قضية تدوين الشعر الجاهلي

بقلم عبد الكريم عبد القادر أعقيلان

ملاحظتي

علينا قبل الخوض في الموضوع أن نحدّد المقصود بعرب الجاهليّة زمكانيًّا حتى لا نظلم باقي العرب، و دعونا نقف أولا مع الاسم* الجاهليّة*، لا شكّ أنّه اسم إسلاميّ صِرف، لذلك لن نستند في وقوفنا عند تعريف المصطلح إلا إلى المصادر الإسلاميّة، تلك المصادر التي عرّفت المصطلح بأنه يشمل كل العرب الوثنيين للخمسين و المائة سنة التي سبقت مجيء الإسلام. فالمصطلح إنما يصف العرب الوثنيين الذين عاشوا منذ القرن الخامس الميلادي و إلى مجيئ الإسلام، أما لماذا سُمِيَ العربُ بالجاهليين انطلاقا من هذه اللحظة، فهذا لأنّ عَمروَ بْنَ لُحيٍ ــ كما ورد في المصادر الإسلاميةــ قد زار الشام و أتى بأصنامها إلى جزيرة العرب ليغيّر دينهم من الحنفيّة الإبراهيميّة إلى الوثنيّة، فلما تغيّر دينهم من الحنفيّة إلى الوثنيّة جَهِلوا طريق الصواب فسُمُّوا بالجاهليين.

أما من هي العربُ التي سميت بالعرب الجاهلية، فهي كلُ عربٍ وثنية لم تعتنقْ إحدى الديانات السماوية مثل اليهودية و المسيحية، فعرب اليمن ما كانوا يسموّنَ بالجاهليين نظرا إلى انتشار المسيحية في اليمن، و عرب الشام ما كانوا يسمون بالجاهليين أيضا لأنهم كانوا مسيحيين كذلك، و حتى عرب مكة من اليهود ما أُطلِقَ عليهم مصطلح الجاهليين. فالجاهلي هو كل عربي وثني لم يعتنق إحدى الديانات السماوية التي سبقت الإسلام في الفترة الممتدة لخمسين و مائة سنة قبل مجيئ هذا الأخير.

أضفتُ هذه الملاحظة المهمة جدا حتى لا يختلط الأمر على القارئ و يظن أننا نبحث عن الكتابة لدى عرب ما قبل الإسلام بشكل عام، لأنهم كانوا سباقين في اختراع الخطوط مثل الخط الحميري و الثمودي القديم و غيرها من الخطوط العربية القديمة، حتى لقد قال أبو التاريخ هيرودتس إن العرب هم الذين علّموا الكتابةَ للإغريق، فنحن هنا في هذا المقال نبحث عن الكتابة عند العرب الجاهلية التي آلت إلى البداوة في صحاري نجد و الحجاز، تلك العرب التي كانت تقول الشعر و تعلّقه في ذهنها أو في أستار الكعبة كما زعموا، فهل كانت العرب تحفظ الشعر بعد أن تقوله سليقةً؟ إم إنها كانت تكتبه؟ فإذا كانت تكتبه؛ إلى أي حد كانت الكتابة منتشرة عندها؟

  مفهوم التدوين

مصطلح التدوين من الجذر (دون)، ولم أعثر له في كثير من معاجم اللغة العربية كلسان العرب، وتهذيب اللغة، وغيرهما، أما مصطلح (الديوان) فذكره صاحب اللسان بأنه ”مجتمع الصحف، قال أبو عبيدة هو فارسي معرب”

وفي ما يتعلق بالشعر الجاهلي، فالسؤال المطروح هو هل كتب الشعر الجاهلي وأثبت في صحاف، في العصر ذاته فكانت هي الوسيلة التي نقلته إلى العصور اللاحقة؟ وهو سؤال يتبعه سؤالٌ آخر مفاده هل صاحب كتابته جمعٌ لتلك الصحاف في ما يشبه الدواوين الشعرية؟

يدفع إلى هذا التساؤل مصطلحان ذكرهما الدكتور ناصر الدين الأسد، في مصادره، وهما التقييد، والتدوين، حيث ذكر أن الشعر الجاهلي مرّ في مرحلتين من مراحل كتابته الأولى التقييد، والثانية التدوين

