعملت سابقاً في استخراج المياه الجوفية كانت تصنع من الخشب فاستبدلت الآن بالحديد. وجرى تطوير المحراث والمجثات والمنجل والقلب وتم الربط بين سلسلة من الابار الجوفية لرفع المياه الجوفية الى سطح الارض.

كان للعمالة المجلوبة من الخارج دورها الكبير في المصانع والمعامل والورش. فاشتهرت الطائف بمعامل الدباغة، كما اشتهرت مدن الحجاز بصناعة الحلي والاسلحة كالقسي والرماح والسيوف والمعدات الزراعية الحديدية كالفؤوس والمحاريث وصناعة القفف والمكاتل من سعف النخيل. اما الحدادة فكانت مهنة محتقرة عند العرب. وكان يقوم بها الرقيق او بعض افراد الجالية اليهودية في اليمن واليمامة. كذلك عمل اليهود والعبيد في الصباغة والدباغة. اما النسيج والخياطة فاشتهرت بهما اليمن واليمامة وهجر. وكانت الثياب تنسب الى مصادرها مثل : ثياب السحول من بلدة سحول باليمن، والبرد القطرية نسبة الى
قطر والصحارية نسبة الى صحار باليمن. اما عدن فاشتهرت ببردها.

تعزز التعدين في العصرين الاموي والعباسي بعد ان انفتحت اسواق البلدان المفتوحة بعضها على بعض وكثرت الايدي العاملة من عبيد وزنوج ورقيق، وبتنا نرى، مثلاً، معادن شبه الجزيرة العربية في اسواق كل البلدان المفتوحة. وشملت هذه المعادن: الفضة والذهب والحديد والعقيق والجزع. وعد معدن بني سليم، او معدن فران كما دعي لاحقاً، من أغزر مناجم الذهب في شبه الجزيرة العربية. وكان منجم حليت في حمى ضرية، وكان يسمى التجاري.

ويشير الهمداني الى ان معدن العقيق في نجد كان من أغزر معادن الذهب في شبه الجزيرة. وقال ياقوت ان عدد المناجم هذه كان أكثر من عشرة مناجم. كذلك ذكر الهمداني ان مناجم جديدة وجدت في
اليمن. كذلك حفرت مناجم للفضة في شبه الجزيرة العربية مثل منجم الرضراض في اليمن ومنجم حمام باليمامة.

أما مناجم الحديد فكان من بينها منجم رغافة في اليمن الذي كان فيه خمسة عشر كيراً لسبك الحديد، ومنجم قساس في نجد ومناجم العقيق والجزع في اليمن التي كان يصنع منها الخرز والفصوص والأواني السعوانية او البقرانية. وكانت أعداد كبيرة من العبيد والرقيق تعمل في هذه المناجم، حتى قيل ان لولا هؤلاء العمال لبقيت المعدان في ارضها غير مستخرجة.

ترتب على وجود المعادن واكتشافها قيام صناعات معدنية مثل صناعة الحدادة والصياغة. وقد استمرت صناعة الحدادة مزدهرت في اليمامة حتى القرن الخامس الهجري. كذلك نشطت حرفة الصياغة هناك حتى القرن الخامس نفسه، ومن ثم انتشرت مزدهرة في اسواق الصاغة في الحجاز وعدن واليمن واليمامة. غير ان هذه النشاطات المعدنية تطلبت مساعدة بشرية تتمتع بخبرة لم تكن متوفرة في شبه الجزيرة في ذلك الوقت. من هنا نرى كثرة استجلاب الأيدي العاملة الخارجية ذات الخبرة. وكان بالتالي لا بد من تنظيم محكم لهذه العمالة، خصوصاً في الحجاز واليمن. وذكرت بعض المصادر ان صاحب صعدة (الحاكم) كان يفرض جباية على أصحاب المدابغ، وبالتالي تعداد العاملين وعدد المدابغ وكمية الانتاج حتى يتمكن من تحديد مقدار الجباية . أما في مكة فقد كان للمهن الحرة مشرف يتابع حركة العمل والعمال وأطلق عليه اسم أمير الحاكة او أمير النساجين .

إنخرط العبيد والموالي بالمدينة في مهنة السقاية ، وكانوا يسمون بسودان أهل المياه . وبدورهم استعان أهل اليمامة منذ وقت مبكر بالايدي العاملة من الرقيق المجلوب في مجالي الرعي والزراعة . وكان الخليفة الأموي معاوية بن ابي سفيان قد استقدم عمالة أجنبية للعمل في ممتلكاته الزراعية في الخضرمة ، وهي منطقة خصبة في جنوب اليمامة . وكانت هذه العمالة من الرقيق الذي أرسله من الشام .

