ذكر أبي سفيان وأخباره ونسبه

هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. وأم حرب بن أمية بنت أبي همهمة بن عبد العزي بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. وأم أبي سفيان صفية بنت حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة، وهي عمة ميمونة أم المؤمنين وأم الفضل بنت الحارث بن حزن أم بني العباس بن عبد المطلب. وقد مضى ذكر أكثر أخبار ولد أمية والفرق بين الأعياص والعنابس منهم وجمل من أخبارهم في أول هذا الكتاب.
وكان حرب بن أمية قائد بني أمية ومن مالأهم في يوم عكاظ.


ويقال: إن سبب وفاته أن الجن قتلته وقتلت مرداس بن أبي عامر السلمي لإحراقهما شجر القرية وازدراعهما إياها. وهذا شيء قد ذكرته العرب في أشعارها وتواترت الروايات بذكره فذكرته، والله أعلم.


أخبرني الطوسي والحرمي بن أبي العلاء قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب، وأخبرنا محمد بن الحسين بن دريد عن عمه عن العباس بن هشام عن أبيه، وذكره أبو عبيدة وأبو عمرو الشيباني: أن حرب بن أمية لما انصرف من حرب عكاظ هو وإخوته مر بالقرية، وهي إذ ذاك غيضة شجر ملتف لا يرام. فقال له مرداس بن أبي عامر: أما ترى هذا الموضع؟ قال بلى. قال: نعم المزدرع هو فهل لك أن نكون شريكين فيه ونحرق هذه الغيضة ثم نزدرعه بعد ذلك؟ قال نعم. فأضرما النار في الغيضة. فلما استطارت وعلا لهبها سمع من الغيضة أنين وضجيج كثير، ثم ظهرت منها حيات بيض تطير حتى قطعتها وخرجت منها. وقال مرداس بن أبي عامر في ذلك:

إني انتخبت لها حرباً وإخوتة

 

إني بحبل وثيق العقد دساس

أني أقوم قبل الأمر حجـتـه

 

كيما يقال ولي الأمر مرداس

قال: فسمعوا هاتفاً يقول لما احترقت الغيضة:

ويل لحرب فارسا

 

مطاعناً مخالسـا

ويل لعمرو فارسا

 

إذ لبسوا القوانسا

لنقتلن بقـتـلـه

 

جحا جحاً عنابسا

ولم يلبث حرب بن أمية ومرداس بن أبي عامر أن ماتا. فأما مرداس فدفن بالقرية. ثم ادعاها بعد ذلك كليب بن أبي عهمة السلمي ثم الظفري.
فقال في ذلك عباس بن مرداس:

أكليب مالك كل يوم ظالمـاً

 

والظلم أنكد وجهه ملعـون

قد كان قومك يحسبونك سيداً

 

وإخال أنك سيد مـعـيون

المعيون: الذي أصابته العين، وقيل: المعيون: الحسن المنظر فيما تراه العين ولا عقل له

فإذا رجعت إلى نسائك فادهن

 

إن المسالم رأسه مـدهـون

وافعل بقومك ما أراد بـوائل

 

يوم الغدير سميك المطعـون

وإخال أنك سوف تلقى مثلهـا

 

في صفحتيك سنانها المسنون

إن القربة قد تبـين أمـرهـا

 

إن كان ينفع عندك التـبـين

حيث انطلقت تخطها لي ظالماً

 

وأبو يزيد بجوهـا مـدفـون

أبو يزيد: مرداس بن أبي عامر. وكان أبو سفيان سيداً من سادات قريش في الجاهلية ورأساً من رؤوس الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وكهفاً للمنافقين في أيامه، وأسلم يوم الفتح. وله في إسلامه أخبار نذكرها هنا. وكان تاجراً يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى أرض العجم. وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهدة الفتح، وفقئت عينه يوم الطائف، فلم يزل أعور إلى يوم اليرموك، ففقئت عينه الأخرى يومئذ فعمي.


أخبرنا الطوسي والحرمي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني علي بن صالح عن جدي عبد الله بن مصعب عن إسحاق بن يحيى المكي عن أبي الهيثم عمن أخبره: أنه سمع أبا سفيان يمازح رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بنته أم حبيبة ويقول: والله إن هو إلا أن تركتك فتركتك العرب فما انتطحت جماء ولا ذات قرن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ويقول: أنت تقول ذاك يا أبا حنظلة!.


