حوض البحر المتوسط : صراع تجاري بين بزنطية والعرب

عندما فتح العرب بلاد الشام ومصر احتفظوا بالادارة التحتية والسجلات كما كانت عليها وباللغة اليونانية او القبطية في البلدين، كما ظلوا يستعملون النقد البزنطي نفسه، وهو الدينار الذهبي. واعتبرت الدولة الاموية ان بعض الاحتكارات الصناعية والتجارية التي كانت بزنطية تمارسها في بلاد الشام ومصر يصح ان تستمر باشرافها. ومن هذه الصناعات صناعة الاقمشة وصبغها، خاصة بالارجوان، وصناعة البردى. واستمر هذا الوضع على حاله الى حوالى سنة 700 م. وكان من شأن هذا التدبير ان قوى التجارة ونشط الصناعات المحلية في كلا البلدين وانفتحت لها أكثر من سوق جديد. فالقمح الذي كان يرسل من مصر الى القسطنطينية وجد طريقه الآن الى الحجاز.

وهذا التدبير كانت له فوائد كبيرة في اغناء التجارة المصرية مع الجنوب والجنوب الشرقي من العالم الاسلامي الجديد. وكان الامبراطور البزنطي جستنيان قد سبق له ان فرض قي القرن السادس قيوداً على التصدير والاستيراد لما كان يأتي عبر الحدود الساسانية  (الفارسية) وعلى المراكز التي يسمح بمرور البضاعة عبرها، واذ لم يعد لهذا التدبير اي حاجة بعد ان أصبح الملك الساساني باكمله جزءاً من الدولة الاموية، فقد ألغيت كل التشريعات القديمة التي قيدت حركة التجارة التي أضحت الآن متحررة وأبوابها مشرعة على طول مساحات الدولة العربية الاموية من مشرقها الى مغربها. وتفسر هذه الحرية التجارية الثراء الذي استمتعت به مصر حتى اواخر القرن السابع ومطلع القرن الثامن ميلادي. فالاسكندرية، كما ذكر السائح والمؤلف ايكوف الذي زار المدينة سنة 670 م ، كانت مدينة عامرة ومتسعة الارجاء تمتليء حوانيتها بالمتاجر المستوردة من كل مكان . ولم يقتصر هذا الازدهار على
مصر وحدها، بل وجد طريقه الى بلاد الشام، بما في ذلك الاجزاء الداخلية منها التي استفادت من تحرر التجارة الشرقية من القيود السابقة. اما المناطق الافريقية الشمالية المنضمة حديثاً الى الدولة الاموية بعد فتحها، فعاد اليها الكثير من اتجارها مع المناطق الواقعة جنوبي الصحراء الكبرى التي تمتعت بالثراء، ولا غرو، فقد كانت تخنزن الذهب وتربي الخيول والابل بشكل كبير جداً وتحصد الحبوب. وقد ذهل أهل دمشق بكبر الغنيمة التي بعث بها موسى بن نصير من شمال افريقيا وتنوع أصنافها بعد انتصاره على الجزء الغربي منها.

وحدها المنطقة الاسبانية– الفرنسية شهدت جموداً اقتصادياً بعد ان اختل تنظيم الملاحة التي كانت تنقل المتاجر بين الموانئ السورية وفرنسا. ثم ان الطلب على الرقيق السلافي الذي كانت تتاجر به فرنسا خف الطلب عليه في بلاد الخلافة بعد ان غمرت الاسواق الشرقية بالرقيق التركي والافريقي عقب وصول الفتوحات العربية الى اواسط آسيا وحوض السند في العهد الاموي.

لم تؤد الفتوحات العربية الى توقف أساسي ومهم في العلاقات التجارية العالمية والمناطقية، بل تبدلت اتجاهاتها. والمناطق الثلاث التي ظل النشاط فيها قائماً من دون توقف كانت بزنطية وايطاليا وبلاد الخزر. فقد قامت هدنة بين الامويين والبزنطيين وفرض تنفيذها. وبموجب هذه الاتفاقية – الهدنة التي وقعت عام 69 هجرية / 689 م بين
عبد الملك بن مروان والامبراطور جستنيان الثاني كان على الامويين ان يلتزموا بدفع مبلغ كبير من المال تعويضاً لما لحق بالبزنطيين من خسائر. ولما جاء وقت ارسال المال الى القسطنطينية بعث عبد الملك بالدنانير العربية الجديدة التي ضربت في دمشق فأثار هذا الامر حفيظة جستنيان وبدأ حرباً فاشلة ضد الامويين وتقلصت معها التجارة بين الفريقين الى حد كبير جداً. فتوقف، مثلاً، تصدير ورق البردى من مصر الى الغرب والى القسطنطينية. غير ان الولايات الخاضعة لجستنيان الثاني في آسيا الصغرى التي كانت تصدر الاخشاب الى مصر ولم تلتزم بالمقاطعة وأعلنت رفضها لموقف جستنيان.