 أما التقييد فقد ذكرها بعد أن قدم لمجموعة من الأدلة العقلية والصريحة، التي تشير إلى أن الشعر الجاهلي قد كتب في صحف، على اختلاف أنواعها، في العصر الجاهلي، لذلك تجده يقول في نهاية فصل كتابة الشعر الجاهلي ” ذلك هو التقييد، وقد جمعنا ما استطعنا أن نعثر عليه من أدلة عقلية ونقلية تسنده. وقد انتهت كلها إلى ترجيح أن الشعر الجاهلي كان يُقيَّدُ في صحف متفرقة لأغراض شتى. غير أن هذا كله مرحلة واحدة من مراحل بحثنا تقودنا إلى مرحلة تالية نتحدث فيها عن تدوين الشعر الجاهلي”

ولدى حديثه في الفصل اللاحق عن التدوين، أشار إلى أن ما شاع حول عدّ القرن الثاني الهجري بأنه العصر الذي بدأ معه التدوين هو أمرٌ مشكوكٌ في صحته، ثم شرع يعرض لنصوص وأقوال تؤيد نظرته في أن التدوين بمفهومه العام وهو الصحف المجتمعه، قد كان قبل هذا التاريخ؛ يشير إلى أن الشعر الجاهلي قد جمع في العصر الجاهلي، وقدم أدلته على ذلك، ليخلص بقوله ” فأمامنا الآن- في هذه النصوص والروايات الثلاث الأخيرة شعر الفرزدق عن صحيفة دغفل في النسب وما يُفهم من قوله عن وجود دواوين شعر جاهلي عنده، ثم رواية حماد وابن سلام عن جمع النعمان للشعر الجاهلي وتدوينه، ثم رواية ابن الكلبي عن أسفار الحيرة ونقوش كنائسها، وما فيها من أخبار العرب الجاهليين وأنسابهم- أمامنا إذن، في هذه النصوص والروايات، شعر جاهلي وأخبار جاهلية مدونة كلها في أسفار ودواوين من الجاهلية نفسها”

وبناءً على ما سبق، يتبين ما يلي

التقييد هو مفهوم له معناه الخاص، وهو في اللغة يفيد التثبيت والربط وفي الاصطلاح ”الكتابة الضيقة”( ) ويَقصِد بها مجرد الكتابة دون العناية بالنص جمعاً أو ترتيباً.

التدوين وهو الكتابة الواسعة التي تشمل مراحل الجمع والتبويب والترتيب

وفي هذا الجانب، يظهر الفرق بين التقييد والتدوين، على أن كلاًّ منهما يتصلان بالشعر الجاهلي، من حيث أنّ أحدهما يعني كتابته وتثبيته في الصحف، والآخر معنيٌّ بترتيبه وجمعه على شاكلة ديوانٍ جامع.

وحول هذين المعنيين، دارت الخلافات بين النقاد، فتبنى قسمٌ منهم اشتمال الشعر الجاهلي في عصره، على هذين النوعين من الكتابة، وقدموا لذلك أدلتهم عليها، بينما ذهب أخرون، وهم كثير، إلى منح الشعر الجاهلي نسبة ً طفيفة ً من التقييد، فلم يشملوه كله به، ونفوا عنه نفياً مطلقاً أن يكون قد تعرض لأدنى وسائل الترتيب أو الجمع أو التبويب، وهي مراحل متطورة من الكتابة.

وتأتي دلالة التفريق بين المفهومين، في سياق النظرة التاريخية للحضارة الجاهلية- إن صح التعبير- فمجرد الكتابة، يعكس صورة من التقدم الحضاري لشعب ما، بينما يكون للتبويب والترتيب انعكاس آخر على تلك الحضارة.

وما من شك في أن الحضارة التاريخية الجاهلية، قد شابها كثير من الإهمال لدقائقها، وصورت على أنها قطعة من الهمجية، والتخبط، والتخلف عن ركب الأمم المتحضرة، كحضارة فارس والروم.

