الغناء العربي في العصر الأموي

ما إن حل العصر الأموي حتى شاع الغناء. فقد شغف العرب به كثيراً على اختلاف طبقاتهم وبيئاتهم. لهذا تعددت مراكزه وتنوعت مدارسه وانتشرت دوره ومجالسه ومنتدياته. وكان أكثر المشتغلين والمشتغلات به من أصل فارسي.

ولعل بيئة الحجاز إبان هذا العصر كانت أكثر البيئات العربية التي ازدهر فيها الغناء، ثم انطلقت منها إلى مواطن أخرى. فكان للغناء بمكة مدرسة من رجالها:
ابن مسجح وابن محرز وابن سريج والغريض وابن مشعب والهذلي النقاش، وعبادل بن عطية وخليل بن عمرو. ومن مغنياتها: سلامة القس وأختها ريا وخليدة المكية وعقيلة العفيفية وربيحة موليات بن شماس والمعروفات بالشماسيات.

كان للغناء مدرسة أخرى بالمدينة من رجالها:
سائب خائر، معبد بن وهب، ابن عائشة، طويس، مالك بن أبي السمح، هيت، طريف، حبيب نؤم الضحى، برد الفؤاد، بديح المليح، نافع وعطرّد وابن صاحب الوضوء، الدلال، الأبحر، البردان، قند. ومن المغنيات: عزة الميلاء، جميلة، حبابة، بصبص، فرعة، بلبلة ولذة العيش. وكان في وادي القرى مدرسة ثالثة من رجالها: حكم الوادي، يعقوب الوادي، سليمان، خليد بن عتيك وعمر الوادي الذي كان يقول: "ربما ترنمت بالصوت وأنا غرثان فيشبعني فيؤنسني وكسلان فينشطني".

هذا عن أهم مدارس الغناء بالحجاز وأشهر مغنيها ومغنياتها في العصر الأموي. أما خارج الحجاز فلم يكن للغناء شأن يذكر إلا في بيئتي العراق والشام. ومع ذلك فلم يبلغ في هذين الإقليمين ما بلغه في الحجاز من شهرة واستضافة وأصالة.

ففي
العراق أيام الأمويين ظهر في الغناء حنين. أما في الشام عاصمة الدولة الإسلامية، فلم يظهر فيها مغنون في العصر الأموي اللهم إلا أبو كامل الغزيل الدمشقي مولى الوليد بن يزيد. فقد كان مغنيا محسنا وطيبا مضحكا. كان يغني في قصر الوليد فيطرب له. وغناه ذات يوم لحنا لابن سريج فطرب وخلع عليه حتى قلنسية وشيٍ مذهبة كانت على رأسه.

يؤرخ
الجاحظ موقف خلفاء الأمويين من الغناء فيقول: "كان الخلفاء الأوَل يستمعون في أوقات فراغهم لقصائد الشعراء، ولم يلبث الغناء أن حل محل الشعر. فكان معاوية وعبد الملك والوليد وسليمان وهشام ومروان بن محمد لا يظهرون للندماء والمغنين، بل كان بينهم حجاب، حتى لا يطلع الندماء على ما يفعله الخليفة إذا طرب. فقد تأخذ نشوة الطرب بلبه فيقوم بحركات لا يطلع عليها إلا خواص جواريه". وإذا ارتفع من خلف الستارة صوت أو حركة غريبة، صاح صاحب الستارة: "حسبك يا جارية! كفي! أقصري!" موهما الندماء أن الفاعل لتلك الحركات هو بعض الجواري.

وكان بعض خلفاء بني أمية يظهرون للندماء والمغنين، ولا يحفلون بإتيان حركات تثيرها نشوة الطرب في نفوسهم. وكان يزيد بن عبد الملك يبالغ في المجون بحضرة الندماء، كما سوى بين الطبقة العليا والسفلى، وأذن للندماء في الكلام والضحك والهزل في مجلسه. فلم يتورعوا في الرد عليه، وحذا حذوه في ذلك الوليد بن يزيد.

ومن الخلفاء الأمويين الذين اشتهروا باللهو والشراب وحب الغناء يزيد بن معاوية. فقد كان صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب. ومما أثر عنه أنه جلس ذات يوم على شرابه، وعن يمينه ابن زياد، ذلك بعد مقتل الحسين فأقبل على ساقيه وقال:

اسقني شربة تروي مشاشي ثم مل فاسق مثلها ابن زياد
صاحب السر والأمانة عندي ولتسديد مغنمي وجهادي

ثم أمر المغنين فغنوا به.. وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة واستعملت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب.

الحق أن الغناء العربي قد تطور كثيرا بعد الإسلام بفعل ما أدخل عليه من ألحان الفرس والروم، وكذلك بفعل العوامل الجديدة التي طرأت على المجتمع الحجازي خاصة وأثرت في نفوس أهله عامة.

 



الجاحظ