الغناء العربي في العصر الجاهلي

عرف العرب الغناء أول ما عرفوه حداءً لدواع كثيرة. فالعربي في الجاهلية يكد ويكدح طلبا للرزق. ومن أجل البقاء كان عليه أن يقضي معظم حياته مرتحلاً غير مقيم. وإن أقام في مكان حينا فسرعان ما يرحل عنه، إما فراراً من عدو أو التماساً للمرعى أو الماء أو نحو ذلك. فكان في تنقلاته ورحلاته على ناقته في مسالك الصحراء الموحشة لا يجد في الصحراء شيئا يأنس به. فهو يغني ليهون على نفسه مشاق الطريق وعناء السفر. وهو يغني ليسري عن ناقته المتعبة ويستحثها على المسير.

كل ذلك على، ما به من سعة الخيال وحدّة العواطف، شكّل دوافع حافزة له إلى التغني بالشعر في صحرائه ومجالسه ومنتدياته الشائعة في أمهات القرى، كمكة والمدينة وخيبر ووادي القرى ودومة جندل واليمامة، بالإضافة لأسواق العرب ومجامعهم.

كان الغناء في الجاهلية على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج.

فأما "النصب" فغناء المسافرين وغناء الفتيان، ومنه كان أصل الحداء كله. وأما "السناد" فهو الغناء الثقيل ذو الترجيع، الكثير من النغمات والنبرات، وهو على ست طرق: الثقيل الأول وخفيفه، والثقيل الثاني وخفيفه، والرمل وخفيفه. وأما "الهزج" فالخفيف الذي يرقص عليه ويمشى بالدف والمزمار، فيطرب ويستخف العقول ويثير القلوب.

يقول صاحب "إنسان العيون": "إن مضراً كان من أحسن الناس صوتا، وهو أول من حدا للإبل، فإنه وقع فانكسرت إليه الإبل من مرعاها: أي لأن الحداء مما ينشط الإبل لا سيما إن كان بصوت حسن، فإنها عند سماعها تمد أعناقها لتصغي إلى الحادي وتسرع في سيرها وتستخف الأحمال الثقيلة، فربما قطعت المسافة في زمن قصير وربما أخذت ثلاثة أيام في يوم واحد".