أخبار الأحوص مع أم جعفر

وقد ذكرت أخبار الأحوص متقدماً إلا أخباره مع أم جعفر التي قال فيها هذا الشعر فإنها أخرت إلى هذا الموضع. وأم جعفر هذه امرأة من الأنصار من بني خطمة، وهي أم جعفر بنت عبد الله بن عرفطة بن قتادة بن معد بن غياث بن رزاح بن عامر بن عبد الله بن خطمة بن جشم بن مالك بن الأوس. وله فيها أشعار كثيرة.


أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني يعقوب بن القاسم ومحمد بن يحيى الطلحي عن عبد العزيز بن أبي ثابت، وأخبرني عمي قال حدثني محمد بن داود بن الجراح قال حدثني أحمد بن زهير عن مصعب، وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله عن المحرز بن جعفر الدوسي، قالوا جميعا: لما أكثر الأحوص التشبيب بأم جعفر وشاع ذكره فيها توعده أخوها أيمن وهدده فلم ينته، فاستعدى عليه والي المدينة - وقال الزبير في خبره: فاستعدى عليه عمر بن عبد العزيز فربطهما في حبل ودفع إليهما سوطين وقال لهما: تجالدا؛ فتجالدا فغلب أخوها.


وقال غير الزبير في خبره: وسلح الأحوص في ثيابه وهرب وتبعه أخوها حتى فاته الأحوص هرباً. وقد كان الأحوص قال فيها:

لقد منعت معروفها أم جعـفـر

 

وإني إلى معروفها لـفـقـير

وقد أنكرت بعد اعتراف زيارتي

 

وقد وغرت فيها علي صـدور

أدور ولولا أن أرى أم جعفـر

 

بأبياتكم مـا درت حـيث أدور

أزور البيوت اللاصقات ببيتهـا

 

وقلبي إلى البيت الذي لا أزور

وما كنت زواراً ولكن ذا الهوى

 

إذا لم يزر لا بـد أن سـيزور

أزور على أن لست أنفك كلمـا

 

أتـيت عـدوا بـالـبـنــان

يشير فقال السائب بن عمرو، أحد بني عمرو بن عوف، يعارض الأحوص في هذه الأبيات ويعيره بفراره:

لقد منع المعروف من أم جعفر

 

أخو ثقة عند الجلاد صـبـور

علاك بمتن السوط حتى اتقيته

 

بأصفر من ماء الصفاق يفور

 

             

فقال الأحوص:

إذا أنا لم أغفر لأيمـن ذنـبـه

 

فمن ذا الذي يعفو له ذنبه بعي

أريد انتقام الذنب ثم تـردنـي

 

بد لأدانيه مبـاركة عـنـدي

وقال الزبير في خبره خاصة: وإنما أعطاهما عمر بن عبد العزيز السوطين وأمرهما أن يتضاربا بهما اقتداء بعثمان بن عفان؛ فإنه كان لما تهاجى سالم بن دارة ومرة ابن واقع الغطفاني الفراري لزهما عثمان بحبل وأعطاهما سوطين فتجالدا بهما.


وقال عمر بن شبة في خبره: وقال الأحوص فيها أيضاً - وقد أنشدني علي بن سليمان الأخفش هذه الأبيات وزاد فيها على رواية عمر بن شبة بيتين فأضفتهما إليها-:

وإني ليدعوني هوى أم جعـفـر

 

وجاراتها من سـاعة فـأجـيب

وإني لآتي البيت مـا إن أحـبـه

 

وأكثر هجر البيت وهو حبـيب

وأغضي على أشياء منكم تسوءني

 

وأدعى إلى ما سركم فـأجـيب

هبيني امرأً إما بريئاً ظلـمـتـه

 

وإما مسيئاً مـذنـبـا فـيتـوب

فلا تتركي نفسي شعاعاً فإنـهـا

 