وليس هذا ما يعنيني في البحث الحاضر، بل هي إشارة إلى تأثير الصورة غير الواضحة على الموقف من مكانة حضارة أمة ما، إضافة ً إلى تدخل تيارات غير عربية في تأريخ حضارتها، وأعني هنا، الاستشراق والمستشرقين، ودورهم في بث الشكوك في تاريخ العرب وحضارتهم، لمسخ الهوية العربية، وتسهيل السيطرة عليها.

 

   العرب ومعرفة الكتابة

٭   وجهة نظرهم

تفاوتت وجهة نظرهم بين نافٍ على الإطلاق، ونافٍ من خلال تقليل حجم معرفة العرب بالكتابة.

٭   من القدماء

.   عمرو بن بحر الجاحظ (255هـ) أنكر معرفة العرب بالكتابة مطلقاً، من خلال قوله ” وكل شيءٍ للعرب إنما هو بديهة ٌ وارتجال... وكانوا أميين لا يكتبون”

محمد بن سعد الزهري (230هـ) قلل من حجم معرفة العرب بالكتابة. يقول ”وكانت الكتابة في العرب قليلة”

ابن عبد ربه (328هـ) يرى أنه لم يكن أحدٌ يكتب بالعربية حين جاء الإسلام سوى بضعة عشر نفراً

.   عبدالقادر البغدادي (1093هـ) نفى معرفة العرب بالكتابة. يقول ”معنى الحصى العدد، وإنما أطلق على العدد؛ لأن العرب أميون لا يقرأون، ولا يعرفون الحساب”

٭   الأدلة التي استند عليها القدماء

إنّ جل اعتماد هؤلاء النقاد، في نفيهم الكتابة عن الجاهليين، إنما هو على ما وصلهم من أخبار في الآثار التي تدون لحياة الجاهليين؛ فاعتمدوا عليها اعتماداً كلياً، وكان أغلب تلك المدونات تظهر الحقبة الجاهلية على أنها قليلة الحظ من كل عمران ورقيٍّ، وأن العرب كانوا أمّة ً أمية ً لا حظ لها من علمٍ أو معرفةٍ أو كتابةٍ

٭   من المحدثين

وهؤلاء كانوا من المستشرقين، على الأغلب، أما العرب المحدثين، فلم أعثر على من نفى معرفة عرب الجاهلية بالكتابة، فهم يثبتونها، وسيأتي الحديث عنهم في الموضوع اللاحق. أما المستشرقون الذين نفَوا معرفة العرب في الجاهلية بالكتابة فأشهرهم

مرجليوث مقالته (أصول الشعر العربي)

شارل جيمس ليال في مقدمة الجزء الثاني من (المفضليات)

جورجيو ليفي دلاّ فيدا مقالته (بلاد العرب قبل الإسلام)

بلاشير (تاريخ الأدب العربي- العصر الجاهلي)

٭   وجهة نظرهم

ربما توافر هؤلاء على الاقتناع بأنّ الشعر الجاهلي لم يدوّن في الجاهلية، وهم في هذا الإطار يشيرون من قريب أو بعيد، إلى أن الكتابة لم تكن معروفة في الجاهليةٍ، وهدفهم تأكيد نفي الكتابة عن الشعر الجاهلي، وبالتالي إضعاف قيمة الشعر المنسوب إلى العصر الجاهلي الذي بين أيدي الدراسين. وقد دارت مقالاتهم حول البحث في مدى صحة نسبة الشعر الجاهلي إلى ذلك العصر السحيق، وناقشوا عدة قضايا ليست هي مدار هذا البحث

٭   الأدلة التي استندوا إليها في وجهة نظرهم

تدور مستندات المسشترقين لإثبات دعواهم وتشكيكهم في أصل الشعر الجاهلي وصحته، وما يتصل بها من إثبات أو نفي للكتابة لدى الجاهليين، على الدليل المادي الملموس، الذي يتمثل في عدم القطع بحكم عن فترة سابقة سحيقة، دون وجود أدلة عينية من أدوات مكتوبة، أو منقوشة لإثبات فكرة ما، ولذلك تجد الدكتور شوقي ضيف يقول- بعد أن عرض لصور من التطور الذي حصل للخط العربي، حتى أخذ شكله النهائي ”وليست المسألة فرضٌ واحتمال، وإنما هي مسألة نقوش حملت إلى علماء الساميات الدليلَ القاطعَ، الذي لا طعنَ فيه، على هذة الحقيقة”