قال الزبير وحدثني عمي مصعب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان وأبو سفيان يومئذ مشرك يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل له: إن محمداً قد نكح ابنتك؛ فقال: ذلك الفحل لا يقدع أنفه. واسم أم حبيبة رملة، وقيل: هند، والصحيح رملة.


أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخزاز قال حدثنا المدائني عن مسلمة بن محارب عن عثمان بن عبد الرحمن بن جوشن قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً للناس، فأبطأ بإذن أبي سفيان. فلما دخل قال: يا رسول الله، ما أذنت لي حتى كدت تأذن للحجارة. فقال له: يا أبا سفيان كل الصيد في جوف الفرا.


حدثنا محمد بن العباس قال حدثنا الخليل بن أسد النوشجاني قال حدثنا عطاء بن مصعب قال حدثني سفيان بن عيينة عن جعفر بن يحيى البرمكي قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، فكان آخر من دخل عليه أبا سفيان بن حرب. فقال: يا رسول الله، لقد أذنت للناس قبلي حتى ظننت أن حجارة الخندمة ليؤذن لها قبلي.


فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله إنك والناس لكما قال الأول: كل الصيد في بطن الفرا. أي كل شيء لهؤلاء من المنزلة فإن لك وحدك مثل مالهم كلهم.


حدثني عمر بن إسماعيل بن أبي غيلان الثقفي قال حدثنا داود بن عمرو الضبي قال حدثنا المثني بن زرعة أبو راشد عن محمد بن إسحاق قال حدثني الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن عتبة عن ابن عباس قال حدثني أبو سفيان بن حرب قال : كنا قوماً تجاراً، وكانت الحرب بيننا وبين رسول صلى الله عليه وسلم قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا. فلما كانت الهدنة هدنة الحديبية، بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت في نفر من قريش إلى الشأم، وكان وجه متجرنا منه غزة، فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من الفرس، فأخرجهم منها وانتزع منهم صليبه الأعظم وكانوا قد استلبوه إياه. فلما بلغه ذلك منهم وبلغه أن صليبه قد استنقذ منهم، وكانت حمص منزله، خرج منها يمشي على قدميه شكراً لله حين رد عليه ما رد ليصلي في بيت المقدس تبسط له البسط وتلقى عليها الرياحين. فلما انتهى، إلى إيلياء فقضى فيها صلاته وكان معه بطارقته وأشراف الروم، أصبح ذات غدوة مهموماً يقلب طرفه إلى السماء. فقال له بطارقته: والله لكأنك أصبحت الغداة مهموماً. فقال: أجل! رأيت البارحة أن ملك الختان ظاهر. فقالوا: أيها الملك، ما نعلم أمة تختتن إلا اليهود، وهم في سلطانك وتحت يدك، فابعث إلى كل من لك عليه سلطان في بلادك فمره فليضرب أعناق من تحت يدك منهم من يهود واسترح من هذا الهم. فوالله إنهم لفي ذلك من رأيهم يدبرونه إذ أتاه رسول صاحب بصرى برجل من العرب يقوده - وكانت الملوك تتهادى الأخبار بينهم - فقال: أيها الملك، إن هذا رجل من العرب من أهل الشاء والإبل يحدث عن أمر حدث فاسأله. فلما انتهى به إلى هرقل رسول صاحب بصرى، قال هرقل لمن جاء به: سله عن هذا الحديث الذي كان ببلده؛ فسأله، فقال: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي، وقد اتبعه ناس فصدقوه وخالفه آخرون، وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة، وتركتهم على ذلك.


فلما أخبره الخبر قال: جردوه فإذا هو مختون؛ فقال: هذا والله النبي الذي رأيت لا ما تقولون، أعطوه ثيابه وينطلق. ثم دعا صاحب شرطته فقال له: اقلب الشأم ظهراً لبطن حتى تأتيني برجل من قوم هذا الرجل. فإنا لبغزة إذ هجم علينا صاحب شرطته فقال: أنتم من قوم الحجاز؟ قلنا نعم. قال: انطلقوا إلى الملك، فانطلقوا بنا. فلما انتهينا إليه قال: أنتم من رهط هذا الرجل الذي بالحجاز؟ قلنا نعم. قال: فأيكم أمس به رحماً؛ قال: قلت أنا - قال أبو سفيان: وأيم الله ما رأيت رجلاً أرى أنه أنكر من ذلك الأغلف يعني هرقل - ثم قال: أدنه، فأقعدني بين يديه وأقعد أصحابي خلفي، وقال: إني سأسأله، فإن كذب فردوا عليه.


