خبر ورقاء بن زهير

ونسبه وقصة شعره هذا:

هو ورقاء بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان، يقول لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة ، أباها زهير بن جذيمة .؟ وكان السبب في ذلك فيما أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر قالا حدثنا عمر بن شبة، ونسخت بعض هذا الخبر عن الأثرم ورواية ابن الكلبي، وأضفت بعض الروايات إلى بعض إلا ما أفردته وجلبته عن راويه. قال أبو عبيدة حدثني عبد الحميد بن عبد الواحد بن عاصم بن عبد الله بن رافع بن مالك بن عبد بن جلهمة ابن حداق بن يربوع بن سعد بن تغلب بن سعد بن عوف بن جلان بن غنم بن أعصر، قال حدثني أبي عبد الواحد وعمي صفوان ابنا عاصم عن أبيهما عاصم بن عبد الله عمن أدرك شأس بن زهير. قال: كان مولد عاصم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عاصم جاهلياً. قال: وقال عبد الحميد حدثني سيار بن عمرو أحد بني عبيد بن سعد بن عوف بن جلان بن غنم قال أبو عبيدة: وكان أعلم غنيٍ عن شيوخهم: مقتل شأس بن زهير أخيه والبحث عن قاتله ثم محاولة الثأر منه: أن شأس بن زهير بن جذيمة أقبل من عند ملك قال أبو عبيدة: أراه النعمان وكان بينه وبين زهير صهر قال أبو عبيدة: ثم حدثني مرة أخرى قال: كانت ابنة زهير عنده فأقبل شأس بن وهير من عنده وقد حباه أفضل الحبوة مسكاً وكساً وقطفاً وطنافس، فأناخ ناقته في يوم شمالٍ وقرٍعلى ردهةٍ في جبلٍ ورياح بن الأسك أحد بني رباع بن عبيد بن سعد بن عوف بن رجلان على الردهة ليس غير بيته بالجبل؛ فأنشأ شأس يغتسل بين الناقة والبيت؛ فاستدبره رياح فأوى بسهم فبتر به صلبه. قال أبو عبيدة وحدثني رجل يخيل إلي أنه أبو يحيى الغنوي قال: ورد شأس وقد حباه الملك بحبوةٍ فيها قطيفة حمراء ذات هدب وطيب، فورد منعجاً وعليه خباء ملقىً لرياح بن الأسك فيه أهله في الظهيرة؛ فألقى ثيابه بفنائه ثم قعد يهرقي عليه الماء، والمرأة قريبة منه يعني امرأة رياح فإذا هو مثل الثور البيض. فقال رياح لامرأته: أنطيني قوسي؛ فمدت إليه قوسه وسهماً، وانتزعت المرأة نصله لئلا يقتله؛ فأهوى عجلان إليه فوضع السهم في مستدق الصلب بين فقارتين ففصلهما، وخر ساقطاً؛ وحفر له حفراً فهدمه عليه، ونحر جمله وأكله. قال: وقال عبد الحميد: أكل ركوبته وأولج متاعه بيته. وقال عبد الحميد: وفقد شأس وقص أثره ونشد، وركبوا إلى الملك فسألوه عن حاله. فقال لهم الملك: حبوته وسرحته. فقالوا: وما متعته به؟ قال: مسك وكساً ونطوع وقطف. فأقبلوا يقصون أثره فلم تتضح لهم سبيله. فمكثوا كذلك ما شاء الله، لا أدري كم، حتى رأوا امرأة رياحٍ باعت بعكاظ قطيفة حمراء أو بعض ما كان من حباء الملك. فعرفت وتيقنوا أن رياحاً ثأرهم. قال أبو عبيدة: وزعم الآخر قال: نشد زهير بن جذيمة الناس، فانقطع ذكره على منعج وسط غني، ثم أصابت الناس جاءحة وجوع، فنحر زهير ناقة ، فأعطى امرأة شطيها فقال: اشترى لي الهدب والطيب. فخرجت بذلك الشحم والسنام تبيعه حتى دفعت إلى امرأة رياح، فقالت: إن معي شحماً أبيعه في الهدب والطيب؛ فاشترت المرأة منها. فأتت المرأة زهيراً بذلك، فعرف الهدب، فأتى زهير غنياً، فقالوا: نعم! قتله رياح بن الأسك، ونحن برءاء منه. وقد لحق بخاله من بني الطماح وبني أسد بن خزيمة، فكان يكون الليل عنده ويظهر في أبان يريم الأروى ؛ إلى أن أصبح ذات يوم وهو عنده وعبس تريغه . فركب خاله جملاً وجعله على كفلٍ وراءه. فبينا هو كذلك إذ دنت، فقالوا : هذه خيل عبس تطلبك. فطمر في قاع شجر فحفر في أصل سوقه. ولقيت الخيل خاله فقالوا: هل كان معك أحد؟ قال: لا. فقالوا: ما هذا المركب زراءك؟ لتخبرنا أو لنقتلنك! قال: لا كذب، هو رياح في ذلك القاع. فلما دنوا منه قال الحصينان: يا بني عبسٍ دعونا وثأرنا، فخنسوا عنهما. فأخذ رياح نعلين من سبتٍ فصيرهما على صدره حيال كبده، ونادى: هذا غزالكما الذي تبغيان. فحمل عليه أحدهما فطعنه، فأزالت النعل الرمح إلى حيث شاكلته، ورماه رياح مولياً فجذم صلبه. قال: ثم جاء الآخر فطعنه فلم يغن شيئاً، ورماه مولياً فصرعه. فقالت عبس: أين تذهبون إلى هذا! والله ليقتلن منكم عدد مراميه، وقد جرحاه فسيموت. قال: وأخذ رياح رمحيهما وسلبيهما وخرج حتى سند إلى أبان. فأتته عجوز وهو يستدمي على الحوض ليشرب منه وقالت: استأسر تحي، فقال: جنبيني حتى أشرب. قال فأبت ولم تنته. فلما غلبته أخذ مشقصاً وكنع به كرسوعي يديها. قال فقال عبد الحميد: فلما استبان لزهير بن جذيمة أن رياحاً ثأره قال يرثي شأساً: رثاء زهير بن جذيمة لابنه شأس:

بكيت لشأسٍ حـين خـبـرت أنـه

 

بماء غنيٍ آخر الـلـيل يسـلـب

لقد كان مأتاه الـرداه لـحـتـفـه

 

وما كان لولا غرة اللـيل يغـلـب

فتيلٍ غنيٍ ليس شكل كـشـكـلـه

 

كذاك لعمري الحين للمرء يجلـب

سأبكي عليه إن بكـيت بـعـبـرةٍ

 

وحق لشأسٍ عبرة حين تسـكـب

وحزن علـيه مـا حـييت وعـولة

 

على مثل ضوء البدر أو هو أعجب

إذا سيم ضيماً كان للضيم منـكـراً

 

وكان لدي الهيجاء يخشى ويرهـب

وإن صوت الداعي إلى الخير مـرةً

 

أجاب لما يدعو له حـين يكـرب

ففـرج عـنـه ثـم كـان ولـيه

 

فقلبي عليه لو بدا القلب ملـهـب

وقال زهير بن جذيمة حين قتل شأس: شأس وما شأس !والبأس وما البأس! لولا مقتل شأس، لم يكن بيننا بأس. قال: ثم انصرف إلى قومه، فكان لا يقدر على غنويٍ إلا قتله .


قال عبد الحميد: فغزت بنوعبسٍ غنياً قبل أن يطلبوا قوداً أو ديةً مع أخي شأس الحصين بن زهير بن جذيمة والحصين بن أسيد بن جذيمة ابن أخي زهير. فقيل ذلك لغني؛ فقالت لرياح: انج، لعلنا نصالح على شيء أو نرضيهم بدية أو فداء. فخرج رياح رديفاً لرجل من بني كلاب وزعم أبو حية النميري أنه من بني جعد وكان معهما صفيحة فيها آراب لحمٍ، لا يريان إلا أنهما قد خالفا وجهة القوم، فأرجفا أيديهما في الصحيفة فأخذ كل واخذ منهما وذرةً ليأكلها، مترادفين لا يقدران على النزول. قال: فمر فوق رؤوسهما صرد فصرصر، فألقيا اللحم وأمسكا بأيديهما وقالا: ما هذا! ثم عادا إلى مثل ذلك فأخذ كل واحد منهما عظماً، ومر الصرد فوق رؤوسهما فصرصر؛ فألقيا العظمين وأمسكا بأيديهما وقالا: ما هذا! ثم عادا الثالثة فأخذ كل واحد منهما قطعة، فمر الصرد فوق رؤوسهما فصرصر، فألقيا القطعتين ؛ حتى فعلا ذلك ثلاث مرات، فإذا هما بالقوم أدنى ظلمٍ وأدنى ظلمٍ أي أدنى شيء، وقد كانا يظنان أنهما قد خالفا وجهة القوم. فقال صاحبه لرياح: اذهب فإني آتي القوم أشاغلهم عنك وأحدثهم حتى تعجزهم ثم ماضٍ إن تركوني. فانحدر رياح عن عجز الجمل فأخذ أدراجه وعدا أثر الراحلة حتى أتى ضفة فاحتفر تحتها مثل مكان الأرنب فولج فيه، ثم أخذ نعليه فجعل إحداهما على سرته والأخرى على صفنه ثم شد عليهما العمامة، ومضى صاحبه حتى لقي القوم، فسألوه فحدثهم وقال: هذه غني كاملة وقد دنوت منهم، فصدقوه وخلوا سربه . فلما ولى رأوا مركب الرجل خلفه، فقالوا: من الذي كان خلفك؟ فقال: لا مكذبة! ذلك رياح في الأوائل من السمرات. فقال الحصينان لمن معهما: قفوا علينا حتى نعلم علمه فقد أمكننا الله من ثأرنا، ولم يريدا أن يشركهما فيه أحد، فمضيا ووقف القوم عنهما. قالوا قال رياح: فإذا هما ينقلان فرسيهما، فما زالا يريغاني، فابتدراني فرميت الأول فبترت صلبه، وطعنني الأخر قبل أن أرميه وأراد السرة فأصاب الربلة ، ومر الفرس يهوي به، فاستدبرته بسهم فرشقت به صلبه فانفقر منحنى الأوصال، وقد بترت صلبيهما. قال أبو عبيدة قال أبو حية: بل قال رياح: استدبرته بسهم وقد خرجت قدمه فقطعتها، فكأنما نشرت بمنشار. قال عبد الحميد: وند فرساهما فلحقا بالقوم. قال رياح: فأخذت رمحيهما فخرجت بهما حتى أتيت رملةً فسندت فغرزت الرمحين فيها ثم انحدرت. قال: وطلبه القوم، حتى إذا رفع لهم الرمحان لم يقربوهما علم الله حتى وجدوا أثر رياح خارجاً قد فات. وانطلق رياح خارجاً حتى ورد ردهةً عليها بيت أنمار بن بغيض وفيه امرأة ولها ابنان قريبان منها وجمل راتع في الجبل، وقد مات رياح عطشاً. فلما رأته يستدمي طمعت فيه ورجت أن يأتيها ابناها، فقالت له: استأسر. فقال لها: دعيني ويحك أشرب، فأبت. فأخذ حديدة إما سكيناً وإما مشقصاً فجذم به رواهشها فماتت، وعب في الماء حتى نهل ثم توجه إلى قومه. فقال رياح فيها وفي الحصينين:

قالت لي استأسر لتكتفـنـي

 

حيناً ويعلو قولها قـولـي

ولأنت أجرأ من أسـامة أو

 

مني غداة وقفت للـخـيل

إذ الحصين لدى الحصين كما

 

عدل الرجازة جانب المـيل

قال الأثرم: الرجازة شيء يكون مع المرأة في هودجها، فإذا هو مال أحد الجانبين وضعته في الناحية الأخرى ليعتدل. قال أبو عبيدة: يعني حصين بن زهير بن جذيمة، وحصين بن أسيد بن جذيمة وهو ابن عمه .

قال أبو عبيدة قال عبد الحميد: والله لقد سمعت هذا الحديث على ما حدثتك به منذ ستين سنة قال عبد الحميد: وما سمعت أن بني عبس أدركوا بواحد منهم ولا اقتادوا ولا أنذروا، ولا سمعت فيه من الشعر لنا ولا لغيرنا في الجاهلية بأكثر مما أنشدتك. وإلى هذا انتهى حديثنا وحديثه، ولا والله ما قتل خالد بن جعفر زهير بن جذيمة في حربنا، غير أن الكميت بن زيدٍ الأسدي، وكانت له أمان من غني، ذكر من مقتل أخواله من غني في بني عبسٍ ومن قتلوا من بني نمير بن عامر في كلمةٍ له واحدة؛ فلعله لهذا الحديث قالها وذكر إدراكاتهم وذكر قتل شبيب بن سالم النميري، فقال في ذلك:

أنا ابن غني والـداي كـلاهـمـا

 

لأمين فيهم في الفروع وفي الأصل

هم استودعوا هوى شبيب بن سالـمٍ

 