وعليه، ربما حكم هؤلاء المسشرقون؛ لقلة ما توفر لديهم من نقوش وكتابات تعود إلى العصر الجاهلي، على أن الكتابة لم تكن ظاهرة حضارية يُعرفُ بها العرب، وهذا ما تجده في الكتب الأدبية كما أشار إلى ذلك الدكتور الأسد.

 

ويضاف إلى هؤلاء قسمٌ آخر، ربما أخذ على نفسه عهداً بالطعن في كل ما يعلي من شأن العرب في الجاهلية، فأرادوا أن لا يقولوا بوجود الكتابة؛ ليقللوا من أهمية وجود شعر جاهلي صحيح النسبة لذلك العصر، وهذه دوافع تخفي وراءها الرغبة في نفي الأصالة عن الشعر العربي في إحدى جوانبه.

 

القائلون بمعرفة عرب الجاهلية بالكتابة

٭   من القدماء

أحمد بن فارس (395هـ) يثبت معرفة العرب في الجاهلية بالكتابة معرفةً حقيقية. يقول ”فإنا لم نزعم أن العرب كلها، مدراً ووبراً، قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها، وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم فما كلٌ يعرف الكتابة والخط والقراءة”

أقوال متناثرة في مؤلفات قديمة كثيرة

(-   فتوح البلدان أحمد بن يحيى البلاذري (279هـ

(-   تاريخ الأمم والملوك محمد بن جرير الطبري (310هـ

(-   الأغاني أبو الفرج الأصفهاني (356هـ

(-   معجم البلدان ياقوت الحموي (626هـ

حيث جاءت في هذه المؤلفات مجموعة من الأقوال التي تشير إلى وجود الكتابة في العصر الجاهلي. ولكن حجم الكتابة التي يقرونها متفاوت لا يقدمها على أنها ظاهرة حضارية

  الأدلة التي استندوا إليها في إثبات الكتابة

  الاعتماد على التاريخ الذي ذكر طبيعة الحياة الجاهلية

الاعتماد على النصوص الشعرية المنسوبة إلى العصر الجاهلي، التي تذكر أدوات الكتابة ومعرفة العرب بها

الاعتماد على نصوص القرآن الكريم التي جاءت تخاطب العرب وتعلي من شأن الكتابة وتقسم بأدواتها

أدلة عقلية ونقلية، ذكرها الدكتور الأسد، في مصادره.

٭   من المحدثين

.  ( الدكتور شوقي ضيف (العصر الجاهلي، الفن ومذاهبه- النثر

الدكتور يوسف خليف (دراسات في العصر الجاهلي).

الدكتور ناصر الدين الأسد (مصادر الشعر الجاهلي)

.  ( الدكتور أحمد الحوفي (المرأة في الشعر الجاهلي

 

الترجيح بين القولين

بعد العرض الموجز، السابق، أرجح فريق إثبات الكتابة في العصر الجاهلي؛ وذلك لقوة الأدلة التي قدمها هؤلاء لإثبات معرفة العرب بالكتابة، وعلى رأسهم الدكتور ناصر الدين الأسد، حيث أفرد باباً كاملاً بعنوان ”الكتابة في العصر الجاهلي” في مصادره، فعرض فيه لنشأة الخط العربي وتطوره، وذكر أخبار تعلّم الكتابة في الجاهلية، ليأتي الفصل الثاني ليذكر فيه موضوعات الكتابة وأدواتها مدعماً أقواله بأدلّةٍ نقليةٍ وعقليةٍ استند فيها إلى مصادر تراثية موثوقة، وهي تلك المصادر الأدبية التي سبق ذكر بعضها سابقاً.