- قال: فوالله لقد علمت أن لو كذبت ما ردوا علي، ولكني كنت امرأ سيداً أتبرم عن الكذب؛ وعرفت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوه علي ثم يحدثوا به عني، فلم أكذبه - قال: أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهركم يدعي ما يدعي. فجعلت أزهد له شأنه وأصغر له أموره، وأقول له: أيها الملك، ما يهمك من شأنه! إن أمره دون ما بلغك؛ فجعل لا يلتفت إلى ذلك مني. ثم قال: أنبئني فيما أسألك عنه من شأنه. قال: قلت سل عما بدا لك. قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: محض، هو أوسطنا نسباً.


قال: أخبرني هل كان أحد في أهل بيته يقول ما يقول فهو يتشبه به؟ قال.: قلت لا. قال: هل كان له فيكم ملك فسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه؟ قال: قلت لا. قال: أخبرني عن أتباعه منكم من هم؟ قال: قلت: الضعفاء والمساكين والأحداث من الغلمان والنساء، فأما ذوو الأسنان من الأشراف من قومه فلم يتبعه منهم أحد. قال: فأخبرني عمن يتبعه أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ قال: قلت: قلما يتبعه أحد فيفارقه. قال: فأخبرني كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: قلت: سجال يدال علينا وندال عليه. قال: فأخبرني هل يغدر؟ فلم أجد شيئاً سألني عنه أغتمز فيه غيرها. قال: قلت: لا، ونحن منه في مدة ولا نأمن غدره. قال: فوالله ما التفت إليها مني. ثم كرر علي الحديث فقال: سألتك عن نسبه فيكم، فزعمت أنه محض من أوسطكم نسباً؛ فكذلك يأخذ الله النبي لا يأخذه إلا من أوسط قومه نسباً. وسألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل قوله فهو يتشبه به، فزعمت أن لا. وسألتك هل كان له ملك فيكم فسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث يطلب ملكه، فزعمت أن لا. وسألتك عن أتباعه، فزعصت أنهم الضعفاء والأحداث والمساكين والنساء، وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان. وسألتك عمن يتبعه أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه، فزعمت أنه لا يتبعه أحد فيفارقه، فكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلب رجل فتخرج منه، وسألتك عن الحرب بينكم وبينه فزعمت أنها سجال تدالون عليه ويدل عليكم، وكذلك حرب الأنبياء، ولهم تكون العاقبة. وسألتك هل يغدر، فزعمت أن لا. فلئن كنت صدقتني عنه فليغلبن علي ما تحت قدمي هاتين، ولوددت أني عنده فأغسل قدميه! انطلق لشأنك. فقمت من عنده وأنا أضرب بإحدى يدي على الأخرى وأقول: يا لعباد الله! لقد أمر أمر ابن أبي كبشة! أصبحت ملوك بني الأصفر يهابونه في ملكهم وسلطانهم.


قال ابن إسحاق: فقدم عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع دحية بن خليفة الكلبي، فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم. السلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن تتول فإن إثم الأكابر عليك ".