وهم عدلوا بين الحصينين بالنـبـل

وهم قتلوا شأس الملوك ورغـمـوا

 

أباه زهيراً بالـمـذلة والـثـكـل

فما أدركت فيهم جـذيمة وتـرهـا

 

بما قودٍ يوماً لـديهـا ولا عـقـل

قال أبو عبيدة: فذكر عبد الحميد أنه أتى عليهم هنيئة من الدهر لا أدري كم وقت ذلك بعد انصرام أمر شأس. قال: فما زادوا على هذا فهو باطل. قال الأثرم: هبيئة من الدهر وهنيهة وبرهة وحقبة بمعنى الدهر .

مقتل زهير بن جذيمة العبسي

قتله خالد بن جعفر وتعظيم هوازن له: قتله خالد بن جعفر بن كلاب. قال أبو عبيدة قال أبو حية النميري: كان بين انصراف حديث شأس وحديث قتل خالد بن جعفرٍ زهير بن جذيمة ما بين العشرين سنةً إلى الثلاثين سنةً. قال أبو عبيدة: وهوازن بن منصور لا ترى زهير بن جذيمة إلا رباً . قال: وهوازن يومئذٍ لا خير فيها؛ ولم تكثر عامر بن صعصعة بعد، فهم أذل من يدٍ في رحمٍ ،وإنما هم رعاء الشاء في الجبال. قال: وكان زهير يعشرهم ، وكان إذا كان أيام عكاظ أتاها زهير ويأتيها الناس من كل وجه، فتأتيه هوازن بالإتاوة التي كانت له في أعناقهم فيأتونه بالسمن والأقط والغنم؛ وذلك بعد ما خلع ذلك من أبي الجناد أخي بني أسيدٍ بن عمرو بن تميم. ثم إذا تفرق الناس عن عكاظ نزل زهير بالنفرات .


حلف خالد أن يقتله وشعره في ذلك: قال أبو عبيدة عن عبد الحميد وأبي حية النميري قالا: فأتته عجوز رهيش من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وقال أبو حية: بل أتته عجوز من هوازن بسمن في نحيٍ، واعتذرت إليه وشكت السنين التي تتابعن على الناس. فذاقه فلم يرض طعمه، فدعها بقوس في يده عطلٍ في صدرها، فاستلقت لحلاوة القفا فبدت عورتها؛ فغضب من ذلك هوازن وحقدت عليه إلى ما كان في صدرها من الغيظ والدمن وأوحرها من الحسك . قال: وقد أمرت عامر بن صعصعة يومئذٍ؛ فآلى خالد بن جعفر فقال: والله لأجعلن ذراعي وراء عنقه حتى أقتل أو يقتل. قال: وفي ذلك يقول خالد بن جعفر بن كلاب:

أديروني إدارتـكـم فـإنـي

 

وحذفة كالشجا تحت الـوريد

مقـربة أسـويهـا بـجـزءٍ

 

وألحفها ردائي في الجـلـيد

وأوصي الراعيين ليؤثـراهـا

 

لها لبن الخلية والـصـعـود

تراها في الغزاة هن شعـث

 

كقلب العاج في الرسغ الجديد

يبيت رباطها باللـيل كـفـي

 

على عود الحشيش وغير عود

لعل الله يمكننـي عـلـيهـا

 

جهاراً من زهـيرٍ أو أسـيد

فإما تثقفوني فاقـتـلـونـي

 

فمن أثقف فليس إلى الخلـود

وقيس في المعارك غادرتـه

 

قناتي في فوارس كالأسـود

ويربوع بن غـيظٍ يوم سـاقٍ

 

تركناهـم كـجـارية وبـيد

تركت بها نساء بني عـصـيمٍ

 

أرامل ما تحـن إلـى ولـيد

يلذن بحارثٍ جزعـاً عـلـيه

 

يقلن لحارثٍ لـولا تـسـود

ومني بالظويلـم قـارعـات

 

تبيد المـخـزيات ولا تـبـيد

وحكت بركها ببني جـحـاشٍ

 

وقد أجروا إليها من بـعـيد

تركت ابني جذيمة في مكـرٍ

 