الحركة التجارية في القرن الثامن وما بعده

فقدت الحركة التجارية في القرن الثامن وما بعده حريتها التي تمتعت بها بعد الفتح العربي وعادت المراقبات. فاقام البزنطيون الرقابة على اشكال متعددة ، قديمة وجديدة، وأضحت التجارة الخارجية مادة واسلوباً من استراتيجية الدفاع عن الامبراطورية. كما أضيف الاسطول بأكثره الى وسائل المراقبة وأصبحت التجارة مع الخزر تمر بكرزون (سناستبول) في القرم ومن هناك تنقل الى القسطنطينية. ومن جهة أخرى أصيبت مدينة جنوا الايطالية بضربة قاسية بسبب المراقبة هذه على المتاجر المتجهة الى الجنوب. فقد كانت جنوا تحتل موقعاً جغرافياً مهماً يؤمن لها الاتصال شمالاً وشمالاً بغرب وشرقاً وجنوباً بالمراكز التجارية المهمة والموانئ التجارية الكبرى في البحر الأبيض المتوسط وأصابت غنى كبيراً. وعندما احتلها اللمبارديون مع المناطق الساحلية المحيطة بها خسرت جنوا أهميتها التجارية وتحولت الى منطقة زراعية، وحلت محلها مدينة لوني التي كانت تخضع لبزنطية ونعمت بثراء كبير، ومثلها صارت كوماكيو، سلف البندقية، ميناء حوض البو الايطالي للتجارة مع بزنطية. ولم تلبث القسطنطينية ان منعت تجارتها عن الاراضي الاموية.

ظل العرب، رغم هذه التدابير القاسية، ينقلون السلع والمتاجر عن طريق الخليج العربي و
البحر الأحمر الى القسطنطينية وامبراطوريتها وحلفائها وأهمها التوابل والطيوب والاحجار الكريمة والزجاج وأصبحت طوابزون ميناء العبور بالنسبة للتجارة العربية الى بزنطية. وطوابزون هذه كانت ميناء على البحر الاسود. ويعتثد انها احتلت موقعاً متقدماً في التجارة البحرية منذ اوائل القرن الثامن ميلادي على الأقل. وتتلخص الفائدة التي عادت على القسطنطينية من الاعتماد على طوابزون في انها وضعت تحت تصرف التجارة البزنطية ميناء على البحر الاسود بعيداً عن متناول الاسطول البحري الحربي الاموي، وفي ان تجارة الحرير والتوابل أصبحت بعيدة عن متناول الموانئ المصرية والسورية، وهي الموانيْ التي سيطرت عليها الدولة الاموية. ولا بد هنا من التساؤل عن مدى نجاح هذا الحصار التجاري البحري الذي فرضته القسطنطينية على الامويين؟.

يبدو ان البزنطيين نجحوا آنذاك في السيطرة على تجارة البحر الابيض المتوسط لفترة  قصيرة ، وان الدول العربية الاسلامية التي قامت في حوضه من الطولونيين الى الفاطميين فالموحدين وأمويي الاندلس كان لها دورها البارز في السيطرة على التجارة في خلال النصف الاول من القرن الثامن الميلادي . وتزامنت هذه الفترة مع نجاح البزنطيين في ضبط التجارة معتمدين على قوة بحريتهم العسكرية ، فضلاً عن سيطرتهم على بعض الجزر في
البحر الأبيض المتوسط كسردينيا وكورسيكا مستعملة هذه الجزر كدرع واق يمنع شمال افريقيا واسبانيا من توسيع المجال التجاري العربي . ويذكر في هذا السياق ان الطريق التجاري البحري الساحلي من مصر الى المغرب العربي كان خطراً على السفن في انتقالها غرباً او شرقاً . فلم تكن فيه كتل برية مرتفعة كالجبال والتلال التي يمكن ان تخفف من حدة الرياح الشمالية العاتية التي تهب من مناطق جبال الألب. من هنا رأينا ان الطريق البحري التجاري العادي المتجه من الغرب الى الشرق كان بحاذي كريت وقيرص وسواحل تركيا الجنوبية ثم يتجه الى الموانئ السورية والمصرية .

ظهرت كتابات في مطلع القرن العشرين في الغرب تؤرخ لهذه الفترة التي نتحدث عنها، وكان شبه اجماع على ان فتح العرب لاجزاء من حوض البحر المتوسط أدى الى انشطار هذا البحر اقتصادياً الى قسمين إنقطع الاتصال بينهما، خاصة في مطلع القرن الثامن ميلادي. وعلى الرغم من ان بعض ما كتب كان صحيحاً الى حد ما وان الفارق بين هذين "العالمين" ظهر واضحاً في شؤون مختلفة في مقدمتها الشؤون الاقتصادية، وبينها التجارة، فالواقع ان الانقسام لم يكن كبيراً ولم تكن الهوة بين فريقيه كبيرة بالقدر الذي جرى تصويره، إي انه لم يكن هناك عالمان: واحد غني وثري وآخر فقير مدقع. كان هناك خلاف بين مستويين. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا حدث هذا الانقسام؟ وهل شكل قطيعة تامة بين القسمين؟. واذا كان هذا هو الواقع المفترض، فهل تأثرت الصلات التجارية وأصيبت بنكسة؟.