من الحزن قد كادت عليك تذوب

لك الله إني واصل ما وصلتنـي

 

ومثن بما أوليتـنـي ومـثـيب

وآخذ ما أعطيت عفواً وإنـنـي

 

لأزور عما تكـرهـين هـيوب

هكذا ذكره الأخفش في هذه الأبيات الأخيرة، وهي مروية للمجنون في عدة روايات؛ وهي بشعره أشبه.
وفي هذه الأشعار التي مضت أغان نسبتها:

أدور ولولا أن أرى أم جعفر

 

بأبياتكم ما درت حيث أدور

أدور على أن لست أنفك كلما

 

أتيت عدواً بالبـنـان يشـير

الغناء لمعبد، وله فيه لحنان: ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن عمرو.
ولإسحاق فيهما وفي قوله:

أزور البيوت اللاصقات ببيتها

وبعده:

أدور ولولا أن أرى أم جعفر

لحن من الرمل. وفي البيتين اللذين فيهما غناء معبد للغريض ثقيل أول عن الهشامي، ولإبراهيم خفيف ثقيل. وفيه لحن لشارية عن ابن المعتز ولم يذكر طريقته.

إذا أنا لم أغفر لأيمـن ذنـبـه

 

فمن ذا الذي يعفو له ذنبه بعدي

أريد مكافأة لـه وتـصـدنـي

 

يد لأدانيه مـبـاركة عـنـدي

الغناء لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى عن يحيى المكي، وذكر غيره أنه منحول يحيى إلى معبد.


وفيه ثقيل ينسب إلى عريب ورونق.
ومنها وهو:

وإنـي لآتـي الـبــيت مـــا إن أحـــبـــه

 

وأكـثـر هـجـر الـبـيت وهـو حـــبـــيب

وأغـضـي عـلـى أشـياء مـنـكـم تـسـوءنـي

 

وأدعـى إلـى مـا سـركـــم فـــأجـــيب

ومـا زلـت مـن ذكـراك حـتـى كـأنــنـــي

 

أمـيم بـــأفـــياء الـــديار ســـلـــيب

أبـثـك مـا ألـقـى وفـي الـنـفــس حـــاجة

 

لهـا بـين جـلـدي والـعـــظـــام دبـــيب

لك الله إني واصل ما وصلتني ومثن بما أوليتني ومثيب

 

 

وآخذ ما أعطيت عفواً وإنني

 

لأزور عـمـا تـــكـــرهـــين هـــيوب

فلا تـتـركـي نـفـسـي شـعـاعـاً فـإنـهــا

 

من الـحـزن قـد كـادت عـلـــيك تـــذوب

الشعر للأحوص. ومن الناس من ينسب البيت الخامس وما بعده إلى المجنون. والغناء في اللحن المختار لدحمان، وهو ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر.
وذكر الهشامي أن في الأبيات الأربعة لابن سريج لحناً من الثقيل الأول، فلا أعلم ألحن دحمان عنى أم ثقيلا آخر. وفي:

لك الله إني واصل ما وصلتني

 

ومثن بما أوليتني ومـثـيب

لإسحاق ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو. وفيها لإبراهيم خفيف رمل بالوسطى.


أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن حسن؛ قال الزبير وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري عن محرز: أن أم جعفر لما أكثر الأحوص في ذكرها جاءت منتقبة، فوقفت عليه في مجلس قومه ولا يعرفها، وكانت امرأة عفيفة؛ فقالت له: اقض ثمن الغنم التي ابتعتها مني؛ فقال: ما ابتعت منك شيئاً. فأظهرت كتاباً قد وضعته. عليه وبكت وشكت حاجة وضرا وفاقة وقالت: يا قوم، كلموه. فلامه قومه وقالوا: اقض المرأة حقها؛ فجعل يحلف أنه ما رآها قط ولا يعرفها. فكشفت وجهها وقالت: ويحك! أما تعرفني! فجعل يحلف مجتهداً أنه ما يعرفها ولا رآها قط. حتى إذا استفاض قولها وقوله واجتمع الناس وكثروا وسمعوا ما دار وكثر لغطهم وأقوالهم، قامت ثم قالت: أيها الناس، أسكتوا. ثم أقبلت عليه وقالت: يا عدو الله! صدقت، والله ما لي عليك حق ولا تعرفني، وقد حلفت على ذلك وأنت صادق، وأنا أم جعفر وأنت تقول: قلت لأم جعفر وقالت لي أم جعفر في شعرك! فخجل الأحوص وانكسر عن ذلك وبرئت عندهم.


أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير، وأخبرني به محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا ثعلب قال حدثنا الزبير عن عبد الملك بن عبد العزيز قال: أنشدت أبا السائب المخزومي قول الأحوص:

لقد منعت معروفها أم جعفر

 

وإني إلى معروفها لفقـير

فلما انتهيت إلى قوله:

أزور على أن لست أنفك كلما

 

أتيت عدواً بالبـنـان يشـير

أعجبه ذلك وطرب وقال: أتدري يا بن أخي كيف كانوا يقولون! الساعة دخل، الساعة خرج، الساعة مر، الساعة رجع، وجعل يومئ بإبهاميه إلى وراء منكبيه وبسبابته إلى حيال وجهه ويقلبها، يحكي ذهابه ورجوعه.

صاح قد لمت ظالماً

 

فانظر ان كنت لائما

هل ترى مثل ظبـية

 

قلدوها التـمـائمـا

الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء في اللحن المختار لمالك خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق.


وأخبرني ذكاء وجه الرزة أن فيه لعريب رملاً بالبنصر، وهو الذي فيه سجحة. وفيه لابن المكي خفيف ثقيل آخر بالوسطى. وزعم الهشامي أن فيه خفيف رمل بالوسطى لابن سريج، وقد سمعها ممن يغنيه.


وذكر حبش أن فيه رملاً آخر للغريض. ولعاتكة بنت شهدة فيه خفيف ثقيل، وهو من جيد صنعتها، وذكر جحظة عن أصحابه أن لحنها الرمل هو اللحن المختار، وأن إسحاق كان يقدمها ويستجيدها، ويزعم أنه أخذه عنها.


وقال ابن المعتز: حدثني أبو عبد الله الهشامي: أن عريب صنعت فيه لحنها الرمل بعد أن أفضت الخلافة إلى المعتصم، فأعجبه وأمرها أن تطرحه على جواريه، ولم أسمع بشراً قط غناه أحسن من خشف الواضحية.


وكل أخبار هؤلاء المغنين قد ذكرت، أو لها موضع تذكر فيه، إلا عاتكة بنت شهدة فإن أخبارها تذكر هاهنا؛ لأنه ليس لها شيء أعرفه من الصنعة فأذكره غير هذا.


وقد ذكر جحظة عن أصحابه أن لحنها هو المختار فوجب أن نذكر أخبارها معه أسوة غيرها.


كانت عاتكة بنت شهدة مدنية. وأنها شهدة جارية الوليد بن يزيد، وهو الصحيح. وكانت شهدة مغنية أيضاً.


حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا العلاء قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي عن بعض المغنين قال: كنا ليلة عند الرشيد ومعنا ابن جامع والموصلي وغيرهما، وعنده في تلك الليلة محمد بن داود بن إسماعيل بن علي؛ فتغنى المغنون، ثم اندفع محمد بن داود فغناه بين أضعافهم:

أم الوليد سلبتني حـلـمـي

 

وقتلتني فتخوفي إثـمـي

بالـلـه يا أم الـولـيد أمـا

 

تخشين في عواقب الظلـم

وتركتني أبغي الطبيب وما

 

لطبيبنا بالداء مـن عـلـم

خافي إلهك في ابن عمك قد

 

زودته سقما على سـقـم

قال: فاستحسن الرشيد الصوت واستحسنه جميع من حضره وطربوا له. فقال له الرشيد: يا حبيبي، لمن هذا الصوت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، سل هؤلاء المغنين لمن هو.