قال ابن شهاب: فأخبرني أسقف النصارى في زمن عبد الملك زعم أنه أدرك ذلك من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر هرقل وعقله، قال: فلما قدم عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل دحية بن خليفة، أخذه هرقل فجعله بين فخذيه وخاصرته، ثم كتب إلى رجل برومية كان يقرأ العبرانية ما تقرؤونه، فذكر له أمره ووصف له شأنه وأخبره بما جاء منه. فكتب إليه صاحب رومية: إنه النبي الذي كنا ننتظره لا شك فيه، فاتبعه وصدقه. قال: فأمر هرقل ببطارقة الروم فجمعوا له في دسكرة ملكه، وأمر بها فأغلقت عليهم أبوابها، ثم اطلع عليهم من علية وخافهم على نفسه فقال: يا معشر الروم، قد جمعتكم لخبر، أتاني كتاب هذا الرجل يدعو إلى دينه، فوالله إنه النبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا؛ فهلم فلنبايعه ولنصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا. قال: فنخرت الروم نخرة رجل واحد وابتدروا أبواب الدسكرة ليخرجوا فوجدوها وقد اغلقت دونهم. فقال: كروهم علي وخافهم على نفسه؛ فكروهم عليه. فقال: يا معشر الروم، إنما قلت لكم المقالة التي قلت لأنظر كيف صلابتكم في دينكم في هذا الأمر الذي قد حدث؛ فقد رأيت منكم الذي أسر به؛ فخروا سجداً. وأمر بأبواب الدسكرة ففتحت لهم فانطلقوا.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن زكريا الغلابي قال حدثني أبو بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس قال قال لي العباس: خرجت في تجارة إلى رجل في ركب منهم أبو سفيان بن حرب، فقدمت اليمن.


فكنت أصنع يوماً طعاماً وأنصرف بأبي سفيان وبالنقر، ويصنع أبو سفيان يوماً فيفعل مثل ذلك. فقال لي في يومي الذي كنت أصنع فيه: هل لك يا أبا الفضل أن تنصرف إلى بيتي وترسل إلى غدائك؟ فقلت: نعم.


فانصرفت أنا والنفر إلى بيته وأرسلت إلى الغداء.


فلما تغدى القوم قاموا واحتبسني فقال لي: هل علمت يا أبا الفضل أن ابن أخيك يزعم أنه رسول الله؟ قلت: وأي بني أخي؟ قال أبو سفيان: إياي تكتم وأي بني أخيك ينبغي له أن يقول هذا إلا رجل واحد! قلت: وأيهم هو على ذلك؟ قال: محمد بن عبد الله. قلت: ما فعل! قال: بلى قد فعل. ثم أخرج إلي كتاباً من ابنه حنظلة بن أبي سفيان: إني أخبرك أن محمداً قام بالأبطح غدوة فقال: أنا رسول الله أدعوكم إلى الله.


قال: قلت: يا أبا حنظلة، لعله صادق. قال: مهلاً يا أبا الفضل، فوالله ما أحب أن تقول مثل هذا، وإني لأخشى أن تكون على بصر من هذا الأمر - وقال الحسن بن علي في روايته: على بصيرة من هذا الحديث - ثم قال: يا بني عبد المطلب، إنه والله ما برحت قريش تزعم أن لكم يمنةً وشؤمةً كل واحدة منهما عامة، فنشدتك الله يا أبا الفضل هل سمعت ذلك؟ قلت نعم. قال: فهذه والله إذاً شؤمتكم. قلت: فلعلها يمنتنا. فما كان بعد ذلك إلا ليال حتى قدم عبد الله بن حذافة السهمي بالخبر وهو مؤمن، ففشا ذلك في مجالس أهل اليمن يتحدث به فيها.


وكان أبو سفيان يجلس إلى حبر من أحبار اليمن؛ فقال له اليهودي: ما هذا الخبر الذي بلغني؟ قال: هو ما سمعت. قال: أين فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال؟ قال أبو سفيان: صدقوا وأنا عمه. قال اليهودي: أأخو أبيه؟ قال نعم. قال: حدثني عنه.
قال: لا تسألني، فما كنت أحسب أن يدعي هذا الأمر أبداً، وما أحب أن أعيبه، وغيره خير منه. قال اليهودي: فليس به أذى، ولا بأس على يهود وتوراة موسى منه.


قال العباس: فتأدى إلي الخبر فحميت، وخرجت حتى أجلس إلى ذلك المجلس من غد وفيه أبو سفيان والحبر. فقلت للحبر: بلغني أنك سألت ابن عمي هذا عن رجل منا يزعم أنه رسول الله، فأخبرك أنه عمه، وليس بعمه ولكنه ابن عمه، وأنا عمه أخو أبيه.


فقال: أأخو أبيه؟ قلت: أخو أبيه.