ونصراً قد تركت لها شهودي

وصف مقتله وما كان قبله من حوادث: قال أبو عبيدة وحدثني أبو سرار الغنوي قال: كان زهير رجلاً عدوساً ، فانتقل من قومه ببنيه وبني أخويه زنباع وأسيدٍ بركبةٍ يريغ الغيث في عشرواتٍ له وشولٍ. قال: وبنو عامر قريب منهم ولا يشعر بهم. قال عبد الحميد وأبو حية: بل بنو عامر بدمخٍ وزهير بالنفرات وبينهم ليلتان أو ثلاث. قال فقال أبو سرار: فأتى الحارث بني عامر، والله ما تغير طعم اللبن الذي زوده الحارث بن عمرو بن الشريد السلمي حتى أتى بني عامر فأخبرهم. قال أبو عبيدة أخبرني سليمان بن المزاحم المازني عن أبيه قال: بل كانت بنو عامر بالجريئة وزهير بالنفرات، وكانت تماضر بنت عمرو بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفافٍ السلمي امرأة زهير بن جذيمة وهي أم ولده. فمر بها أخوها الحارث بن عمرو. فقال زهير لبنيه: إن هذا الحمار لطليعة عليكم فأوثقوه. فقالت أخته لبنيها: أيزوركم خالكم فتوثقوه وتحرموه! فخلوه. فقالت تماضر لأخيها الحارث: إنه ليريبني اكبئنانك وقروبك، فلا يأخذن فيك ما قال زهير؛ فإنه رجل بيذارة غيذارة شنوءة . قال: ثم حلبوا له وطباً وأخذوا منه يميناً ألا يخبر عنهم ولا ينذر به أحداً. قال أبو عبيدة: وزعم أبو حية النميري أنه لما أتوه بقراهم أراهم أنه يشربه في الظلمة وجعل يهوي به إلى جيبه فيصبه بين سرباله وصدره أسفاً وغيظاً. قال: وكان الذي حلب له الوطب وقراه الحارث بن زهير، وبه سمي. قال: فخرج يطير حتى أتى عامراً عند ناديهم، فأتى حاذةً أو شجرةً غيرها فألقى الوطب تحتها والقوم ينظرون، ثم قال: أيتها الشجرة الذليلة اشربي من هذا اللبن فانظري ما طعمه. فقال أهل المجلس: هذا رجل مأخوذ عليه عهد وهو يخبركم خبراً. فأتوه فإذا هو الحارث بن عمرو، وذاقوا اللبن فإذا هو حلو لم يقرص بعد، فقالوا: إنه ليخبرنا أن طلبنا قريب. فركب معه ستة فوارس لينظروا ما الخبر، وهم خالد بن جعفر بن كلابٍ على حذفة، وحندج بن البكاء، ومعاوية بن عبادة بن عقيل فارس الهرار وهو الأخيل جد ليلى الأخيلية قال: والأخيل هو معاوية، قال: وهو يومئذٍ غلام له ذؤابتان، وكان أصغر من ركب ثلاثة فوارس من سائر بني عامر؛ فاقتصوا أثر السير، حتى إذا رأوا إبل بني جذيمة نزلوا عن الخيل. فقالت النساء: إنا لنرى حرجةً من عضاهٍ أو غابة رماح بمكان لم نكن نرى به شيئاً، ثم راحت الرعاء فأخبروا بمثل ما للنساء. قال: وأخبرت راعية أسيد بن جذيمة أسيداً بمثل ذلك؛ فأتى أسيد أخاه زهيراً فأخبره بما أخبرته به الراعية وقال: إنما رأت الخيل بني عامر ورماحها. فقال زهير: كل أزب نفور فذهبت مثلاً؛ وكان أسيد كثير الشعر خناسياً وأين بنو عامر! أما بنو كلاب فكالحية إن تركتها تركتك، وإن وطئتها عضتك. وأما بنو كعبٍ فإنهم يصيدون اللأي يريد الثور الوحشي . وأما بنو نمير فإنهم يرعون إبلهم في رؤوس الجبال. وأما بنو هلالٍ فيبيعون العطر. قال: فتحمل عامة بني رواحة، وآلي زهير لا يبرح مكانه حتى يصبح. وتحمل من كان معه غير ابنيه ورقاء والحارث . قال: وكان لزهير ربيئة من الجن فحدثه ببعض أمرهم حتى أصبح، وكانت له مظلة حتى أصبح، وكانت له مظلة دوجٍ يربط فيها أفراسه لا تريمه حذراً من الحوادث. قال: فلما أصبح صهلت فرس منها حين أحست بالخيل وهي القعساء. فقال زهير: ما لها؟ فقال ربيئته: أحست الخيل فصهلت إليهن. فلم تؤذنهم بهم إلا والخيل دوائس محاضير بالقوم غديةً. فقال أنهم أهل اليمن: يا أسيد ما هؤلاء الذين تعمي حديثهم منذ الليلة. قال: وركب أسيد فمضى ناجياً. قال: ووثب زهير وكان شيخاً نبيلاً فتدثر القعساء فرسه، وهو يومئذٍ شيخ قد بدن وهو يومئذٍ عقوق متهم، واعرورى ورقاء والحارث ابناه فرسيهما، ثم خالفوا جهة مالهم ليعموا على بني عامر مكان مالهم فلا يأخذوه. فهتف هاتف من بني عامر: يا ليحامر يريد يحامر وهو شعار لأهل اليمن لأن يعمي على الجذميين من القوم. فقال زهير: هذه اليمن، قد علمت أنها أهل اليمن! وقال لابنه ورقاء: انظر يا ورقاء ما ترى؟ قال ورقاء: أرى فارساً على شقراء يجهدها ويكدها بالسوط قد ألح عليها يعني خالداً . فقال زهير: شيئاً ما يريد السوط إلى الشقراء، فذهبت مثلاً، وقال في المرة الثانية: شيئاً ما يطلب السوط على الشقراء، وهي حذفة فرس خالد بن جعفر، والفارس خالد بن جعفر. قال: وكانت الشقراء من خيل غني. قال: وتمردت القعساء بزهير؛ وجعل خالد يقول: لا نجوت إن نجا مجدع يعني زهيراً . فلما تمعطت القعساء بزهير ولم تتلعق بها حذفة، قال خالد لمعاوية الأخيل بن عبادة وكان على الهرار حصان أعوج : أدرك معاوي، فأدرك معاوية زهيراً، وجعل ابناه ورقاء والحارث يوطشان عنه أي عن أبيهما . قال فقال خالد: اطعن يا معاوية في نساها، فطعن إحدى رجليها فانخذلت القعساء بعض الانخذال وهي في ذلك تمعط. فقال زهير: اطعن الأخرى، يكيده بذلك لكي تستوي رجلاها فتحامل . فناداه خالد: يا معاوية أفد طعنتك أي اطعن مكاناً واحداً فشعشع الرمح في رجلها فانخذلت. قال: ولحقه خالد على حذقة فجعل يده وراء عنق زهير، فاستخف به عن الفرس حتى قلبه، وخر خالد فوقع فوقه، ورفع المغفر عن رأس زهير وقال: يا لعامرٍ اقتلونا معاً! فعرفوا أنهم بنو عامر. فقال ورقاء: وا انقطاع ظهراه! إنها لبنو عامر! سائر اليوم. وقال غيره: فقال بعض بني جذيمة: وا انقطاع ظهري !. قال: ولحق حندج بن البكاء وقد حسر خالد المغفر عن رأس زهير فقال: نح رأسك يا أبا جزءٍ، لم يحن يومك فنحى خالد رأسه وضرب حندج رأس زهير، وضرب ورقاء بن زهير رأس خالدٍ بالسيف وعليه درعان، وكان أسجر العينين، ازب أقمر، مثل الفالج، فلم يغن شيئاً. قال: وأجهض ابنا زهيرٍ القوم عن زهير فانتزعاه مرتثاً. فقال خالد حين استنقذ زهيراً ابناه. والهفتاه! قد كنت أظن أن هذا المخرج سيسعكم ! ولام حندجاً. فقال حندج وكان لجلالته غصة إذا تكلم. السيف حديد، والساعة شديد، وقد ضربته ورجلاي متمكنتان في الركابين وسمعت السيف قال قب حين وقع برأسه، ورأيت على ظبته مثل ثمر المرار، وذقته فكان حلواً. فقال خالد: قتلته بأبي أنت !. ونظر بنو زهير فإذا الضربة قد بلغت الدماغ. ونهي بنو زهير أن يسقوا أباهم الماء، فاستسقاهم فمنعوه حتى نهك عطشاً. قال: وذلك أن المأموم يخاف عليه الماء، حتى بلغ منه العطش، فجعل يهتف: أميت أنا عطشاً . وينادي: يا ورقاء قال أبو حية: فجعل ينادي يا شأس فلما رأوا ذلك سقوه فمات لثالثةٍ. فقال ورقاء بن زهير:

رأيت زهيراً تحت كلكل خـالـدٍ

 

فأقبلت أسعى كالعجـول أبـادر

إلى بطلين ينهضـان كـلاهـمـا

 

يريغان نصل السيف والسيف نادر

فشلت يميني إذ ضربت ابن جعفرٍ

 

وأحرزه مني الحديد المظـاهـر

قال أبو عبيدة: وسمعت أبا عمرو بن العلاء ينشد هذا البيت فيها:

وشلت يميني يوم أضرب خالداً

 

وشل بناناها وشل الخناصـر

قال أبو عبيدة: وأنشدني أبو سرار أيضاً فيها:

فيا ليتني من قبل أيام خالـدٍ

 

ويوم زهيرٍ لم تلدني تماضر

تماضر بنت عمرو بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف السلمي امرأة زهير بن جذيمة. قال أبو عبيدة: أنشدني أبو سرار فيها:

لعمري لقد بشرت بي إذ ولدتني

 

فماذا الذي ردت عليك البشائر

شعر لخالد بن جعفر يمن على هوازن بقتله زهير: وقال خالد بن جعفر يمن على هوازن بقتله زهيراً ويصدق الحديث قال أبو عبيدة أنشدنيه مالك بن عامر بن عبد الله بن بشر بن عامر ملاعب الآسنة:

بل كيف تكفرني هوازن بعدما

 

أعتقتهم فتـوالـدوا أحـرارا

وقتلت ربهم زهيراً بعـدمـا

 

جدع الأنوف وأكثر الأوتـارا

وجعلت حزن بلادهم وجبالهم

 

أرضاً فضاءً سهلةً وعشـارا

وجعلت مهر بناتهم ودمائهـم

 

عقل الملوك هجائناً أبكـارا

قال أبو عبيدة: ألا ترى أنه ذكر في شعره أن زهيراً كان ربهم وقد كان جدعهم، وأنه قتله من أجلهم لا من أجل غني، وأن غنياً ليسوا من ذلك في ذكرٍ ولا لهم فيه معنًى .
شعر لورقاء بن زهير: قال: وقال ورقاء بن زهير:

أما كلاب فإنا نسـالـمـهـا

 

حتى يسالم ذئب الثلة الراعي

بنو جذيمة حاموا حول سيدهم

 

إلا أسيداً نجا إذ ثوب الداعي

شعر للفرزدق ينعي فيه على بني عبس ضربة ورقاء خالداً: قال: ثم نعى الفرزدق على بني عبس ضربة ورقاء خالداً، واعتذر بها إلى سليمان بن عبد الملك فقال:

إن يك سيف خان أو قدر أبـى

 

لتأخير نفسٍ حتفها غير شاهـد

فسيف بني عبسٍ وقد ضربوا به

 

نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد

كذاك سيوف الهند تنبو ظباتهـا

 

وتقطع أحياناً منـاط الـقـلائد

ولو شئت قد السيف ما بين عنقه

 

إلى علقٍ تحت الشراسيف جامد

قال: وكان ضلع بني عبسٍ مع جرير، فقال الفرزدق فيهم هذه الأبيات. هذه رواية أبي عبيدة .


وأما الأصمعي فإنه ذكر، فيما رواه الأثرم عنه، قال حدثني غير واحد من الأعراب أن سبب مقتل زهير العبسي أن ابنه شأس بن زهير وفد إلى بعض الملوك فرجع ومعه حباء قد حبي به، فمر بأبياتٍ من بني عامر بن صعصعة وأبياتٍ من بني غني على ماء لبني عامرٍ أو غيرهم الشك من الأصمعي . قال: فاغتسل، فناداه الغنوي: استتر فلم يحفل بما قال. فقال: استتر ويحك! البيوت بين يديك؛ فلم يحفل. فرماه الغنوي رياح بن الأسك بسهم أو فقتله والحي خلوف ، فاتبعه أصحاب شأس وهم في عدة، فركب الفلاة واتبعوه فرهقوه ، فقتل حصيناً وأخاه حصيناً، ثم نجا على وجهه حتى أدركه العطش، فلجأ إلى منزل عجوز من بني إنسان وبنو إنسان حي من بني جشم . فقالت له العجوز: لا تبرح حتى يأتي بني فيأسروك. قال الأصمعي: فأخبرني مخبران اختلفا؛ فقال أحدهما: إنه أخذ سكيناً فقطع عصبتي يديها، وقال الآخر: أخذ حجراً فشدخ به رأسها، ثم أنشأ يقول:

ولأنت أشجع مـن أسـامة أو

 

مني غداة وقفـت لـلـخـيل

إذ الحصين لدى الحصين كمـا

 

عدل الرجازة جانب الـمـيل

وإذا أنهنهـهـا لأفـتـلـهـا

 

جاشت ليغلب قولها على قولي

قال: فضرب للزمان ضربانه ، فالتقى خالد بن جعفر بن كلاب وزهير بن جذيمة العبسي. فقال خالد لزهير: أما آن لك أن تشتفي وتكف؟ قال الأصمعي: يعني مما قتل بشأس قال: فأغلظ له زهير وحقره. قال الأصمعي: وأخبرني طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب أن ذلك الكلام بينهما كان بعكاظ عند قريش. فلما حقره زهير وسبه قال خالد: عسى إن كان! يتهدده ثم قال: اللهم أمكن يدي هذه الشقراء القصيرة من عنق زهير بن جذيمة ثم أعني عليه. فقال زهير: اللهم أمكن يدي هذه البيضاء الطويلة من عنق خالد ثم خل بيننا. فقال قريش: هلكت والله يا زهير !. فقال: إنكم والله الذين لا علم لكم . قال الأصمعي: ثم نرجع إلى حديث العبسيين والعامريين، وبعضه من حديث أبي عمرو بن العلاء. قال: فجاء أخو امرأته فاطمة بنت الشريد السلمية، وهي أم قيس بن زهير، وكان زهير قد أساء إليهم في شيء فجاء أخوها إلى بني عامرٍ فقال: هل لكم في زهير بن جذيمة ينتج إبله ليس معه أحد غير أخيه أسيد بن جذيمة وعبدٍ راعٍ لإبله! وجئتكم من عنده، وهذا لبن حلبوه لي. فذاقوه فإذا هو ليس بحازر ، فعلموا أنه قريب. فخرج حندج بن البكاء وخالد ابن جعفر ومعاوية بن عبادة بن عقيل، ، ليس على أحدهم درع غير خالد كانت عليه درع أعاره إياها عمرو بن يربوع الغنوي، وكانت درع ابن الأجلح المرادي كان قتله فأخذها منه، وكان يقال لها ذات الأزمة. وإنما سميت بذلك لأنها كانت لها عرى تعلق فضولها بها إذا أراد أن يشمرها. قال: فطلعوا. فقال أسيد بن جذيمة قال الأصمعي: وكان أسيد شيخاً كبيراً، وكان كثير شعر الوجه والجسد أتيت ورب الكعبة. فقال زهير: كل أزب نفور، فذهبت مثلاً. فلم يشعر بهم زهير إلا في سواد الليل، فركب فرسه ثم وجهها فلحقه قوم أحدهم حندج أو العقيلي واختلفوا فيهما فطعن فخذ الفرس طعنة خفيفة، ثم أراد أن يطعن الرجل الصحيحة، فناداه خالد: يا فلان لا تفعل فيستويا، أقبل على السقيمة. قال: فطعنها فانخذلت الفرس فأدركوه. فلما أدركوه رمى بنفسه، وعانقه خالد فقال: اقتلوني ومجدعاً! فجاء حندج وكان أعجم اللسان فقال لخالد وهو فوق زهير: نح رأسك يا أبا جزءٍ، فنحى رأسه فضرب حندج زهيراً ضربةً على دهشٍ، ثم ركبوا وتركوه. قال فقال خالد: ويحك يا حندج ما صنعت؟ فقال ساعدي شديد، وسيفي حديد، وضربته ضربة فقال السيف قب، وخرج عليه مثل ثمرة المرار، فطعمته فوجدته حلواً يعني دماغه . قال: إن كنت صدقت فقد قتلته. قال: فجاء قوم زهيرٍ فاحتملوه ومنعوه الماء كراهة أن يبتل دماغه فيموت. فقال: يا آل غطفان أأموت عطشاً! فسقي فمات، وذلك بعد أيام. ففي ذلك يقول ورقاء بن زهيرٍ وكان قد ضرب خالداً ضربةً فلم يصنع شيئاً، فقال:

رأيت زهيراً تحت كلكل خـالـدٍ

 

فأقبلت أسعى كالعجـول أبـادر

إلى بطلين ينهضان كـلاهـمـا

 

يريدان نصل السيف والسيف نادر

قال الأصمعي: فضرب الدهر من ضربانه إلى أن التقى خالد بن جعفر والحارث بن ظالم .