وأمام هذا الترجيح، أستند أيضاً إلى التعليل الذي قدمه الأسد ليشير إلى أن الدراسات التي نظرت إلى حياة العرب في الجاهلية، لم تكن بالقوة التي تعلي من شأن أقوال فريق النفي؛ إذ يعلل الأسد ذلك بقوله ” ... لايكاد كتاب عربي قديم يخلو من ذكر الجاهلية وحياة أهلها، ولكن الحديث عن هذه الجاهلية لم يكن يٌُقْصدُ لذاته، فتسبر أغواره ويُلمّ شتاته، وإنما كان يُقْصَدُ لغيره من موضوعات العصور الإسلامية...وكان من أثر هذا...أن أخبار حضارة الجاهلية جاءت في هذه الكتب ناقصة شائهة، ثم متناقضة متنافرة في الكتاب الواحد للمؤلف الواحد، ولكن الصفة الغالبة والسمة الظاهرة، التي لا يكاد يشذ عنها كتاب قديمٌ، هي وصف مظهرٍ من مظاهر الحضارة المدنية، وأن العرب كانوا أمّة ً أمية جاهلةً لا حظّ لها من علمٍ أو معرفةٍ أو كتابة”

وعليه، فإن قوة أدلة الفريق، الذي ينفي الكتابة في العصر الجاهلي ضعيفة، بالمقارنة بأدلة فريق الإثبات، ولذلك أضم صوتي إلى صوت الفريق الثاني، دون تردد.

 

تدوين الشعر الجاهلي

بعد العرض السابق، الذي خلص إلى أن الكتابة كانت موجودة في العصر الجاهلي، حيث عرف العرب أدواتها، واستخدموها في حياتهم باختلاف صنوفها، يأتي الحديثُ عن القضية الأساس، وهي إن كان العرب قد عرفوا الكتابة، فهل استخدموها في كتابة الشعر الجاهلي؟ ثم هل انتقل الشعر الجاهلي، إن ثبتت كتابته، من مرحلة التقييد إلى مرحلة التدوين والجمع والترتيب؟

ومرةً أخرى يكون البحث في هذا الموضوع منقسماً إلى قسمين:

.   القسم الأول فريق ينفي استخدام الكتابة في كتابة الشعر الجاهلي، ويتضمن أن عملية تدوين الشعر الجاهلي، غير حاصلة له في العصر الجاهلي، وأن جل ما دون من شعر إنما هو من عمل كتاب القرن الثاني الهجري، وإن حصل للشعر الجاهلي بعض الكتابة فهو لا يتجاوز بعض القصائد، أو المقطوعات، ولا يوجد دليل على أنها وصلت إلينا مكتوبة ً، أو أن وثائقها كانت في أيدي الرواة

٭   القائلون بهذا الرأي

يوسف خليف دراسات في الشعر الجاهلي.

شوقي ضيف العصر الجاهلي.

المستشرقون، ومنهم بلاشير- تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي.

٭   الأدلة التي استندوا إليها

فكرة تدوين الشعر الجاهلي عملٌ يستلزم مستوًى حضارياً معيناً، تكون فيه الكتابة ظاهرة حضارية، لا مجرد ظاهرة حيوية، وهذا ما لم يتحقق في نظرهم في المجتمع الجاهلي

قولهم بأنه لا يتوفر بين أيديهم أي دليل مادّي على أن الجاهليين اتخذوا الكتابة وسيلة ً لحفظ أشعارهم

.   تكذيبهم لجملة الأقوال التي وردت حول فكرة المعلقات، وسبب تسميتها، وعدّ ذلك من باب الأساطير

القسم الثاني فريقٌ ينادي بثبوت كتابة الشعر الجاهلي، بل وتعدى الكتابة إلى أن دوّن ورُتّبَ، وحجم المادة التي كتبت ودونت حجمٌ كبير يأتي على معظم الشعر الجاهلي، وأن الرواة إنما حصلوا على هذة المدونات، وعملوا على انتخابها وتنقيحها، فكانت لهم تلك الشهرة والنسبة إلى رواية الشعر الجاهلي

٭   القائلون بذلك

1.   الدكتور ناصر الدين الأسد.