فأقبل على أبي سفيان فقال: أصدق؟ قال: نعم صدق. قال فقلت: سلني عنه، فإن كذبت فليردد علي. فأقبل علي فقال: أنشدك الله، هل فشت لابن أخيك صبوة أو سفهة؟ قال قلت: لا وإله عبد المطلب ولا كذب ولا خان، وإن كان اسمه عند قريش الأمين. قال: فهل كتب بيده؟ قال عباس: فظننت أنه خير له أن يكتب بيده، فأردت أن أقولها، ثم ذكرت مكان أبي سفيان وأنه مكذبي وراد، علي، فقلت: لا يكتب. فذهب الحبر وترك رداءه وجعل يصيح: ذبحت يهود! قتلت يهود! قال العباس: فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان: يا أبا الفضل، إن اليهودي لفزع من ابن أخيك. قال قلت: قد رأيت ما رأيت، فهل لك يا أبا سفيان أن تؤمن به، فإن كان حقا كنت قد سبقت، وإن كان باطلاً فمعك غيرك من أكفائك؟ قال: لا والله ما أومن به حتى أرى الخيل تطلع من كداء وهو جبل بمكة. قال قلت ما تقول؟! قال: كلمة والله جاءت على فمي ما ألقيت لها بالاً، إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلاً تطلع من كداء. قال العباس: فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ونظرنا إلى الخيل قد طلعت من كداء، قلت: يا أبا سفيان، أتذكر الكلمة؟ قال لي: والله إني لذاكرها، فالحمد لله الذي هداني للإسلام.


حدثنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا البغوي قال حدثنا الغلابي أبو كريب محمد بن العلاء قال حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال حدثني الحسين بن عبيد الله بن العباس عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهراني يعني في غزاة الفتح قال العباس بن عبد المطلب وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة: يا صباح قريش! والله لئن بغتها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها لهلاك قريش آخر الدهر.


فجلس على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وقال: أخرج إلى الأراك، لعلي أرى حطاباً أو صاحب لبن أو داخلاً يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول صلى الله عليه وسلم فيستأمنونه. فوالله إني لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتجسسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعت أبا سفيان وهو يقول: والله ما رأيت كالليلة قط نيراناً. فقال بديل بن ورقاء: هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب. فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك وأذل.


فعرفت صوته فقلت: أبا حنظلة! فقال: أبا الفضل! قلت نعم؛ فقال: لبيك، فداؤك أبي وأمي! فما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين. قال: فما تأمرني؟ فقلت: تركب عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لئن ظفر بك ليضربن عنقك. فردفني فخرجت به أركض بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلما مررت بنار من نيران المسلمين فنظروا إلي قالوا: عم رسول الله على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا بنار عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - فقال: أبو سفيان! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد؛ ثم اشتد نحو النبي صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة وقد أردفت أبا سفيان - قال العباس: - حتى اقتحمت على باب القبة وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطي فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه. قلت: يا رسول الله، إني قد أجرته.


ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذت برأسه وقلت: والله لا يناجيه اليوم أحد دوني. فلما أكثر فيه عمر قلت: مهلاً يا عمر! فوالله ما تصنع هذا إلا لأنه رجل من عبد مناف، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا! قال: مهلاً يا عباس! فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم؛ وذلك لأني أعلم أن إسلامك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم.


فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب فقد أمناه حتى تغدو به علي الغداة فرجع به إلى منزله. فلما أصبح غدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إلا الله! فقال: بأبي أنت وأمي! ما أوصلك وأحلمك وأكرمك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئاً. فقال: ويحك تشهد بشهادة الحق قبل والله أن تضرب عنقك. قال: فتشهد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس من حين تشهد أبو سفيان: انصرف يا عباس فاحتبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى يمر عليه جنود الله. فقلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً يكون في قومه. فقال: نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. فخرجت به حتى أجلسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي، فمرت عليه القبائل، فجعل يقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سليم، فيقول: مالي ولسليم! ثم تمر به قبيلة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسلم، فيقول: مالي ولأسلم! وتمر به جهينة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: جهينة، فيقول: مالي ولجهينة! حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخضراء، كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، فقال: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقلت: هذا رسول صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار؛ فقال: يا أبا الفضل، لقد أصبح ابن أخيك عظيماً. فقلت: ويحك! إنها النبؤة؛ قال: نعم إذاً. فقلت الحق الآن بقومك فحذرهم.