فقالوا: والله ما ندري، وإنه لغريب.


فقال: بحياتي لمن هو؟ فقال: وحياتك ما أدري إلا أني أخذته من شهدة جارية الوليد أم عاتكة بنت شهدة. هذا الشعر المذكور لابن قيس الرقيات، والغناء لأبن محرز، وله فيه لحنان، أحدهما ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق، والآخر خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو. وفيه لسليم خفيف رمل بالبنصر. ولحسين بن محرز ثقيل أول عن الهشامي وحبش.


أخبرني محمد بن مزيد عن حماد بن إسحاق عن أبيه: أنه ذكر عاتكة بنت شهدة يوماً فقال: كانت أضرب من رأيت بالعود؛ ولقد مكثت سبع سنين أختلف إليها في كل يوم فتضاربني ضرباً أو ضربين، ووصل إليها مني ومن أبي أكثر من ثلاثين ألف درهم بسببي: دراهم وهدايا.


أخبرني يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق قال: كانت عاتكة بنت شهدة أحسن خلق الله غناء وأرواهم، وماتت بالبصرة. وأمها شهدة نائحة من أهل مكة. وكان ابن جامع يلوذ منها بكثرة الترجيع.


فكان إذا أخذ يتزايد في غنائه قالت له: إلى أين يا أبا القاسم! ما هذا الترجيع الذي لا معنى له! عد بنا إلى معظم الغناء ودع من جنونك. فأضجرته يوماً بين يدي الرشيد فقال لها: إني أشتهي، علم الله، أن تحتك شعرتي بشعرتك. فقالت: اخسأ، قطع الله ظهرك! ولم تعد لأذاه بعدها.


أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا الزبير بن بكار قال: قال لي علي بن جعفر بن محمد: دخلت على جواري المرواني المغنيات بمكة، وعاتكة بنت شهدة تطارحهن لحنها:

يا صاحبي دعا الملامة واعلما

 

أن الهوى يدع الكرام عبـيدا

فجعلت واحدة منهن تقول: يدع الرجال عبيداً. فصاحت بها عاتكة بنت شهدة: ويلك! بندار الزيات العاض بظر أمه رجل! أفمن الكرام هو!. قال!: فكنت إذا مر بي بندار أو رأيته غلبني الضحك فأستحيى منه وآخذ بيده وأجعل ذلك بشاشة؛ حتى أورث هذا بيني وبينه مقاربة؛ فكان يقول: أبو الحسن علي بن جعفر صديق لي.
وكان مخارق مملوكاً لعاتكة، وهي علمته الغناء ووضعت يده على العود، ثم باعته؛ فانتقل من ملك رجل إلى ملك آخر حتى صار إلى الرشيد. وقد ذكر ذلك في أخباره.

ولو أن ما عند ابن بجرة عندها

 

من الخمر لم تبلل لهاتي بناطل

لعمري لأنت البيت أكرم أهله

 

وأقعد في أفيائه بـالأصـائل

عروضه من الطويل. الشعر لأبي ذؤيب الهذلي. والغناء لحكم الوادي، ولحنه المختار من الثقيل الأول بالبنصر في مجراها.


ابن بجرة هذا، فيما ذكره الأصمعي، رجل كان يبيع الخمر بالطائف، وزعم أن الناطل كوز تكال به الخمر. وقال ابن الأعرابي: ليس هذا بشيء، وزعم أن الناطل: الشيء؛ يقال: ما في الإناء ناطل، أي شيء. وقال أبو عمرو الشيباني: سمعت الأعراب يقولون: الناطل: الجرعة من الماء واللبن والنبيذ. انتهى.