2.   أ.د. عبد الحميد المعيني.

٭   الأدلة التي استندوا إليها

أدلة عقلية استنباطية.

أدلة صريحة مباشرة تشيرإلى كتابة الشعر الجاهلي في عصره.

٭   الترجيح بين الأقوال

من خلال ما سبق، أرجح قول من يثبت كتابة الشعر الجاهلي، بمعنى التقييد، والتدوين. وأضيف إلى ما قدمه هذا الفريق من أدلة، ما يتعلق بأمر كتابة القرآن الكريم، وجمعه.

حيث أن ” الذي عليه أكثر أهل العلم أن أولية أبي بكر رضي عنه في جمع القرآن أولية خاصة، إذ قد كان للصحابة مصاحف كتبوا فيها القرآن أو بعضه، قبل جمع أبي بكر، إلا أن تلك الجهود كانت أعمالاً فردية، لم تظفر بما ظفر به مصحف الصديق من دقة البحث والتحري، ومن الاقتصار على ما لم تنسخ تلاوته، ومن بلوغها حد التواتر، والإجماع عليها من الصحابة، إلى غير ذلك من المزايا التي كانت لمصحف الصديق رضي الله عنه”

قلت لقد ثبت بالدليل القاطع أن القرآن الكريم كان قد كتب في العهد النبوي، وكانت له صحافه التي اجتهد بعض الصحابة في الكيفية التي يعتنون بالقرآن من خلالها، غير أن التأريخ يسجل لأبي بكر أنه قام بجمعه وتدوينه، أي ترتيبه في مصحف واحد يجمع سور القرآن كلها، ويعتمد على أنه كتاب كامل. ومن خلال هذا الموقف أرى أن ما حصل مع الشعر الجاهلي هو مقارب لما حصل مع القرآن من حيث أنه كتب ودوّن بفعل اجتهادات فردية، حتى إذا تخصص بعض الرواة بدور الرواية واحترافها كمهنةٍ يتكسبون منها، طافوا يبحثون عن هذه المدونات ويجمعونها، وبالتالي استطاع شخص مثل حماد الراوية أن ينتخب من قصائد العرب الجاهلية تلك السبع، وبالتأكيد بعد الموازنة والمقابلة والأخذ والرد، لكثيرٍ من القصائد التي يستلزم من الراوي أن تكون معروضةً أمامه ليتيسر له الانتقاء والانتخاب.

ويأتي خبر عبيد الشعر وحولياتهم، التي يفرض العقل أن تكون القصائد أمام ناظر الشاعر؛ ليتيسر له تنقيح قصيدته، لتخرج بتلك الحلية الإبداعية.

ومن هنا وقف التاريخ أمام جهد الرواة وذياع صيتهم، فنسب انتقال الشعر الجاهلي إلى العصور اللاحقة إليهم، و أن الرواية هي الطريقة التي انتقل بها الشعر الجاهلي، ولكنه لم ينظر إلى الرواة على أنهم اعتنوا بنقل الشعر الجاهلي بما توفر لهم من صحاف ومدونات مكنتهم من حفظ تلك القصائد ومعرفة قائليها وتمييز جيدها.

ولا ينفي ذلك أن يكون الرواة قد حصلوا على بعض القصائد من أفواه الحافظين لها، غير أن مسألة الكتابة والتدوين، وحجم الشعر الجاهلي الذي توفر للدارسين يفرض أن تكون قصائده قد دونت، فخشية عمر بن الخطاب على ضياع القرآن الكريم بسبب موت حفاظه قد دعت إلى جمعه وتدوينه، ومن نفس الباب يمكن أن يقال بأن بقاء الشعر الجاهلي بتجاوز أكثر من مئة عامٍ يفرض أن يكون أصحابه ومن اهتم به، قد حفظه في صحاف ومدونات، خشية أن يضيع.

•   النتائج بعد العرض السابق تظهر النتائج الآتية

الحديث عن كتابة الشعر الجاهلي يستلزم التفريق بين مفهومين التقييد، ومعناه كتابة الشعر الجاهلي كتابة ضيقة وتثبيته على صحائف.