فخرج سريعاً حتى أتى مكة فصرخ في المسجد: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بمالاً قبل لكم به. قالوا: فمه! قال: من دخل داري فهو آمن. فقالوا: ويحك ما تغني عنا دارك! قال: ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.


حدثنا محمد بن جرير وأحمد بن الجعد قالا حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عناد عن عبد الله بن الزبير قال: لما كان يوم اليرموك خلفني أبي، فأخذت فرساً له وخرجت، فرأيت جماعة من الخلفاء فيهم أبو سفيان بن حرب فوقفت معهم، فكانت الروم إذا هزمت المسلمين قال أبو سفيان: إيه بني الأصفر، فإذا كشفهم المسلمون قال أبو سفيان:

وبنو الأصفر الـكـرام مـل

 

وك الروم لم يبق منهم مذكور

فلما فتح الله على المسلمين حدثت أبي فقال: قاتله الله! يأبى إلا نفاقاً؟ أولسنا خيراً له من بني الأصفر! ثم كان يأخذ بيدي فيطوف على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حدثهم، فأحدثهم فتعجبون من نفاقه.


حدثني أحمد بن الجعد قال حدثني ابن حميد قال حدثنا جرير عن عمرو بن ثابت عن الحسن قال: دخل أبو سفيان على عثمان بعد أن كف بصره، فقال: هل علينا من عين؟ فقال له عثمان: لا. فقال: حدثني محمد بن حيان الباهلي قال حدثنا عمر بن علي الفلاش قال حدثنا سهل بن يوسف عن مالك بن مغول عن أشعث بن أبي الشعثاء عن مسيرة الهمداني عن أبي الأبجر الأكبر قال: جاء أبو سفيان إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا أبا الحسن، ما بال هذا الأمر في أضعف قريش وأقلها! فوالله لئن شئت لأملأنها عليهم خيلاً ورجلاً.


فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أبا سفيان، طالما عاديت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فما ضرهم ذلك شيئاً، إنا وجدنا أبا بكر لها أهلاً.


أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال أنشدني ابن عائشة لأبي سفيان بن حرب لما ولي أبو بكر قال:

وأضحت قريش بعد عز ومنـعة

 

خضوعاً لتيم لا بضرب القواضب

فيا لهف نفسي للذي ظفرت بـه

 

وما زال منها فائزاً بالـرغـائب

وحدثني أحمد بن الجعد قال حدثني محمد بن حميد قال حدثنا جرير عن عمرو بن ثابت عن الحسن قال: لما ولي عثمان الخلافة، دخل عليه أبو سفيان فقال: يا معشر بني أمية، إن الخلافة صارت في تيم وعدي حتى طمعت فيها، وقد صارت إليكم قتلقفوها بينكم تلقف الكرة، فوالله ما من جنة ولا نار - هذا أو نحوه - فصاح به عثمان: قم عني فعل الله بك وفعل. ولأبي سفيان أخبار من هذا الجنس ونحوه كثيرة يطول ذكرها، وفيما ذكرت منها مقنع.


والأبيات التي فيها الغناء يقولها في سلام بن مشكم اليهودي ويكنى أبا غنم، وكان نزل عليه في غزوة السويق، فقراه وأحسن ضيافته. فقال أبو سفيان فيه:

سقاني فرواني كميتـاً مـدامة

 

على ظمأ مني سلام بن مشكيم

تخيرته أهل الـمـدينة واحـداً

 

سواهم فلم أغبن ولـم أتـنـدم

فلما تقضي الليل قلت ولم أكـن

 

لأفرحه أبشر بعرف ومغـنـم

وإن أبـا غـنـم يجـود وداره

 

بيثرب مأوى كل أبيض خضرم

ذكر الخبر عن غزوة السويق

 ونزول أبي سفيان على سلام بن مشكمكانت هذه الغزاة بعد وقعة بدر. وذلك أن أبا سفيان نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة ولا يشرب خمراً حتى يغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرج في عدة من قومه ولم يصنع شيئاً فعيرته قريش بذلك وقالوا: إنما خرجتم تشربون السويق فسميت غزوة السويق حدثنا محمد بن جرير، قرأته عليه، قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير ويزيد بن رومان عن عبيد الله بن كعب بن مالك - وكان من أعلم الأنصار - قال: كان أبو سفيان حين رجع إلى مكة ورجع قبل قريش من بدر، نذر الأ يمس ماء من جنابة حتى يغزو محمداً صلى الله عليه وسلم. فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر يمينه، فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له تيت من المدينة على بريد أو نحوه ثم خرج من الليل حتى أتى بني النضير تحت الليل، فأتى حيي بن أخطب بيثرب فدق عليه بابه فأبى أن يفتح له وخافه؛ وانصرف إلى سلام بن مشكم - وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم فاستأذن عليه فأذن له، فقراه وسقاه ونظر له خبر الناس.