حدث تأخر إقتصادي شمل بلاد الشام و
مصر وبلاد الغال الاوروبية منذ ثلاثينات القرن الثامن وبلغ حداً كبيراً منذ حوالى سنة 750 م. ويعيد المؤرخون هذا التأخر الى عامل النقل البحري بعد ان تعاظمت قوة الاسطول البزنطي وتراجعت قوة الاسطول العسكري الاموي تراجعاً كبيراً بعد ان استنفذت الحملة الاخيرة على القسطنطينية كل طاقاته وقواه لحماية الناقلات البحرية التجارية ولم يسترجع بعض قواه الا في عهد هشام بن عبد الملك في منتصف القرن الثامن . غير ان هذه " القوة " المستجدة لم تكن كافية ولم تستتبع باي إهتمام جدي . وذكر احد هؤلاء المؤرخين ، وهو الفرنسي هنري بيرنيه في كتابه "محمد وشارلمان" ان، ما سماه، "القطع" التجاري أدى الى تأخر العالم الاسلامي اقتصادياً بعد ان طال "القطع" نقل المواد الاربع الاساسية، وهي النقد الذهبي والحرير العادي والمصبوغ بالارجوان والتوابل والبهارات الشرقية. والأنواع الثلاثة الاولى كانت ما احتكرت الدولة البزنطية تجارته، إذ كانت تحمل الى القسطنطينية اولاً ومنها تنقل الى الغرب. والقسطنطينية هي التي كانت تمنع وصول هذه المتاجر الى اللمبارديين في ايطاليا والكارولنجيين في فرنسا.

من هنا استنتج المؤرخون ان الانقطاع التجاري بين المسلمين العرب والغرب كان سببه اصلاً الموقف البزنطي. وعليه فان القسطنطينية اعتبرت ان التجارة سلاحاً استراتيجياً تستعمله ضد أخصامها الامويين من جهة، ومعاقبة الذين يخرجون عنها وينضمون الى اللمبارديين والكارولنجيين من جهة اخرى. ويستخلص المؤرخ ارشيبالد لوس ان الذين دمروا وحدة
البحر الأبيض المتوسط القديمة كانوا حكام بزنطية وليسوا العرب، وان بزنطية في حربها الضروس ضد الامويين لجأت الى الوسائل البحرية الاقتصادية للظفر بالنصر في خلال المدة الممتدة بين 715 و 752 م، وهي التي أزالت من الوجود الصيغة الاقتصادية السابقة للبحر المتوسط وهيأت المسرح لقيام صيغة جديدة يكون فيه البحر تابعاً للغرب الاوروبي. وقد أسهمت الطبيعة في تحقيق هذه الصيغة الاوروبية بسبب بسيط هو ان الشمال الافريقي لم تكن فيه سلاسل جبالية تحميه من الرياح العاتية، لذلك لم تكن الطرق البحرية التجارية التي تحاذيه مأمونة، بحيث كان على السفن ان تنحو شمالاً من جزيرتي صقلية وكريت في سيرها نحو الغرب الاوروبي .

كانت هذه الجزر التي نشير اليها موضع تنازع بين العرب الامويين والبزنطيين. فهي اما غنية بالاخشاب والمعادن، مثل قبرص وصقلية، او انها نقاط استراتيجية مهمة ، مثل سردينيا ومالطه وجزر بحر ايجه. وقد بذل الفريقان، الاموي والبزنطي، جهداً كبيراً في سبيل الاستيلاء عليها ومن ثم الحفاظ عليها. غير انها كانت بأكثرها أبعد عن القواعد الاموية منها عن المراكز البزنطية.

المراجع
1 - حتي وجبور : تاريخ العرب المطول ، بيروت 1986 .
2 – ابن جعفر ، قدامة : كتاب الخراج ، بريل ، ليدن 1889 .
3 – زيدان ، جرجي : التمدن الاسلامي ، ج . 1 ، القاهرة 1914 .
4 – صايغ ، انيس : الاسطول الحربي الاموي في البحر المتوسط ، بيروت 1956 .
5 – العبادي ، احمد و سالم ، عبد العزيز : تاريخ البحرية الاسلامية في مصر والشام ، بيروت 1972 .
6 – Fahmy , Ali , Muslim Naval Organization in the Eastern Med . from the 7 to the 10 cent. Cairo 1966 . Lewis . Archibald : Naval Power and Trade in the Med . , Princeton 1955 . - 7

 



عبد الملك بن مروان