 والمفهوم الثاني التدوين ومعناه جمع الشعر الجاهلي وترتيبه بشكل متكامل يشبه الدواوين الشعرية الحالية إلى حدٍّ ما.

البحث في هذه القضية يستلزم الإلمام بحقيقة العصر الجاهلي وحال العرب من حيث معرفتهم للكتابة أو جهلهم بها.

القضيتان السابقتان كانتا مِفصَلاً انقسم النقاد به إلى فريقين فريقٌ يؤيد معرفة العرب بالكتابة بشكل مطلق، وبالتالي بنى حكمه في ما يتعلق بكتابة الشعر الجاهلي بالإيجاب، وقدم الأدلة التي تدعم توجهه. وفريقٌ عارض معرفة العرب أو أنكرها ومنهم من اعترف بوجودها على استحياء لا يسمح بتدوين الشعر الجاهلي معه، فأنكر التقييد المطلق، كما رفض فكرة تدوينه.

  القضايا السابقة كان لها رجالها من القدماء والمحدثين. ويظهر أن النقاد المحدثين الذين أنكروا الدور الجاهلي ومعرفته الحضارية بالكتابة وبالتالي حفظ شعرهم، إنما اعتمدوا على مستندات لم تعرض للصورة الحقيقية للحياة الجاهلية، فجاءت أدلتهم ضعيفة، بالمقارنة مع قوة حجج الطرف الآخر في إثباته لحضارة الجاهليين.

لعب المستشرقون دوراً بارزاً في ما يتعلق بالعصر الجاهلي وشعره، وسعوا بجدٍّ إلى ترسيخ فكرة عدم بلوغ عرب الجاهلية أدنى مستوى من الحضارة، فشككوا في الشعر المنسوب إليهم، مستغلين بعض الحقائق حول قضية الانتحال.

من النقاد العرب من تأثر في فكره ونظرته إلى الشعر الجاهلي بالفكر الاستشراقي، فجاءت أحكامهم مقاربة للمستشرقين، في موقفهم من قضية تدوين الشعر الجاهلي.

 

قضية جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر تضيء الطريق أمام الحكم على كيفية التعامل مع الشعر الجاهلي، ذلك أن التأريخ قد سجل لأبي بكر جمعه، في حين أن التأريخ ذاته يثبت أنه كُتب في عهد النبوة، وكان لبعض الصحابة مدوناتهم الخاصة. فمثل هذه الحادثة تفيد في أن يُحكم على تعامل الشعراء مع قصائدهم كما تعامل بعض الصحابة مع القرآن، حتى قيض الله أولئك الرواة المحترفين، الذين كرسوا أنفسهم لجمع تلك المدونات وتنقيحها، فتسنى لهم جمع معلقاتهم، ومفضلياتهم، وأصمعياتهم؛ وعليه يكون الحكم بأن انتقال الشعر الجاهلي عن طريق الرواية، إنما هو خلل في فهم طبيعة الدور الذي قام به الرواة لا أكثر.

 

 

•   ثبت المراجع

1.   ابن سعد، محمد الزهري. كتاب الطبقات الكبير، 1322هـ.

2.   ابن عبد ربه. العقد الفريد، تحق محمد سعيد العريان، دار الاستقامة، 1940م.

3.   ابن فارس، أحمد. الصاحبي في فقه اللغة، المكتبة السلفية، 1910م.

4.   ابن منظور، محمد بن مكرم. لسان العرب، دار صادر، بيروت.

5.   الأسد، ناصر الدين. مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، دار الجيل، بيروت- لبنان، ط7، 1988م.

6.   الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسين الأموي. الأغاني، دار الكتب.

7.   البغدادي، أحمد بن ثابت. خزانة الأدب ولب لباب العرب، المطبعة السلفية، 1347هت.

8.   الجاحظ، عمرو بن بحر. البيان والتبيين، تحق عبدالسلام هارون، 1948م.

9.   خليف، يوسف. دراسات في الأدب الجاهلي، مكتبة غريب.

10.   ضيف، شوقي. العصر الجاهلي، دار العارف، القاهرة، ط8.