إستمر الرقيق في العصر العباسي يعمل في المجال الزراعي . فقد ذكرت مصادر عديدة ان الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور طلب من والي اليمامة السَري بن عبد الله الهاشمي ان يشتري له رقيقاً من رقيق اليمامة للعمل عنده ، فاشترى له مئتي غلام من اليمامة. ويعتقد ان هؤلاء كانوا من مواليد اليد العاملة الاجنبية التي سبق ان جلبت للعمل في مزارع اليمامة. ويقال ان احد ولاة اليمامة في العصر العباسي، وهو محمد بن سليمان العباسي قد ملك عدداً كبيراً من الرقيق حتى ذكر ان عدد مواليه وصل الى خمسين ألف مولى ، بينهم حوالى عشرين الفاً من المعتوقين والباقي من عبيده المتزوجين ولديهم ذرية. وجاء في أكثر من مصدر واحد ان الرقيق توافدوا على البلاد الاسلامية حتى العصر العباسي وأصبح الاتجار بالرقيق في مجتمع اليمامة معروفاً ومزدهراً، وصار للرقيق سوقاً مشهوراً في اليمامة طالت شهرته كل مناطق شيه الجزيرة العربية.

مارس بعض الموالي التجارة الحرة حتى كان منهم من عمل بالنخاسة، ومنهم من أصاب ثراء ظاهراً كعقبة بن شريك الذي عرف باسم البربري. وقد استدان منه المحتاجون وكان يشكوا الى الوالي من يماطله في تسديد دينه حين حلوله.

عمل الزنوج في الزراعة في عمان في القرن الرابع الهجري. ويذكر
ابن الجوزي ان حريقاً وقع في عُمان سنة 324 هجرية فاحترق من العبيد السود، سوى البيض، اكثر من اثني عشر الف شخص. ويدلنا هذا العدد الضخم على كثرة الأيدي العاملة الاجنبية المشتراة وتوفرها في عمان في القرن الرابع الهجري. وتشير المصادر الى أن أهل اليمامة استمروا بشراء الرقيق الى ما بعد القرن الثالث الهجري. فذكر ابن بلهيد ان بالحوطة من اليمامة وحدها اربعة الاف بئر يعمل في كل بئر منها نفير من الرقيق، أي ما مجموعه ستة عشر الف عامل ، وهو رقم كبير جداً في بلدة واحدة من بلاد اليمامة الصغيرة.

سيطر الموالي على سوق العمل والمهن والحرف في فجر
الإسلام سيطرة شبه كاملة على قطاعات معينة في سوق الحرف. وقد كثرت كذلك فئة الموالي. وفي العصر الوسيط احتفى اسم الموالي من السجلات، الا انهم ظلوا كمواطنين. وقد اختلف الناس ازاءهم وازاء الحرفيين الذين لا ينتسبون لقبائل معروفة. فمن يرى انهم من أصل رقيق مشترى، حصلوا على العتق في ظروف زمانية ومكانية مختلفة، ومن يرى انهم لاجئون او من بقايا محاربين مرتزقة انقطعت بهم سبل العودة الى بلدانهم الاصلية. وتكاد تجمعهم ثلاث ارومات: حبشية ورومية وفارسية.

المراجع
1 – ابن الجوزي ، عبد الرحمن : المنتظم في تاريخ الملوك والامم ، حيد اباد ، 1357 هجرية
2 – ابن الأثير ، علي : الكامل في التاريخ ، دار الفكر ، بيروت 1398 هجرية .
3 – الشري ، احمد بن ابراهيم : مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول ، دار الفكر العربي ، القاهرة ن 1956 .
4 – العمري ، حسن : الامراء والعبيد والمماليك في اليمن ، دار الفكر المعاصر ، بيروت 1989 .
5 – الازرقي ، ابو الوليد : اخبار مكة ، دار الاندلس ، بيروت 1983 .
6 – البلاذري ، ابو العباس : فتوح البلدان ، مكتبة الهلال ، بيروت 1978 .
7 – الافغاني ، سعيد : أسواق العرب في الجاهلية والاسلام ، دار الكتاب الاسلامي ، القاهرة ، لا تاريخ .

 



الطبري
الاسلام