ثم خرج في عقب ليلته حتى جاء أصحابه؛ فبعث رجالاً من قريش إلى المدينة، فأتوا ناحية منها يقال لها العريض، فحرقوا في أصوار من نخل لها، أتوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين.


فنذر بهم الناس؛ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم انصرف راجعاً وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، وقد رأوا من مزاود القوم ما قد طرحوه في الحرث يتخففون منه للنجاء.


فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنطمع أن تكون غزوة، قال نعم. وقد كان أبو سفيان قال وهو يتجهز خارجاً من مكة إلى المدينة أبياتاً من شعر يحرض فيها قريشاً فقال:

كروا على يثرب وجمعهـم

 

فإن ما جمعوا لكم نـفـل

إن يك يوم القليب كان لهـم

 

فإن ما بعـده لـكـم دول

آليت لا أقرب النسـاء ولا

 

يمس رأسي وجلدي الغسل

حتى تبيدوا قبائل الأوس وال

 

خزرج إن الفؤاد مشتعـل

فأجابه كعب بن مالك:

يا لهف أم المسبحين عـلـى

 

جيش ابن حرب بالحرة الفشل

أتطرحون الرجال من سنم ال

 

ظهر ترقى في قنة الجـبـل

جاءوا بجمع لو قيس منزلـه

 

ما كان إلا كمعـرس الـدئل

عار من النصر والثراء ومـن

 

نجدة أهل البطحاء والأسـل

أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا سليمان بن سعد عن الواقدي: أن غزوة السويق كانت في ذي القعدة من سنة ثنتين من الهجرة.


حدثني عمي قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا ابن سعد عن الواقدي عن أبي الزناد عن عبد الله بن الحارث قال: شرب حسان بن ثابت يوماً مع سلام بن مشكم، وكان. له نديماً، معهم كعب بن أسد وعبد الله بن أبي وقيس بن الخطيم؛ فأسرع الشراب فيهم وكانوا في موادعة وقد وضعت الحرب أوزارها بينهم. فقال قيس بن الخطيم لحسان: تعال أشاربك؛ فتشاربا في إناء عظيم فأبقى حسان من الإناء شيئاً؛ فقال له قيس: اشرب. فقال حسان وعرف الشر في وجهه: أو خيراً من ذلك أجعل لك الغلبة. قال: لا! إلا أن تشربه؛ فأبى حسان. وقال له سلام بن مشكم: يا أبا يزيد، لا تكرهه على ما لا يشتهي، إنما دعوته لإكرامه ولم تدعه لتسخف به وتسيء مجالسته. فقال له قيس: أفتدعوني أنت على أن تسيء مجالستي! فقال له سلام: ما في هذا سوء مجالسة، وما حملت عليك إلا لأنك مني وأني حليفك، وليست عليك غضاضة في هذا، وهذا رجل من الخزرج قد أكرمته وأدخلته منزلي؛ فيجب أن تكرم لي من أكرمته. ولعمري إن في الصحو لما تكتفون به من حروبكم؛ فافترقوا. وآلى سلام بن مشكم على نفسه ألا، يشرب سنة؛ وقد بلغ هذا من نديمه وكان كريماً.

من مبلغ عني أبا كـامـل

 

أني إذا ما غاب كالهامـل

قد زادني شوقاً إلى قربـه

 

مع ما بدا من رأيه الفاضل

الشعر للوليد بن يزيد. والغناء لأبي كامل. ولحنه المختار من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق.

وذكر حبش أن لأبي كامل فيه أيضاً لحناً من خفيف الثقيل الثاني بالوسطى. انتهى الجزء السادس من كتاب الأغاني ويليه الجزء السابع وأوله. أخبار الوليد بن يزيد ونسبه .